مقاربات فنية وحضارية

جمال العتّابي: المسعى الى الجمال.. الحقيقة العارية على ظهر حصان

لم يستمع الزوج (اللورد ليوفريك) حاكم ولاية كوفنتري الإنكليزية إلى نداءات زوجته (الليدي غوديفا)، بعد أن اشتكت إليه مراراً، وتوسلت إليه أن يخفف ضرائبه التي فرضها على الناس الفقراء، إلى أن جاء اليوم الذي وجد نفسه في تحدٍ وقح لمطالبها، فعرض عليها موافقته في الاستجابة لها، بشرط أن تمتطي جوادها عارية، وتجوب شوارع المدينة، معتقداً أنها سترفض عرضه الرخيص، وسيكون قد تخلص من مضايقاتها بالشكوى الدائمة، لكنه تجمّد في مكانه حين وافقت الزوجة على شرطه وتنفيذه في الحال، لم يكن يتوقع من زوجته المتواضعة الخجولة إقدامها على هذا القرار، ولا الناس كانوا سيصدقون ما تفعله الزوجة من أجلهم، فجهّزت جوادها وامتطته عارية، على هيئة الفارس الرجل، لا يغطي عفافها إلّا شعرها المسترسل الطويل.3798 alhakika

كأغلب القصص المثيرة في التاريخ، استهوت هذه الحكاية العديد من الرسامين والنحاتين لما تتضمنه من معانٍ إنسانية نبيلة، فقدم الفنان "جون كوليير*" واحدة من أشهر أعماله الفنية "امرأة عارية على ظهر حصان" التي نفذها عام 1897، وهي محفوظة الآن في متحف هربرت للفنون في مدينة كوفنتري البريطانية.

السيدة غوديفا ليست مجرد قصة تاريخية أسطورية، المرأة العارية، الشابّة النحيلة على ظهر جواد، هي محور أفكار ما قبل الروفائيلية؛ إنه السعي وراء الجمال وضبط النفس والقرب من الطبيعة، التواضع والجمال والتحدي هنا هي الفكرة الأساسية للعمل.

ما كان صادماً أكثر للأمير ليس جرأة زوجته وحسب؛ إنما صدمته الأكبر كانت من أهالي كوفنتري الذين امتنعوا من النزول إلى الشارع، والتزموا بيوتهم تضامناً مع غوديفا، أسدلوا ستائر نوافذ منازلهم ليتجنبوا النظر إليها، وإحراجها تقديراً منهم لتضحيتها وتفانيها من أجلهم، مما أجبر ليوفريك إلى الرضوخ لتنفيذ مطالبها ورفع الحيف عن أبناء المدينة، وإلغاء الضرائب المجحفة.

ووفقاً للأسطورة التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر، أن شخصاً واحداً فقط هو الخياط (توم)، لم يستطع مقاومة فضوله في اختلاس النظر إليها، ففتح نافذته قليلاً، أغواه تهوره ورغباته المكبوتة إلى عدم الاستجابة لمناشدات أبناء مدينته في ملازمة المنازل، لُقّب لاحقاً بـ(توم مختلس النظر)، تقول الأسطورة إنه أُصيب بالعمى كعقاب من السماء لفعلته الدنيئة، ومن هذه الحكاية اشتهر المثل الإنكليزي " peeping tom" أو توم المتلصص. في علم النفس يعرّف التلصص، بأنه سلوك قهري مرضي يرافقه اضطراب نفسي، يصيب أولئك الذين يعانون من انحراف جنسي، يجد صاحبه نفسه مضطراً ومدفوعاً إليه لا شعورياً لإشباع حاجته النفسية.

منذ ذلك التاريخ أصبح هذا الحدث تقليداً ثابتاً تحتفي به كوفنتري سنوياً في شهر حزيران؛ إذ تجوب (غوديفا الرمز) الشوارع على حصان أبيض يرافقها رجل يوحي أنه "توم مختلس النظر"، وفي حينها تم نحت تمثال خشبي للخياط توم، ونصبه في الشارع المؤدي إلى سوق كوفنتري ليصبح أيقونة للسلوك المنحرف، وتوجد نسخة طبق الأصل عن التمثال أمام كاتدرائية كوفنتري.3799 alhakika

تستمد اللوحة قوتها من المشاعر الإنسانية، والتخيل الفردي للأحداث، الفنان أراد هنا أن تلامس تجربته حدود الكشف عن طاقاته للتعبير عن روح الخجل التي تختفي في الأعماق، هناك حوار متعارض بين رأس الجواد المرفوع إلى الأعلى بتحدٍ، ورأس غوديفا المنحني إلى الأسفل، وهي تستعين بيدها اليمنى لتغطية صدرها بشعرها الطويل، المشهد يوحي بالعفّة والحياء، شوارع المدينة خالية، صامتة، خافتة، توقظ في نفس المتلقي مشاعر أنيسة حانية، مثل هذه المجاورة تبعث فينا إحساساً بعدم إغفال إغراءات اللون في الطبيعة، حتى الألوان الخافتة بدت مشعّة، متوهجة، تتدفق من أعماق الظلال الشفافة في توافقات نغمية نابعة من التقاطعات الحادة التي تفصل بين النور والعتمة، في الجدران والأقواس والأعمدة، بين الفضاء والداخل، في اللون وإبداعه تتحدد فلسفة الفنان، بل إن اللوحة ترتكز على توافق الألوان وانسجامها، كوليير أتقن توزيع الكتل والحركة، ومنحها امتداداً وعمقاً من خلال حركة الجواد، المفردة التشكيلية القابلة للتجريب والتعبير عن الرؤى والأفكار المتعددة، الجواد بإزاره الجميل المرصّع بالذهب يرمز إلى القوة والجمال والحب والبطولة.

الرسام كان مغرماً بالحصان، كمن يستنطقه أو يحاوره حواراً خفياً، بلا ادّعاء بمهارة الفنان في قوة الإبلاغ، عبر حركة الحصان وتوثبه، أو في إشراك المشاهد بشعور تأنيب الضمير، فإذا كان هذا المنجز قائماً على تضاد لوني الجسد والإزار؛ فإنهما اجتمعا في نقطة واحدة ما كعائلة لونية منسجمة، وبذلك نجح كوليير في توصيل المشاعر الإنسانية للمتلقي بكل ما تمتلك نفسه من وهج حدسي، فالقوة التي يمتلكها هنا قابلة على ترصين التعبير، بفعالية وجمالية سامية، كما قدم الرسام درساً أخلاقياً تقاسمه أبناء المدينة مع السيدة غوديفا، الأخلاق التي لا يجافيها الذوق والوجدان، والوعي بحقيقة (العري).

وضِمن هذا النسق تأثر فنانو القرن التاسع عشر وما تلاه في أحداث القصة الأكثر جاذبية لهم في الموضوع، تناقلوها، وحاولوا تمثلها كل حسب رؤاه الفنية وأسلوبه، ومن بين أهم النصب النحتية التي نفّذت وفق هذا السياق، تمثال السير وليام ريد ديك الذي أنجزه لصالح بلدية كوفنتري عام 1949، بطريقة مختلفة تماماً عن عمل كوليير، ووفق وضعية ركوب الخيول من قبل السيدات آنذاك، السيقان تتدلى على جانب واحد، على خلاف وضعية الامتطاء الرجولي للحصان من قبل غوديفا.

حصان وليام ريد أكثر قوة في التقاطيع والحركة، يبدو متوثباً جامحاً، لعلّ التوثب من أجل اجتياز العقبة، واحدة من علامات القوة في بلاغة التعبير، مع إضمار الدعوة في الرفض وعدم الخضوع للضعف أمام معوقات الوجود، كما يتكامل جمالياً مع الجسد العاري المنساب بهدوء واطمئنان من على ظهر الحصان.

خلاصة القول؛ إن الموقف الأخلاقي يجد تبريره المطلق في إحياء هذا الحادث الفريد في التاريخ، وتسليط الضوء على كثافة العمل الدرامية، بما يحمله من صدق ووضوح، فالبرغم من أن العري كان محوراً أساسياً للفن الأوربي؛ فإن كوليير لم يفتعل الحدث، ولم يذهب للجسد العاري كوسيلة مقنعة للتعبير الإبداعي، إنما اكتسب جسد الأنثى العارية معنى جديداً ومختلفاً، فكانت اللوحة مقيدّة بالحياء والوقار وجاذبية الجمال.

***

د. جمال العتّابي

........................

*  جون كوليير John Collier (1850- 1934)، فنان تشكيلي ومؤلف إنكليزي، تأثر بأسلوب ما قبل الروفائيلية، وهي رابطة لمجموعة من الفنانين يركزون على استخدام الضوء والألوان الزاهية في الطبيعة، انضم للرابطة التي تشكلت عام 1848 احتجاجاً على المستوى المتدني للفن الإنكليزي آنذاك.. وكان أحد أبرز رسامي البورتريه من جيله، ينتمي لعائلة موهوبة، يحتفظ المتحف الوطني البريطاني والمتاحف الأخرى بعدد من أعماله الفنية. مُرسل من بريد Yahoo لجهاز iPhone

في المثقف اليوم