أقلام حرة

المتسولَ الأخرسْ وأبطالٌ منْ ورقٍ!!

في أثناءِ ثورةِ ينايرَ ازدحمَ المشهدُ بالنخبِ والساسةِ منْ كلِ الإتجهاتْ، وتصارعَ الكلَ في تجميلِ صورتهِ، أنهمْ كانوا جميعا ضحايايُ النظامَ، بما فيهمْ منْ عملٍ معَ النظامِ سرا وعلنيةً " وخرجَ علينا منْ قدمَ استقالتهُ على الهواءِ أثناء الأحداث في الميادين، منْ التنظيمِ السياسيِ للنظامِ، فقدْ عاشتْ الجماهيرَ العربيةَ البسيطةَ الحلمَ الجميلَ، واستيقظتْ منْ كابوسٍ على الواقعِ المرِ، للأننا لمْ نتعلمْ جميعا معنى كلمةِ الوطنيةِ لدينا الأنانيةُ " الأنا والأنا العليا " فالكلّ وضع صورِ الجماهيرِ في الميادينِ خلفَ صورتهِ واستعرضَ أمامَ البرامجِ " التوكْ شو " أنهُ القائدُ والمنقذُ والثوريَ والملهمَ ' ' لمْ نتعلمْ شيئا حتى منْ أعدائنا ' وبدأَ الكلُ يستعرضُ عضلاتهِ أمامَ شاشاتِ التلفزةِ. وبدأتْ وصلاتٌ منْ الردحِ والبطولاتِ الوهميةِ، وتركوا الميادينَ للصراعِ على السلطةِ والكراسيِ، والوعودُ كلُ يومِ ارفعْ رأسكَ يا أخي ولمْ يعلموا أنَ السقفَ لهُ سيفٌ سيقطعُ كلَ الرؤوسِ، وأنَ الثورةَ الفرنسيةَ ظلتْ 70 عاما حتى حكمتْ، وأنَ مزاجَ الشعوبِ مزاج متغيرٍ حسبَ الواقعِ فقبلَ شهورَ وقفِ الشعبِ الفرنسيِ أمامَ القصرِ الملكيِ في عيدِ جلوسِ الملكِ يعطي التحيةَ ويحتفلُ بجلوسهِ على العرشِ وبعدَ قيامِ الثورةِ بشهورِ وقفِ الشعبِ يهتفُ في نفسِ الميدانِ بإعدامِ الملكِ، لقدْ كثرتْ البطولاتُ الوهميةُ أمامَ قصةٍ حقيقيةٍ لرجلٍ ظهرَ في شوارعَ بيروت الغربيةِ أثناءَ الحربِ الأهليةِ وكانَ يتنقلُ في بعضِ شوارعَ بيروت متسول، رث الثيابِ، كريه الرائحةِ، وسخُ الوجهِ واليدينِ حافي القدمينِ، أشعث شعرَ الرأسُ واللحيةُ، وهوَ فوقَ ذلكَ أبكمُ (أخرس)، لمْ يكنْ يملكُ ذلكَ (المتسولَ الأخرسْ) سوى معطفْ طويلٍ أسودَ بائسٍ ممزقٍ قذرٍ يلبسهُ صيفا وشتاءً ؛ وكانَ بعضُ أهلِ بيروت يتصدقونَ على ذلكَ (المتسولَ الأخرسْ)، وكانَ عفيفٌ النفسِ إلى حدٍ كبيرٍ، وكانَ دائمٌ البسمةِ، مشرقُ الوجهِ، مؤدبا لطيفا معَ الصغيرِ والكبيرِ. لمْ يكنْ لهُ اسمٌ يعرفُ بهِ سوى: الأخرسْ... لمْ يشتكِ منهُ أحد، فلا آذى إنسانا، ولا اعتدى على أحدٍ، ولا تعرض لامرأةٍ، ولا امتدتْ يدهُ إلى مالِ غيرهِ، ولا دخل إلى بناءٍ لينامَ فيهِ، فقدْ كانَ يفترشُ الأرضَ، ويلتحفَ السماءَ. سنواتٌ كانتْ الحربُ الأهليةُ الطاحنةُ ما زالتْ مشتعلةً، وكانَ الحديثُ عنْ ظروفِ الاجتياحِ. ودخلَ الجيشُ الإسرائيليُ بيروت، واجتاحها، وعانى أهلُ بيروت منْ القصفِ الوحشيِ والقنصِ المخيفِ والقذائفِ المدمرةِ، واستغرقَ ذلكَ عدةَ أشهرٍ، بينما كانَ (المتسولُ الأخرسْ) غيرُ عابئٍ بكلِ ما يجري حولهُ، وكأنهُ يعيشُ في عالمٍ آخرَ. ولأنَ الحربَ تشبهُ يومَ القيامةِ { لكلِ امرئٍ منهمْ يومئذٍ شأنٌ يغنيهِ} فلمْ ينفعْ تنبيهُ بعضِ الناسِ (للمتسولِ الأخرسْ) عنْ خطورةِ وصولِ الجيشِ الإسرائيليِ إلى تلكَ الشوارعِ والأزقةِ التي كانَ يتجولُ فيها وينامُ على قارعتها في بيروت الغربيةِ. ومعَ اشتدادِ ضراوةِ الحربِ ووصولِ طلائعِ الجيشِ الإسرائيليِ إلى بيروت الغربيةِ يئسَ الناسُ منْ (المتسولَ الأخرسْ)، فتركوهُ لشأنهِ، ووقف بعضهمْ عندَ زوايا الطرقِ وأبوابِ الأبنيةِ يراقبونَ مصيرهُ. وتقدمتْ جحافلُ الجيشِ الإسرائيليِ واقتربتْ منْ (المتسولَ الأخرسْ) عربةً عسكريةً مصفحةً تابعةً للمهماتِ الخاصةِ، وترجلَ منها ثلاثةُ ضباطٍ، واحدا برتبةَ مقدمٍ، واثنانِ برتبة نقيبٍ، ومعهمْ خمسةُ جنودٍ، ومنْ ورائهمْ عدةُ عرباتٍ مدججةٍ بالعتادِ، مليئةً بالجنودِ. كانتْ المجموعةُ التي اقتربتْ منْ المتسولِ _ الأخرسْ يحملونَ بنادقهمْ المذخرة بالرصاصِ، ويضعونَ أصابعهمْ على الزنادِ، وهمْ يتلفتونَ بحذرِ شديدٍ. كانَ الجوُ رهيبا، مليئا بالرعبِ، والمكانُ مليءٌ بالجثثِ والقتلِ ورائحةِ الدمِ، ودخانَ البارودِ تنبعثُ منْ كلِ مكانٍ. تقدموا جميعا منْ (المتسولَ الأخرسْ)، وهوَ مستلقٍ على الأرضِ، غيرَ مبالٍ بكلِ ما يجري حولهُ، وكأنهُ يستمعُ إلى سيمفونيةِ بيتهوفنْ (القدرُ يقرعُ البابُ). وعندما صاروا على بعدَ خطوتينِ منهُ انتصبَ قائما، ورفعَ رأسهِ إلى الأعلى كمنَ يستقبلُ الموتُ سعيدا، رفعُ المقدمِ الإسرائيليِ يدهُ نحوَ رأسهِ، وأدى التحيةَ العسكريةَ (للمتسولِ الأخرسْ)، قائلاً بالعبريةِ: باسمِ جيشِ الدفاعِ الإسرائيليِ أحييكمْ سيدي الكولونيل العقيدَ وأشكركمْ على تفانيكمْ في خدمةِ إسرائيلَ، فلولاكمْ ما دخلنا بيروت! رد (المتسولَ الأخرسْ) التحيةِ بمثلها بهدوء، وعلى وجههِ ذاتِ البسمةِ اللطيفةِ، وقالَ مازحا بالعبريةِ: [ لقدْ تأخرتمْ قليلاً، وصعدَ العربةَ العسكريةَ المصفحةَ وتحركتْ العربةُ المصفحةُ وخلفها ثلاث عرباتِ مرافقةٍ، تاركةً في المكانِ كلَ أنواعِ الصدمةِ والذهولِ، وأطنانا منْ الأسئلةِ، كانَ بعضُ المثقفينَ الفلسطينيينَ ممنْ يتقنونَ العبريةُ قريبينَ منْ المكانِ، وكانوا يسمعونَ الحوارُ، وقدْ ترجموا الحوارُ، لكنهمْ عجزوا عنْ ترجمةِ وجوهِ الناسِ المصدومةِ منْ أهالي تلكَ الأحياءِ البيروتيةِ التي عاشَ فيها الجاسوسُ الإسرائيليُ المتسولُ الأخرسْ سنواتٍ ليعلمنا هذا الجاسوسِ كيفَ نعيشُ منْ أجلِ إسعادِ وأمنِ الآخرينَ، ويعلمَ كلُ العربِ التضحيةِ منْ أجلِ شعبِ بإرادتهِ سنواتٌ على الأرصفةِ متسول. وكريةُ الرائحةِ وقدْ اعترفتْ السيدةُ (لأفي) التي تولتْ حقيبةَ الخارجيةِ في إسرائيلَ أنها مارسهُ علاقاتٍ غيرَ شرعيةٍ معَ أمراءَ ومسئولينَ عربٍ وساسةٍ منْ أجلِ المصلحةِ العليا لإسرائيل أثناءَ ماكنتْ تعملَ مربيةً في فرنسا وإنجلترا في بيوتِ ساسةِ عربٍ. أثناءَ عملها في جهازِ الموساد وبررتْ ذلكَ منْ فتوى لحاخامٍ إسرائيليٍ لمصلحةِ الوطنِ ؛ وللأسفِ في أخطرِ مرحلةٍ منْ الحراكِ الثوريِ تناحرنا معَ بعضِ وأصبحنا مثل قبائلَ الأوسْ والخزرجْ نقاتل بعضنا منْ شارعٍ إلى شارعٍ لنعيشَ سنواتِ " التيهِ " باسمٍ الوطنيةِ المزيفةِ منْ قبلٌ أمراءِ الحربِ في سوريا واليمنِ وليبيا ومنْ تجارِ النهبِ والسرقةِ والخرابِ في بلدانِ الخريفِ العربيِ الذي تساقطَ أوراقهُ قبلَ دخولهِ مبيت شتويٍ طويلٍ!! "

***

بقلمً: محمدْ سعدْ عبدِ اللطيفْ - مصرَ

كاتبٌ وباحثٌ مصريٌ في الجيوسياسيةِ

 

في المثقف اليوم