أقلام حرة

أطلقوا سراح الكلمة

"في البدء كان الكلمة"، وعقبها الصراع الإنساني الذي سعى، ولا يزال، إلى تملك هذه الكلمة والهيمنة عليها، ومن ثم، بدأت تظهر بوادر الجشع البشري، والأنانية والفردانية المتوحشتين، فلم يكن من الإنسان إلا أن يحتكر الكلام، ويتسيد به على أخيه الإنسان؛ لأنه المسيطر تفطن باكرا إلى قوة القول وسلطته على النفوس. فبدأ الصراع الإنساني يحتكر تأويل النصوص، وسن القوانين التي تخدم مصلحته، والنتيجة أنه خلق "حقيقة" وفصلّها على مقاسه ومصلحته.

ولأن الضعفاء المقموعين لا يملكون إلا الكلام، فإن المسيطر ما فتئ يجردهم منه، ويفرض قيودا مجحفة وقاسية على كل من تملك هذا الكلام، وعبر عن "حقيقته" التي تخالف "حقيقة" المهيمن. ذلك أن الضعيف يعي أن الكلام سلاحه، وبه يستطيع إنزال المسيطر من برجه العاجي وعليائه.

بيد أن توالي الأيام أجهز على حرية الكلام إجهازا تاما، حتى باتت الكلمة نذرَ سوءٍ على صاحبها، وأضحى من يملكها خطرا كبيرا لا بد من مناهضته، ومحاربته بكل أشكال التعذيب والقمع المباح، إلى أن غدا كل من تكلم ملعونا، ولعنته تُورثه العقوبات والعذاب.

نحس، معشر الفقراء، بالظلم والحيف، وتُهضم حقوقنا في واضحة النهار، وتتقطع أوصالنا جوعا، ونختار الصمت تورعا وتقية، ولكن قساوة الحياة، وشظف القلوب وجشعها، جعلانا نتلفظ بما يعتمل في أنفسنا، ونمجُّ الأوجاعَ الحارقةَ التي تأكل دواخلنا. فتكون النتيجة قمعا غليظا، وسجنا ونفيا وتشريدا.

لقد وعينا أن كلمتنا سلاحنا، ومفتاح نجاحنا في لقمة العيش الكريمة، وتحقيق عدالة اجتماعية وسياسية واقتصادية، عدالة تذيب كل الفوارق الاجتماعية الطبقية، وتَبْذُرُ السلمَ والاستقرارَ الاجتماعيَّ في كيان المجتمع.

لذلك، تألمنا لحال فقرائنا، وتوجعنا لأوجاعهم، وصرخنا لصرخاتهم، وبكينا لبكائهم، وقسينا مغبة صمتنا وصمتهم، فكانتِ الحالُ أوضاعا اجتماعية مزرية، وبطونا فارغة خاوية، وباتتِ الكلمةُ لعنةً تَسودُ سحنةَ صاحبِها، وقيودا وأغلالا تطوق عنقه، فتكون سببا لعذابه وأوجاعه.

تحسّسْنا أوجاعَ شعبنا، وأنصتنا إلى شكواه المكرورة، ونداءاته المؤلمة، واستنجاده الطويل، ولكننا، معشر المثقفين، اخترنا الصمت على الأصوات الصاخبة، والعمى على المشاهد البشرية الدامية، والنوم على الأمعاء الخاوية التي يدغدغها الجوعُ والسهادُ الدائمان المتلازمان.

يا معشر المثقفين!

إن بلادنا تعاني أوجاعا قاتلة، وأمراضا مزمنةً لما تغادر ترابنا بعد.. إن الأوضاعَ الاجتماعيةَ والثقافيةَ تدمي القلبَ، وتبكي العينَ. فحكومتنا لا تسمعُ صُراخَنا ونداءَنا، ولا تولي اهتماما ولا اعتبارا لبكائنا ودموعنا الهطّالة.

إن حكومتنا الرشيدة تعيش في برج عاجٍ، وشعبنا المكلوم يعاني الأمرين، ويصارعُ الفقرَ المتفشيَّ، وينادي بالصحة الإنسانية، والكرامة والعدالة الاجتماعية.. والتعليم العمومي الاجتماعي الذي يَبني الفردَ والمجتمعَ، ويسهم في استقرار الأفراد والبلاد.

فمواطنُنَا المغربيُّ لم يعد يريد مسكنات، ولا تفاهات وخرافات تفرغه مما تبقى من إنسانيته وكرامته. إنه يريد عقارا يشفي جروحه، ويشعره بقيمته كإنسان يستأهل العيش والوجود.

إنه يريد أناسا صادقين، تُحركهم خدمةُ الوطنِ والمواطنِ، والارتقاء بهما إلى مراتب الحرية والكرامة الإنسانية. ولا يريد أناسا يبيعونه الوهم والكذب.

إن محنةَ هذا الشعبِ مسؤوليةُ الجميعِ، ولا سبيلَ إلى شفائه وإنقاذه دون رد الاعتبار للكلمة الصادقة، والوفاء للوطن وشعبه، والارتقاء بأفراده اجتماعيا وثقافيا. ويقع العبءُ الأكبرُ، في هذه المرحلة الحرِجة، على المثقفين الذين تُحركهمُ العزةُ والكرامةُ الإنسانيتانِ، وتشحذُ نفوسَهم حريةُ الإنسانِ وعيشُه الكريمُ.

فأطلقوا سراحَ الكلمةِ المعتقلةِ، وتَوِّجوا رؤوسَ الضعفاء بحرية التعبير والكلمة؛ لأنها سبيلٌ للتعبير عن أوضاعهم الموجعة، وإسماع أصواتهم المبحوحة إلى من يهمهم أمر هؤلاء الفقراء المساكين، الذين ملأوا هذا الشهرَ الكريمَ بكاءً وعويلا، واستقبلوه بغلاءٍ وشدةٍ اجتماعية، ومحنةٍ إنسانيةٍ بات يعرفها القاصي والداني.

ارتقوا بثقافتنا وتعليمنا، وحرروا هذا الشعبَ من الخرافة والأَسْطَرَةِ، واشحذوا عقولَ أبنائه بما سيعود عليهم وعلى وطنهم بالنفع؛ لأن لا سبيل إلى خدمة الوطن وحبه دون كرامة وعدالة اجتماعية، تحقق للجميع شرطَهُ الوجوديَّ والإنسانيَّ.

***

محمد الورداشي

في المثقف اليوم