أقلام حرة

علي الجنابي: عَصفُ الغَيْبِ وريحُ الشَّيبِ

(خطابٌ خاص الى أزلامِ حكوماتِ ما بعد 2003 كافَّة بلا تحية)...

يُشاعُ في العراق ويُذاعُ أنَّ التغييرَ لا محالةَ قادمُ، وبغضِ النظرِ عمَّا ستؤولُ إليهِ الأيامُ من نبأٍ صادم، فلا بدَّ ههُنا من كلماتٍ جزاءً وفاقاً لمَن يظنُّ منكمُ أنَّ أباهُ آدمُ، ويرنُّ قفاهُ بذا نبأٍ آتٍ وحاسم، أو لعلَّهُ فزعٌ وعمَّا مضى نادم، وأنَّهُ تذكَّرَ أنَّ ثُلتَهُ قد جمعَت في ديارِ العراق كلَّ جراحاتِ الزمن، رُغمَ أنَّ الوطنَ كان لهُ الثديَّ والهَديَ المؤتَمن، وكان يمكنُ أن يكونَ له السَّعدَ والمَجدَ المُختزن.

عقدانِ من زمنٍ بالضرِّ قد مرَّا، وكانَ فيهما شعاركم "بِئسَ الوطنُ العراق، وطنُ العنفوانِ والمَنبتُ لكلِّ جذرٍ للمِحن"! فحَكَمتُموهُ بغوغاءَ وبأغلالٍ من جهلٍ، وبضوضاءَ وبإعلالٍ من جوعٍ وحَزَن، وكانَ الملأُ منكُمُ يتَغامزُ: "إزرعُوا في ذا الوطن كلَّ أسىً، فإنَّ الأسى هو عمادُ حُكْمِكُمُ وسِرُّهُ وهو الرَهن". فصنعتُمُ تحتَ جفنيِّ الوطن دَمعاً من آهاتٍ ومن وَاهاتٍ مُحتَقَن.

وهل لدمعٍ في عينيّ الوطنِ من فديةٍ؟ هل للدّمعِ ثمنٌ؟

لقد إرتَضَت ذواتُكمُ أن تكونَ قَيحاً من نتنٍ وفيحاً من عَفَن، ولاريبَ أنَّ عَصفَ الغَيْبِ وقَصفَ العَيبِ وريحَ الشَّيبِ أتَتكُمُ وستَرميكُمُ بسَخطٍ ولَعَن، فقد كنتم ثُلَّةً تَختنقُ من بُرعمٍ في فلاتِنا يَزهرُ أو رَضيعٍ في حياتِنا يُختَتَن. وكانَ الزَّعيمُ منكُمُ مُجرِماً نحنُ لهُ عَرشٌ مُؤجَرٌ مُرتَهن. وَوزيرُهُ مُغرِماً نحنُ له مَغنَمٌ لسُويعاتِ زمن.

وكانَ دأبُكُم أن... تُدَمِّروا جَيشاً وتُشَيِّدوهُ مُجَندَلاً مِدادُهُ سُباتٌ وسرابٌ، وعِتادُهُ فتاتٌ وخراب وَوَهَن.

وتُخَمِّروا أمنَاً وتُجَسِّدُوهُ مُعَندَلاً برهَبٍ ما بين لَدغٍ وكَفَن.

وتُأمِّروا فَقيهاً وتُسَيِّدوه مُحَنجِلاً لا يُجيدُ فُتيا إلا بشَهواتِ البَدن.

وتُذَمِّروا قاضياً وتُفنِدُوه مُقَندِلاً يَقلِبُ الحَقَّ باطلاً والطُّهرَ دَرَن.

وتُنَمِّروا طبيَباً وتُؤيِّدُهُ مُتَصَندِلاً بدينارٍ وبِحَرفٍ أعوَجٍ بلَحَن.

وتُعَمِّروا مُهندسَاً مُهَندِلاً يَغللُ الطوبَ لواذاً بليلٍ حالكٍ أجَن.

وتُخَمِّروا زُرّاعاً، نَجّاراً، حَدّاداً، كلّاً مُتَأفِّف وكلّاً مُستَضعَف وكلّاً يَغفو في قُنٍّ ودَجَن، يُغْذَوْنَ النوم خُبزاً ويُحْسَوْنَ الهواء بصَحَن.

لا أسَىً على الوطن، وعسى أن يكونَ قريباً..

يومَ أن ينخَلَعَ زعيمُ النتن ومَلأٌ لزعيمٍ عفن، لا يَمِيزُونَ حَلْقَ عِزَّتِهِم مِن حَلْقِ عانَتِهم وليس الذَقَن. ويومَ أن يَنقَلِعَ القاطِنَ فيهِ عنِ غداءِ النومِ، وداءِ الهواءِ بصَحن.

نِعمَ الوطنُ العراق، نِعمَ والِدُ الفَضائِلِ، خالِدُ الطَوائِلِ وخَليلُ الشّمسِ وصَهيلُ اللحىً:

وهي الأمور كما شاهدتها دولٌ

من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ

*

وهذه الدار لا تبقي على أحد

ولا يدوم على حال لها شانُ

*

وطفلةٍ مثل حسنِ الشمسِ

إذ طلعت كأنما ياقوتٌ ومرجانُ

*

يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً

والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ

*

لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ

إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ

(أبو البقاء الرندي).

***

علي الجنابي

......................

(معاني كلمات: مُجَندَلاً: مصروعاً. مُهَندَلاً: الهندول: الضخم مثل به سيبويه. مُحَنجِلاً: راقصاً. مُعَندِلاً: من العندل هو البعير صلب الرأس. مُتَصَندِلاً: متعطراً. مُقَندِلاً: كلمة تقال في معرض السخرية لمَن يأتي أمراً منكراً).

في المثقف اليوم