مقاربات فنية وحضارية

الثور الاشوري المجنح آية من آيات الفن العراقي القديم

عندما اتخذ الملك سرجون الثاني 722 . 705 ق م دور شروكيم عاصمة له والتي تقع على بعد حوالي 12 كم عن نينوى كان لا يثق كثيرا قي حراس المدينة من الرجال ولهذا ظهرة قكرة الثيران المجنحة لتكون المدينة محروسة من قبل الالهه المتمثلة بالثيران الاسطورية المجنحة ولطرد الشر والحسد يضاف الى ذلك فانها تمثل زينة للمدينة وابهه وشموخا ملوكيا عاليا، وقد نصبها الملك على ابواب المدينة .

من المؤكد ان الفنان النحات الاشوري قد عانى الويلات والصعوبات من نقل الحجر من الجبال الى ورشة العمل وان ذلك استغرق وقتا طويلا حيث تزن كل واحدة منها عشرات الاطنان وربما استخدم طريقة التدحرج في نقلها او طريقة السحب او الجر بواسطة البغال والثيران ..

وهو يذكرنا بالنحات مايكل انجلو حيث يذهب مع عماله الى الجبال ويختار الحجر المناسب ويقطعه ثم ينقله الى ورشة عمله . وهنا تتم دراسة العمل والموضوع وتصوره له . ويذكر ان مايكل كان ينظر الى كتلة الحجر ويتخيل او يتصور الشكل الذي يريده في داخلها كاملا وجاهزة فما عليه الا ان يزيل القشرة التي تحيط به، وهكذا كانت قوة وعظمة مخيلة مايكل انجلو .3699 الثور المجنح

الفنان الاشوري كانت عنده الفكرة جاهزة ومطبوخة حيث استعار مفردات عمله من الطبيعة ومزجها بمعتقداته الدينية فصور شكل مركب من جسم ثور وراس انسان وجناح نسر طائر، فالثور يرمز الى الخصب والنسر الى السماء ورأس الانسان الى الالهه، وبالتالي العمل يرمز الى ان الانسان سيد المخلوقات .

نرى طريقة العمل لا تختلف عن طريقة النحات المعاصر من ناحية استخدام الازميل والمطارق ومعالجات الكتلة بالحفر والنقش وازالة الحجر لاخراج صورة التمثال التي في ذهن الفنان . لكن الاختلاف يكمن في الصبر والوقت الطويل الذي يستغرقه العمل عند الفنان القديم، بينما نجد فنان اليوم قد استخدم الماكنة بالاضافة الى الادوات التقليدية والتي قصرت من نسب الوقت واسرعت في انجاز العمل .3700 الثور المجنح

قدم الفنان في عمل الثور الاسطوري المجنح معالجات متباينة من تعقيدات وتبسيطات فالاجنحة منفذة بزخرفة عالية الدقة والتناسق والوجه معبر بعيون واسعة وانف مقوس ولحية كثيفة مزخرفة وعلى رأسه تاج محاط بثلاثة قرون او قرنين ترمز للالهه، وهي تشبه القرون التي تحيط بتاج اله الشمس قي مسلة حمورابي . اما حركة الرجلين الخمسة فهي تذكرنا بالمدرسة المستقبلية التي ظهرت في بداية القرن العشرين 1909 على يد الاديب والفنان الايطالي فيليبو مارينيني، حيث من فلسفتها ان كل شيئ في الكون فيه طاقة حركية مستمرة . وحركة ارجل الثور تشعرنا باستمرار ايقاع الحركة .3701 الثور المجنح

وقد عاصر الفنان الاشوري الفن الاغريقي وبنفس المعتقدات الوثنية والاسطورية الا ان الفلاسفة الاغريقيين وضعوا مقاييس محددة للجمال والشكل وانهم فاقوا غيرهم في تمثيل الطبيعة والانسان، ويذكر ان احد الرسامين رسم حصان الاسكندر المقدوني، فلما اقترب الاسكندر بحصانه الى اللوحة، صهل الحصان، وكأنه عرف صورته من شدة الشبه والتمثيل .3702 الثور المجنح

و كان الفنان الاشوري كأنه اراد في عمله هذا ان يسجل تحديا كبيرا في اسطورية الشكل تضاف الى اسطورة الفكرة، واراد ان يخلد عمله كما هو عند بنائي الاهرامات والزقورات، كما ان الملوك كانوا يبحثون عن الخلود من خلال بناء الصروح العملاقة التي تشير الى حكمهم وحياتهم . وقد استطاع الفنان الاشوري من تجسيد القيم الجمالية في منحوتاته البارزة والمزخرفة والدقة والخيال الاسطوري الواسع . وكانت منحوتات الثيران المجنحة نفذت بطريقة النحت البارز، وهي طريقة كانت معمول بها في الفترة الحوثية في القرن الرابع عشر ق، م . وهي مسنودة على جدار مما يوفر لها الحماية وعدم السقوط ... وكانت غالبية القصور الاشورية مزينة بالمنحوتات البارزة على شكل افاريز تحيط بها الكتابات المسمارية، وقد اخذت اشكالا طبيعية في نسبها وتفاصيل الاجسام،،ويظهر الجسم بكل روعته والملك بجسمه الطبيعي وليس ضخما كما يفعل في السابق، وغالبا ما يظهر الفنان الاشوري تنوعا في اشكاله وموضوعاته، وقد حلت مواضيع الاحتفال بالانتصارات محل الماضيع التاريخية ... وكانت الدولة الاشورية دولة عسكرية انشغلت طيلة حياتها بالحروب والفتوحات، وكانت اكثر علمانية من سابقيها واكثر بعدا عن التقاليد الدينية القديمة .3703 الثور المجنح

في احد المنشورات الاخيرة قرأت بان البعثات الاجنبية التي كانت تنقب في العراق في منتصف القرن التاسع عشر عثرت على منحوتات ضخمة الحجم والوزن وكان من الصعب عليهم نقلها الى بلدانهم بسهولة في ذلك الوقت؟ فدفنوها تحت التراب، والان وبعد مرور اكثر من 150 سنة عادوا بخرائطهم وحفروا ما اخفوه ونقلوه الى بلدانهم ؟ . الله لك يا عراق .

***

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم