أقلام حرة

العراقي بلا مؤسسات ومطالب بالمستحيل:

ان يتعلم ويتابع كل شيء بنفسه!

لما كنا بالعراق، كنا نعرف الكثير عن تصليح السيارة، ثم نسيناها لما عشنا في أوروبا. لأننا ببساطة لم نعد نستعملها، فلم يعد هناك داع لها. عندما يصيب السيارة شيء، تأخذها إلى الميكانيكي وتدفع اجوره!

في العراق كانت سياراتنا كثيرة الاعطال وصعب ان تأخذها للفيتر لكل صغيرة وكبيرة فلازم تتعلم. وحتى عند اخذ السيارة إلى المصلح، يجب ان تقف "على راسه" وتفهم ما الذي يفعله، لأن كثير منهم يعيش على ان يغشك.

هنا الناس يغشون أيضا، لكن هناك "مؤسسات" توفر على المواطن الكثير جدا من المتابعة والحاجة للمعرفة. مؤسسات لها نسبة من الثقة (وليس كاملة) يستطيع المواطن بمساعدتها أن يثق ان الغش لا يتعدى غالبا، حدا معينا، وان يعتمد عليها في معظم الامور ويتفرغ لتعلم عمله وصرف الوقت عليه.

رغم ذلك كان في ذلك الوقت في العراق بعض المؤسسات. تقدر مثلا تثق بدرجة ما ان وزارة التخطيط "تخطط" الاقتصاد وغيره من أمور.. واذا صار احصاء سكاني، تقدر تعتمد على الرقم بدرجة دقة معقولة.. إذا أمسك بعميل "يروح جلده للدباغ" خاصة في الجيش.. الوزير عموما يريد يسوي اللي عليه ويخاف... كان عندنا أساتذة ممتازين في الجامعات والغش والرشاوي بالكليات والمدارس بشكل محدود جدا (عدا التسعينات بسبب الفقر الشديد). يعني كانت هناك مؤسسات ولو محدودة.

لما جاء الاحتلال، لم يكتف بإزالة تلك المؤسسات المحدودة، انما بنى مؤسسات مقلوبة، هدفها الأكيد هو تضييع المواطن وتدمير أساس حياته، وأسس سفارة من الاف الموظفين المتفرغين لهذه المهمة! وبنى مؤسسات اعلامية هدفها المحدد هو اصابة المواطن بالجنون، لتسيطر على 90% من الفضاء العراقي وصرف عليها مليارات الدولارات، واخترق 90% من المحطات الباقية.

وعندما نقول "الجنون" فليس هذا للمبالغة. فالتعريف العلمي للجنون هو: الانفصال عن الواقع! أليس من يعتقد أن ايران هي عدوه، "منفصل عن الواقع"؟ أليس من يصدق أن القوات الأمريكية هي قوات تدريب، "منفصل عن الواقع"؟ أليس من يعتبر المعركة طائفية، وأن وما يهدده هو الطوائف الأخرى ومن يسرقه هو الطوائف الأخرى.. اليس هذا "منفصل عن الواقع"؟ إذن الوصف ب "الجنون" وصف علمي وليس مبالغة، وقد صرف احتلال العراق من أجله ما لم يصرفه احتلال قبلا في تاريخ البشرية.

لست هنا بصدد القاء اللوم على أحد او إهانة أحد. إنما أكتب بنية توضيح الصعوبات المستحيلة التي يواجهها العراقي.

لقد لاحظت في البداية، أن الكاتب مطالب أن يفهم كل شيء تقريبا! أن نتعلم الاقتصاد وليس فقط الاقتصاد العام لنميز بين الاشتراكي والرأسمالي وافضليات كل منهما، انما ايضا ان تدخل في تفاصيل النظام الرأسمالي لتفهم تأثير رفع الفائدة وتأثيره على قيمة سندات الخزانة الامريكية مثلا وغيرها كثير. وكذلك ان تدرس ان امكن الاقتصاد الإسلامي ومدى واقعية فرصة الدعوة اليه. أن تدرس الديمقراطية وتاريخها ودروسها وان تفهم أنظمة الانتخابات وافضلية ومخاطر كل منها وكيف ترد على الهجوم على سانت ليغو مثلا.. ان تفهم في الإعلام واساليب الكذب فيه، وهو بحر كبير، بل ان تعرف التأثيرات النفسية في الإعلام والشعوب وكيف استخدمت في الماضي. وعليك ان تقرأ التاريخ. ليس تاريخ بلدك وتاريخ طوائفه لتفهم مشاعرها فقط، بل تاريخ اميركا ايضا، وكذلك تاريخ صراع الشعوب للتحرر من هيمنتها، فهي دروس في غاية الأهمية. عليك ايضا ان تعرف الكثير عن النفط وتفاصيل العقود وتميز بين عقود الخدمة والمشاركة وتأثير تغير سعر النفط عليها، وأن تتعلم كيف ترد على الهجمات المدروسة على عقود التراخيص وشيطنتها مثلا، لأنها كانت جيدة وغير مناسبة للشركات،.. أن تنتبه لكل فقرات القوانين المقرة في برلمان جله من الجهلة والمرشوين، وتكتشف الألغام التي تم حشرها بين السطور.. وغيرها كثير.

إنها قائمة تمتد وتمتد ولا نهاية لها. قائمة ليس فيها شيء واحد "غير ضروري" و يمكن تأجيله. ليس فيها ثغرة تستطيع ان تتركها دون ان تخشى أنها ستكون الجحر الذي ستلدغ منه! وبالطبع عليك ان تتابع ما يجري من أخبار، ومن قال ماذا؟ ما المصدر؟ ومن انقلب على مواقفه السابقة؟ وما هي العبارات المضللة في الأخبار؟... وعليك ان تقنع المواطن أن عليه ان يكون "الحاكم" في الديمقراطية، وعليه باعتباره الحاكم، ان يعرف كيف يميز ويقرر ويكون حازما وحاسما. عليك فوق هذا أن تبذل جهدا كبيرا لتقنع "المقاومة" أن الاحتلال خطر شديد وانه يجب عدم الوثوق به، وعلى العكس من كل البلدان في العالم، حيث تعتبر المقاومة ان هذه هي مهمتها وهي من يسعى لإقناع الناس بها! عليك في العراق أيضا ان تقنع "المقاومة" أن تترك الطائفية وتمنع الطائفيين من قنواتها، وتوجه نفسها نحو الاحتلال، وايضا على العكس من كل "مقاومات" العالم! عليك ان تقنعها ايضا أن "المقاوم" الذي يبني قصرا، هو خائن بالضرورة.. باختصار، عليك ان تقنعها ببديهيات كثيرة!

ولكن هذا ليس كل شيء! الشيء الأكبر من هذا كله، هو كيف توصل كل هذا إلى القارئ؟ إنها كمية هائلة من المعلومات الصعبة البعيدة المنال، وانت محاصر بإمكانياتك وبمحاربة الفيسبوك وغيره. وكيف للقارئ ان يتابعك؟ وكيف يقرر ان يثق بك انت بالذات ويشكك بعشرات يتكلمون بالضد مما تقول؟ وهنا تنتبه الى معاناة القارئ، المواطن نفسه!

هل لنا ان نطالب المواطن، الأقل تفرغا منا، والذي يعيش في ظروف اصعب بكثير، وقلق أشد بكثير، ان يتابع كل هذا؟ وفوق هذا ان نطالبه بأن يتخذ موقفا من كل شيء لأن لا مفر من ذلك في الديمقراطية؟ وأنه ان لم يقم بواجبه البيتي في هذا فلن يمكنه حتى ان ينتخب الشخص المناسب، دع عنك ان يتمكن من مراقبته!

هذا ونحن نتحدث عن مواطن مرهق ويائس، وفوق ذاك، حينما يحصل على أمل بشخص يجعله ينام قليلا، تعود لتطالبه بأن يسارع بالانقلاب على من يحبه ويتبعه لأن هذا تبين انه سافل أو عميل او متخاذل، وان يبحث عن غيره! أن تطالبه بمراجعة "العروة الوثقى" التي عاش حياته مطمئنا اليها، لتقنعه بأنها مخترقة ومحاصرة بمن يحيط بها! إننا نطالبه بالأمانة والصدق في مواجهة الحقائق الصعبة! لكن هذا يعني العيش في قلق، ويتطلب قوة نفسية ليست متوفرة للجميع. وكل هذا في جو تصرف فيه المليارات لبث السموم والمؤامرات وإثارة القلق والهلوسة الفكرية وقلب معاني الكلمات؟

إنه مثل من فقد كل المتخصصين في المهن، بل تم تحويلهم جميعا بخطة مدروسة، الى لصوص عمدا، فتوجب عليه ان اراد تدبير اموره ان يعرف كل شيء عن سيارته وتلفزيونه وثلاجته ويتعلم كل شيء ليعلم اولاده، ليس القراءة والكتابة والحساب فقط بل ايضا الهندسة واللغات والبرمجة واستعمال التلفون.. وكل شيء! الحياة تفرض عليه مطالب مجتمع حديث، والاحتلال نزع منه عمداً وأتلف أدوات المجتمع الحديث، وهي المؤسسات التي يفترض ان تحل التعقيد المتزايد من المتطلبات، فلا يجد أمامه سوى أدوات مجتمع بدائي، تلك التي يستطيع فيها الفرد الاعتماد على نفسه لتأمين حاجاته وحاجات اسرته.

لقد وضع في موقف يطلب منه المستحيل!

ما الحل إذن؟ بصراحة لا أعرف حلا اكيدا!

ليس هناك حل يضمن الوصول الى النتيجة المرجوة، وكل ما نستطيعه هو أن نحاول الصمود لعل ريحا مواتية تأتي، و "تجدنا مستعدون" لها. مستعدون لها بأن لا نسمح للخراب ان يكون شديدا، ان يبقى شيء من الوطن ليعيش إن جاء المطر، ان تبقى جمرة ارادة تحت الرماد، لعلها تشعل النار ثانية إن جاءتها نسمة.

وكيف ذلك؟ لا أعرف طريقا سوى أن علينا أن نكون اقوياء قدر الامكان. ان نقبل العيش في قلق من اجل الحقائق قدر الامكان. أن يكون الشك والبحث صديقنا الأوثق. أن نعتبر الإعلام سموما حتى يثبت العكس، وان القنوات اسست ودفع ثمنها ملايينا من أجل تضييعنا، وأن الإعلامي موظف يستلم راتبه لهذا الغرض وهو عدو حتى يثبت العكس، والسياسي مرتش او مبتز حتى يثبت العكس وأن نراجع مواقنا منهم باستمرار. ان نتذكر الأساسيات، أن نبقى بوعينا، أن نتصرف ونبذل الجهد حتى ونحن متعبون، ان نشارك الحقائق وننشر الوعي ان استطعنا. أن نكتشف كيف نحقق بعض الانتصارات هنا وهناك، وكيف نفلت من بعض الهزائم هنا وهناك، وان نفرح بذلك. أن نستمد بعض الشجاعة والاطمئنان والثقة من فلسطين ومن اليمن ومن مقاومة لبنان وربما من روسيا ومن كوبا وفنزويلا وكل شعب يحاول ان يستعيد انسانيته، حتى لا تقتلنا الوحشة في هذا العالم... وأخيرا وليس آخرا، ان نراقب الفرص!

إنها وصفة "صمود" وليست وصفة "نصر"، وأحيانا "الصمود يصنع النصر" إذا استطاع وقف الإنهيار أو إبطاءه وحفظ الوطن حتى تأتيه رياح مناسبة للنصر. إن وضعنا خطر، ولكي نتعامل مع هذا الخطر، علينا اولا ان ندركه، أن نخجل من التهرب منه. علينا ان نعطيه حقه، ان "نخاف" منه، وان نستمد من الخوف نفسه، العزم على الاستمرار والصمود، لعل القدر يتعب ويرخي قبضته.. ونفلت!

***

صائب خليل

في المثقف اليوم