أقلام حرة

"صرخة أمّهات" في زمن اعتقال الشهداء في فلسطين

التاريخ الثلاثاء 01 نوفمبر 2022 م، المكان مدينة نابلس، فلسطين المحتلّة، الساعة العاشرة بتوقيت نابلس، الحادية عشر بتوقيت مكة المكرّمة. التاسعة بتوقيت الجزائر والقمّة العربيّة. العاشرة بتوقيت القدس الرابعة صباحا بتوقيت مجلس الأمن، والتاسعة صباحا بتوقيت بروكسل... سيّدات فلسطينيّات، فحلات، من أمهات الشهداء، المعتقلة جثامينهم في دولة الكيان الصهيوني، في وقفة احتجاجية أمام مقر الصليب الأحمر الدولي، بالضفة الغربيّة من أرض فلسطين، للمطالبة بالإفراج عن الجثث المعتقلة. تحت شعار " صرخة أمّهات ".

إسرائيل تعتقل جثث الشهداء الفلسطينيين. عجبا لهذا الكيان المصطنع، الشاذ عن الأعراف الإنسانيّة. هل أصبح الإنسان الفلسطيني يخيف عدوّه الصهيوني حيّا وميّتا ؟ وبالمقابل، عجبا لأمّة المليار، التي عجزت عن تحرير جثامين الشهداء، بعدما عجزت عن تحرير الأحياء ؟ هل أمست غثاء كغثاء السيل، لا نفع فيها ؟

تقول الرواية العباسيّة، أنّ الروم اعتدوا على المسلين في مدينة زبطرة، وامتدّت أيديهم الآثمة إلى النساء للنيل من شرفهنّ، غير أنّ امرأة زبطريّة، حرّة، مسلمة، استغاثت بالخليفة المعتصم بالله في بغداد، وصرخت " وامعتصماه ".

وبلغت استغاثتها الخليفة المعتصم بالله، وهو في مجلسه ببغداد، فعزم – ونعم العزم عزمه – تسيير خميس من الجيش الجرار، للانتقام لتلك المرأة المستغيثة، ولشرف المسلمين والمسلمات في عرض الأرض وطولها، وردّ كيد الروم إلى نحورهم، وفتح مديتهم المحصّنة بالجيوش والأسوار. لكنّ المنجّمين – كذب المنجّمون ولو صدقوا – زعموا أن النجوم أخبرتهم، أن عموريّة لا يمكن فتحها إلا إذا نضج التين والعنب - غير أنّه أنضج جلودهم قبل نضج التين والعنب - وأنّ سيره لفتحها قبل ذلك، عواقبه الهزيمة والانكسار.

لكنّ الخليفة المعتصم بالله، المؤمن بالقضاء والقدر، المتوكّل على الله (يا أيّها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم، ويثبّت أقدامكم / محمد / 7) (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم / آل عمران / 126) (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. الأنفال / 17).

كذّب المنجمين، ورمى أقوالهم في مزبلة التاريخ. وحقّق النصر المبين، رغم جحافل الروم وكثرة عتادهم.

رمى بك الله برجيها فهدّمها ولو رمى بك غير الله لم يصب

تدبير معتصم بالله منتقم لَّهِ مُرتَقِبٍ في اللَهِ مُرتَغِب

تِسعونَ أَلفاً كَآسادِ الشَرى نَضِجَت جُلودُهُم قَبلَ نُضجِ التينِ وَالعِنَب

فتح الخليفة المعتصم بالله عموريّة بالسيف والحكمة، لا بالقول والتنديد والشجب والاحتجاج والشكاوي إلى مجلس الأقوياء، كما يفعل عرب القرن الواح والعشرين ومسلميه. وهكذا تحقّق النصر المبين على قدر عزائم الرجال، كما قال أبو الطيّب أحمد بن الحسين المتنبّي في وصف معركة الحدث الحمراء، ومدح سيف الدولة الحمداني :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم.. وتأتي على أهل الكرام المكارم

و تعظم في عين الصغير صغارها.. وتصغر في عين العظيم العظائم

لقد صغرت، في عين الخليفة المعتصم بالله، تلك الملحمة البطوليّة. كما صغرت معركة الحدث الحمراء في عين سيف الدولة الحمداني. لم يخذل تلك المرأة المسلمة، ولم يرم صرختها واستغاثتها وراء ظهره. ولم يهب جيوش الروم، ولا شعر – لحظة – بالخوف والرعب والجبن أمام التضحية والفداء.

قال أبو تمام مخلّدا تلك الملحمة الرائعة:

السيف أصدق إنباء مـــــــن الكتب   في حدّه، الحد بين الجدّ واللعب

بيض الصفائح، لا سود الصحائف   في متونهنّ جلاء الشكّ والريّب

والعلم في شهب الأرماح لامعة    بين الخميسين، لا في السبعة الشهب.

وفي القرن الواحد والعشرين، وقد بلغ تعداد الأمّة الإسلاميّة من الأبدان البشريّة، أكثر من مليار، باتت فلسفة الاحتجاج والتنديد والعجز وإدارة الخدود والأنوف لصفعات العدو ولطماته، تدرّس للأجيال الصاعدة نحو الأسفل. وعجزت هذه الأمّة عن نصرة بضعة أمهات في الضفة الغربيّة، خرجن عن بكرة آبائهنّ، يطالبن بتسليمهن جثامين شهداء المسجد الأقصى، وفلسطين كلّها، قضوا نحبهم دفاعا عن أمّة المليار نسمة، وآلاف التريليونات من أموال النفط والغاز.

أين يكمن العجز يا ترى؟ لماذا عجزت هذه الأمّة الغنيّة بشبابها وثرواتها الطاهرة والباطنة عن استلهام البطولة واقتباس الرجولة والعزائم والمكارم من رسولها الكريم، محمد، صلى الله عليه وسلّم، ومن الخليفة المعتصم بالله، ومن القائد صلاح الدين الأيوبي ومن فاتح القسطنطينيّة محمد الفاتح، ووفاتح الأندلس طارق بن زياد، ومن أبطال السلف الصالح في مغرب الأرض ومشرقها ؟ سؤال طويل ومحيّر، لكن إجابته قصيرة وعجيبة، وخلاصتها، في كلمات، هي حب الدنيا وترفها ولهوها وشهواتها ومناصبها.. قال تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتّبعوا الشهوات./ سورة مريم / 59.) أجل،(لقد نسوا الله، فأنساهم أنفسهم) وقطعوا صلتهم الإيمانيّة بالله، واعتصموا بملذات الدنيا وبريقها، وألقوا بالآخرة وراء ظهورهم...

ما أكثر مجالس العرب والمسلمين واجتماعاتهم. ولكنّهم يلتقون لتبادل التهم والعتاب والنمائم والشتائم. كلٌ يعنّي على ليلاه، ولبناه، وعزّاه، وولاداته. أمّا فلسطين الأسيرة منذ أكثر من نصف قرن، فلم تجد سوى " صرخة أمهات " في نابلس، يطالبن العالم المعاصر، المتقدّم، بنصرتهنّ. ويتوسلن إلى أحرار العالم وعبيده، و(حماة حقوق الإنسان) في الغرب والشرق، للإفراج عن جثامين شهدائهن الأبرار.

آه، أيها الخليفة المعتصم بالله، أيها الحاضر، الغائب، كم من امرأة استغاثت بعدك بمن بعدك. ولكنّ استغاثتها ضاعت في وادي السراب. بلغت عتبة الأسماع، ولم تبلغ القلوب، فقد وجدتها صمّاء بكماء، منشغلة، وغارقة في اللهو واللغو.

أين الرجال الأحرار الذين اشتروا الاخرة بالدنيا؟ لماذا لم تحرّك وقفة نابلس " صرخة أمّهات"، وغيرها من الصرخات " وين العرب، وين العرب" نخوة الرجال؟ أم أنهم اسود على المنابر، ونعامات في الميادين؟

ألف تحيّة لك، أيها المرأة الفلسطينيّة المجاهدة، الصامدة، الثائرة، من أرض الأبطال والشهداء والشهيدات ؛ حسيبة بن بوعلي، وريدة مداد، فضيلة سعدان. من أرض الجميلات ؛ جميلة بوحيرد، جميلة....... ألف تحية لك، يا من جعلوك عوراء، ووصموك بالنقصان في عقلك ودينك.

ها أنت تغسلين أوجه أشباه الرجال، عفوا أشباه الذكور، من أدران الخزي والعار، في زمن (الأبقار الضاحكة)، و(الأحمرة المستحصنة).

سلام عليك، أيتها الفلسطينية المرابطة في القدس ونابلس وغزة ويافا وحيفا والناصرة، وفي كلّ شبر من أرض المعراج. أبثها لك من أرض ملايين الشهداء. سيأتيك المدد يوما من قمم الأطلس والأوراس، كما جاء المدد لزبطرة وعمّوريّة من بغداد، عاصمة التضحيّة والحكمة والسلام.

***

بقلم الناقد والروائي : علي فضيل العربي – الجزائر

 

في المثقف اليوم