مقاربات فنية وحضارية
بابل في مدونة هيرودوتس
هيرودوتس (484ق.م – 425ق.م) اشهر المؤرخين الاغريق ولقب (أبي التاريخ)، قام بالعديد من الرحلات الى بلدان العالم القديم، جمع كل المعلومات التي حصل عليها من البلدان التي زارها في رحلاته، وتدوينه للأخبار والحوادث بسرد القصص والحكايات والاساطير خالطاً اياها في كثير من الأحايين بالأخبار التاريخية دون أن ينبه عن الحد الفاصل ما بين الاثنين، ودون ذلك كله في كتابه (تاريخ هيرودوتس) والذي يعد من أقدم الكتب التاريخية، المكون من تسعة كتب (اجزاء)(1) سميت بأسماء الآلهة أو الحوريات الخاصة بالموسيقى والغناء والشعر والتاريخ وعددهن تسع آلهات بحسب الاساطير اليونانية .
دون هيرودوتس في كتابه (تاريخ هيرودوتس) عن مدينة بابل في الكتاب الاول المسمى (كليو)(2) . وكان هنالك شكوك في أن هيرودوتس قد زار بلاد بابل، بل أن الأخبار التي ذكرها عنها قد استقاها من آخرين، فقد ذكر تسمية بلاد بابل بآشور(3) .
وصف مدينة بابل:
لقد وصف هيرودوتس مدينة بابل وبالغ في قياس اسوارها وبعض أبنيتها، وخاصة في العهد الفارسي الأخميني (539ق.م – 331ق.م) حيث كانت معابدها وبرجها الشهير وقصورها لا تزال قائمة، دون هيرودوتس في الكتاب الاول ص114: " تقع بابل في سهل فسيح، وهي مدينة واسعة مربعة الأضلاع طولها أربعة عشر ميلاً، ومحيطها وأطرافها ستة وخمسون ميلاً، وفوق ما تتصف به من ترامي الرقعة تفوق في بهائها كل مدينة أخرى في العالم، ويحيط بها من كل جانب خندق عريض عميق مليء بالماء، يتوسطه سور ضخم يبلغ عرضه خمسين ذراعاً ملكياً(4)، وارتفاعه مئتي ذراع . على جانبي سور بابل تقوم أبنية متقابلة من غرفة واحدة، بينها مساحة تكفي لمرور عربة تجرها أربعة جياد، ويتخلل السور مائة باب تتوزع محيطها كلها، وجميعها من البرونز وكذلك الأعمدة والنوافذ".
وصف هيرودتس نهر الفرات من منبعه إلى مصبه واختراقه لمدينة بابل وملامسته لأسوارها وبعض الابنية، وكما ورد في الكتاب الاول (كليو) ص114: " أما الفرات فهو نهر واسع عميق سريع الجريان، منبعه في أرمينيا ومصبه في الخليج العربي، يخترق مدينة بابل في مسيره فيشطرها إلى شطرين، والسور يضرب اساساته في الماء على الجانبين، وهناك سور عازل ينتصب على زاوية قائمة من السور الأول مصنوع من الآجر المشوي، ويمتد على ضفتي النهر، وهناك عدد كبير من الأبنية تقوم على ثلاثة أو أربعة طوابق . وتتسم شوارع المدينة ودروبها بالاستقامة، وتؤدي جميعها إلى النهر، وينتهي كل درب إلى بوابة من البرونز في السور، ويمكن بواسطتها بلوغ الماء".
معبد بابل:
في وسط مدينة بابل يوجد قصر الملك ومعبد الاله بعل(5)، وقد ورد في تاريخ هيرودوتس الكتاب الأول عن المعبد ص115 -116: " المعبد بناء مربع أبوابه من البرونز، وله برج في وسطه، ويعلوه برج ثاني فثالث حتى يبلغ عدد تلك الأبراج الثمانية، ويمكن ارتقاء تلك الأبراج جميعها بدرج حلزوني يتحلق على جانبيه من الخارج، وعند منتصف الطريق على السلم يوجد سلسلة من المقاعد وملجأ يرتاح إليه الصاعدون، وفي أعلى البرج ينتصب معبد كبير فيه أريكة أنيقة واسعة غنية بتطريزاتها وبجانبها طاولة ذهبية . وأما الهيكل فلا يحتوي على أي صورة أو تمثال، ولا يقيم في هذا المعبد سوى امرأة واحدة، وإن الاله يدخل المعبد ويستريح على السرير".
كما يصف هيرودوتس الهيكل الثاني المشيد في الطابق السفلي للمعبد: " يضم معبد بابل هيكلاً ثانياً في الطابق السفلي يحتوي على تمثال الإله (بعل) في وضع الجلوس، وهو من الذهب، ويقوم على عرش من الذهب، وبجانبه طاولة ذهبية، وقد أخبرني الكلدان(6) إنهم استخدموا اثنين وعشرين طناً من الذهب في صنع الهيكل . وهناك مذبحان احدهما من الذهب مكرس للقرابين من النعاج وحدها، والآخر ضخم لم يكن من الذهب مكرس لقرابين الماشية الكبيرة . يبذل الكلدان ما يقارب الثمانية والعشرين طناً ونصف الطن من البخور على المذبح الأكبر في الاحتفالات التي تقام كل عام تكريماً للالة (بعل) . وكان في أيام الملك (كورش)(7) تمثال ذهبي لرجل يبلغ قرابة خمسة عشر قدماً طولاً، إلا أن عيني لم تقع عليه (اخبرني الكلدان بذلك) . وكان الملك (داريوس بن هيستابس)(8) أراد أن يضم التمثال إلى كنوزه، إلا أن شجاعته لم تسعفه في تنفيذ ذلك . ولكن التمثال انتهى إلى خزائن الملك (أحشويرش)(9)، بعد قتل الكاهن الذي حاول منعه من أخذه".
زحف كورش على بابل واحتلالها:
قام الملك الاخميني (كورش) بغزو مدينة بابل ذات الاسوار الحصينة واحتلالها، وقد دون هيرودوتس كيفية اختراقها في الكتاب الأول ص119: قسم كورش جيشه إلى قسمين، وجعل كل قسم على جانب من نهر الفرات، وأمر رجاله بتنفيذ حفر مائة وثمانين قناة في اتجاهات مختلفة، وتم ذلك بفضل العدد الغفير من الرجال، والذي استغرق فصل الصيف بكاملة، وعندما حل الربيع زحف بجيشه إلى بابل، وكان البابليون قد تهيؤوا للأمر، وعند وصول جيش كورش إلى مشارف مدينة بابل اعترضوه، ولكنه تمكن من دحرهم، فاضطروا للانسحاب وراء تحصيناتهم، وكانوا قد عملوا على توفير مؤن تكفي سكان بابل لسنوات عديدة، ولكن كورش تابع حصاره، حتى لاح له إن النصر بعيد، فأخذ الانتظار يثير فيه اليأس من نجاح قريب . وضع كورش جزءاً من جيشه عند مصب الفرات في المدينة، ووضع فرقة أخرى عند الطرف المقابل، أي عند مخرج الفرات من المدينة، وأمر تلك القوات باقتحام المدينة حالما يبدو أن مياه النهر غدت ضحلة، وفي غضون ذلك نزل جيش فارس الذي خلفه قائده عند أبواب بابل لهذه المهمة، فخاض الجند في المياه الضحلة للنهر التي لا تكاد تبلغ منتصف ساق الرجل ودخلوا المدينة، عندما كان أهل بابل في عيد وغناء ورقص ومتعة حين أطبق عليهم الفرس وأخذوهم على حين غرة .
الضرائب المفروضة على بابل:
ذكر هيرودوتس في الكتاب الاول ص 120: كانت البلاد الخاضعة للفرس موزعة في مناطق واسعة، تجتمع كلها في توفير الضريبة المعتادة والمفروضة عليها، وتزيد بأن تمد ملك الملوك وجيشه بالمؤن والغلال، ونصيب بابل منها طوال أربعة أشهر من أصل الأشهر الاثني عشر من السنة، بينما تتولى آسيا كلها أمر الشهور الثمانية المتبقية من السنة، وهذا ما يبين أن آشور(10) كانت تضم وحدها ثلث مصادر الثروة الطبيعية في آسيا .
صناعة القوارب في بابل:
أن لوجود النهرين العظيمين (دجلة والفرات) في بلاد الرافدين ولوقوع أغلب المن على ضفاف الانهار قد أدى إلى ازدهار النقل النهري في مراحل التاريخ المختلفة، وقد دون هيرودوتس في كتابه الأول ص121- 122: كانت القوارب تمخر الفرات الى مدينة بابل، وكانت مستديرة الشكل ومادتها من الجلد، وتصنع في أرمينيا، حيث يصنعون إطار القارب من خشب صفصاف السلال، ثم يشدون الجلود المجففة المانعة لتسرب الماء منها لتكون بطن القارب، وليس لهذه القوارب مقدمة أو مؤخرة، وإنما هي مستديرة الشكل كالترس، ويقوم الملاحون بملأ القارب بالقش، ويحملون ما يشاؤون نقله على ظهره، وهي في جلها براميل من النبيذ، ويطلقون القارب ليسير مع التيار، ويتولى قيادة القارب نوتيان، وكلاهما يحمل مجذافاً، أحدهما يقف في المقدمة ليحرك المجذاف نحوه، بينما يقف الثاني في المؤخرة ويدفع مجذافه إلى الامام، وهذه القوارب تختلف أحجامها عن بعضها، وأضخمها يتسع لحمل نحو مائة وثلاثين طناً، ويحمل كل قارب حماراً، وبعض القوارب الكبيرة يحمل عدة حمير . والقاعدة الجارية أنه متى بلغ القارب مدينة بابل وبيعت حمولته، عمد النوتية إلى تفكيكه فيباع الهيكل والقش، بينما تُحمَّل الجلود على ظهر الحمار ليعود براً إلى أرمينيا، ذلك أنه يستحيل على النوتي أن يعود بالقارب بعكس اتجاه التيار صعوداً، وقد أعتمد القوم على الجلود في صناعة القوارب بدلاً من الخشب ؛ بسبب قوة التيار الذي لا يقوون على مقاومته .
أزياء أهل بابل:
ذكر هيرودوتس في كتابه الأول ص122: يتألف الزي الذي يرتديه البابليون من إزار من الكتان، طويل يبلغ القدمين، وفوقه إزار آخر من الصوف، وعليه عباءة بيضاء، ولهم في الأحذية طرازهم الخاص . وقد درج القوم على ترك الشعر وارتداء العمامة، وكان الرجل منهم يحمل خاتماً وعصا خاصة به، وقد حُفرت على قمتها صورة تفاحة أو وردة أو اقحوانة أو نسر، وقد جرى الناس على تزيين عصيهم بمثل هذه الزخرفات .
الزواج في بابل:
دون هيرودوتس في الكتاب الأول ص122: جرت العادة في كل قرية من بابل على جمع الفتيات عند بلوغهن سن الزواج في مكان معين، والرجال متحلقون حولهن، فينادي المنادي في المزاد الفتيات كل باسمها، ويبدأ عادة بالفتاة الأجمل فالأقل جمالاً وهكذا، فيتم بيع الأجمل بالثمن المرتفع، فيتنافس الأثرياء على الجميلات بدفع أعلى الأسعار . أما من كانوا متواضعي الحال ولا ينشدون الجمال في الزوجة فإنهم من يتقاضى المال ليقبل بالفتاة الدميمة، وقد تكون عرجاء أو لربما كانت كسيحة، فينادى باسمها ويسأل المنادي من يطلب المبلغ الأقل لتكون زوجاً له، فتكون من نصيب أكثرهم قناعة .
التطبيب في بابل:
دون هيرودوتس في كتابه الأول ص 123: " البابليون لا يعرفون الأطباء، فإذا مرض أحدهم حمله أهله إلى الشارع، فيتلقى النصيحة في العلاج من كل من كان له خبرة بأصل شكواه. والعرف عندهم ليس لإمرئ أن يمر بمريض ولا يقف على حاله، وإنما عليه أن يتوقف ويسأله عن شكواه" .
البغاء المقدس في بابل:
عرفت الحضارة العراقية القديمة البغاء المقدس الذي مارسته النساء في معابد بابل تحت عباءة أفكار دينية بعينها، وقد دون هيرودوتس في الكتاب الأول ص124: أن كل امرأة في بابل كانت مجبرة على الجلوس مرة في عمرها في فناء معبد ميليتا (11)، ينتظرن مرور الرجال لينتخبوا منهن اللواتي يطيب لهم معاشرتهن، ولا يجوز للمرأة الجالسة في الساحة العودة إلى بيتها قبل أن يرمي رجل غريب في حضنها قطعة نقد من أي فئة كانت، ثم يصحبها إلى خارج الفناء المقدس. ولا يمكنها رفض القطعة النقدية أبداً لأنها تصبح مقدسة لحظة إلقائها. كانت المرأة تذهب بصحبة أول رجل يرمي لها بقطعة النقود، فيقضي منها وطره، ولا يحق لها أن ترفض أحداً، واذا تم مضاجعها تكون بذلك قد أرضت الآلهة، فتعود بعد ذلك إلى بيتها . ومنذ تلك اللحظة، لا يمكن لأي أعطية مهما بلغت قيمتها أن تؤثر عليها أو تغويها.
صباح شاكر العكام
..........................
الهوامش:
(1) سميت الكتب التسعة بأسماء الآلهة وهي: الاول (كليو)، والثاني (يوتيربي)، والثالث (ثاليا)، والرابع (ميلبوميني)، والخامس (تربسينوري)، والسادس (أراتو)، والسابع (بوليهيمنيا)، والثامن (اورانيا)، والتاسع (كالليوبي) .
(2) كليو: اله التاريخ (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ص 125) .
(3) (المصدر نفسه ص125)
(4) الذراع الملكي أطول ثلاث بوصات من الذراع العادي .
(5) الاله بعل )جوبتر): كبير الآلهة عند الرومان ويعد إله السماء والبرق، والمقصود في رواية هيرودوتس هو الإله البابلي (مردوخ). (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ص630)
(6) الكلدان: أقوام استوطنوا بلاد بابل وأقاموا عليها امبراطورية عظيمة أسسها نبوبلاصر سنة 627 ق.م، ومن أشهر ملوكها نبوخذ نصر الذي حكم بين سنة 605 ق.م إلى سنة 561 ق.م، والذي استباح مدينة اورشليم مرتين وسبى منها اليهود الى بابل، اسقط امبراطورية الكلدان كورش الأخميني سنة 539 ق.م (تاريخ حضارة العالم ص26) .
(7) كورش: ثالث الملوك الاخمينيين حكم بين (559ق.م – 530ق.م) والذي استولى على بابل سنة 539ق.م في اثناء حكم أخر ملوكها (نبونيدس) . (حضارة بابل وآشور ص51)
(8) داريوس بن هيستابس: (521ق.م - 486 ق.م) ملك فارسي أخميني، أخمد التمرد الذي حصل في مدينة بابل سنة 521ق.م .(مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ص635)
(9) أحشويرش: (485ق.م - 465ق.م) ملك فارسي أخميني خلف والده الملك داريوس،اخمد الثورة التي نشبت في بابل سنة 482 ق.م (المصدر نفسه ص 637)
(10) المقصود هنا بلاد بابل .
(11) ميليتا: الاله عشتار أو عشتروت أو افروديت .
المصادر:
1- تاريخ هيرودوتس – ترجمة عبد الاله الملاح – المجمع الثقافي / ابو ظبي، 2001م .
2- مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة – طه باقر – دار الوراق للنشر، 2009م .
3- حضارة بابل وآشور – غوستاف لوبون – ترجمة محمود خيرت – دار الرافدين / بيروت، 2019م .
4- تاريخ حضارة العالم – شارل سنيوبوس- ترجمة محمد كرد علي – الدار العالمية للكتب والنشر / القاهرة، ط1، 2012م .