كتب واصدارات

الديوانية مدينة النشأة والذكريات

3760 الديوانيةأبصرتُ النور في منتصف القرن الماضي، بعد ثورة 14 تموز 1958 بأربعة أشهر، وبعد أنْ رحل النظام الملكي المرتبط بالاستعمار البريطاني، الذي غزا العراق تحت ذريعة نشر الديمقراطية، فكنت شاهداً على تجاوز بلدي مخلفات الماضي، وسيرهُ قدماً نحو ما بدا لنا بوصفه مستقبلاً واعداً مُشرقاً.

حدث كل ذلك في العراق البلد الذي كُنتُ سَعيداً فيه، ومتنعماً وسط مجتمعي الطيب المتآلف مع جيرانه بمختلف طوائفهم، كان العراق بلداً فاتناً، يفوح منهُ عبير الذكريات الأثيرة، لكن بعد الأحداث المثيرة التي جرت بعد ذلك حيث الإنقلابات والحروب وآخرها الإحتلال الأمريكي عام 2003، طُمست معالمهُ وكأنَّ ممحاةً قد أزالت خطوط الطباشير من على السبورة لكتابة قصة لمأساة جديدة.

عشت في مدينتي الفراتية (الديوانية) سعيداً متنعماً وسط مجتمع متنوع المكونات من (يهود ومسيح وصابئة مندائية ومسلمين)، وكذلك الكُورد المبعدين إلى منطقة الفرات الأوسط، ذلك المجتمع المتآلف مع جيرانه من شتى الأديان والقوميات، كانت مدينتي فاتنةً، تفوح منها رائحةُ رزِّ العنبر وعبير الذكريات الأثيرة، وهنا أنا أراها اليوم وقد تغيرت كلياً وطُمست معالمها.

نشأ نظام البعث من تحت رماد الأحداث التي مررنا بها قبل ستة عقود، وتسبب الإستبداد بزلزالٍ أسفر عن تشظّي المكونات الأخرى في المجتمع الديواني، ما زلت أرتعد كلما برقت في ذاكرتي فظاعة ما مررنا به، لكنني أعود فأذكّر بنعمة النجاة من المحنة التي خرجت منها يوم إعتقالي بعد إنفراط عقد الجبهة الوطنية والقومية التقدمية كما يطلق عليها، بين حزب البعث الحاكم والحزب الشيوعي العراقي عام 1978م على يد مفوض الأمن حمزة علي ومعاون أمن بلدة الديوانية النقيب محمد عباس.

كتبت الدكتورة أسماء غريب عن كتابي الموسوم الديوانية مدينة النشأة والذكريات) ما يلي:

رجلٌ من أقصى المدينة

د. أسماء غريب

سَلامُ اللهِ عليكِ يا أرضَ الأولياء والأنبياء، سَلامُ قلبٍ عارفٍ بتُرابكِ الأوّل ومائكِ الشّافي، وخُبزكِ الدّافئ وحَرفِكِ الخفيّ. سلامُ اللهِ على ملائكتكِ المُرَفْرِفين في سمائكِ والطَّائِفِينَ بعرصَاتكِ، والحاضرين معي لزيارتكِ. سلامُ اللهِ عليكِ يا نيبور في الأوّلين، ويا أيّتُها الدّيوانيّة في الآخرين، سلامٌ على زقّوراتكِ ومعابدكِ، وكنائسكِ ومساجدكِ. وأسواقِكِ ومقاهيكِ، ومدارسكِ وحدائقكِ، وبيوتكِ ومقابركِ. سلام الله على هذا الرّجل الّذي رفعَ قلمَهُ ليكتُبَ بماء العشق والذّكرى عنكِ وعن أبنائكِ، فجاء حرفُه حرفَ العارفين بمكانتكِ وجاهكِ وسلطانكِ، يا ابنة الفرات وسيّدة سومر وبابل وآشور، ويا أرض السّواقي والمشافي والفيافي والمنافي. سلام الله عليكِ يا أمّ النّفريّ ويا خازنةَ العجائب والأسرار، سلامٌ عليكِ وأنتِ تطرقين باب نبيل الرّبيعي، فتوقظين في قلبه الذّكريات وتهمسين لهُ بحرفِ الذِّكْر قائلةً بصوتكِ الآتي من أعماق طَمْيِ الماء الحيّ الخصيب: "إنّما أنتَ مُذَكِّر لَسْتَ عليهم بمُسَيْطر!"، فينتبهُ من سكرتهِ ويفهمُ للعُمقِ دورَ رسالة الحرفِ بين يديْه، ويعرفُ كيفَ أنّ مسيرة الإنسان ملخَّصَة كلّها في عمليّة التّذكُّر هذه، فطوبى لمن يستطيعُ أن يُفَعِّلَها في فؤاده، ويُلهبَ نورها وأنوارها بين أنامله ويُقدّرَ الذّكْرَ بفِكره حقّ قدره!

سلام الله عليكِ يا أرضَ التّين والزّيتون، والشّموع والقناديل، والدّماء الزكيّة والأرواحِ البهيّة، سلامٌ عليكِ وأنتِ تأخذين بيد ابنكِ البارّ نبيل الرّبيعيّ وتشرحين له كيفَ أنّ الإنسانَ لا يُمكنه أن يكونَ غير ماهُو عليه فعلاً وحقيقةً، وأنّ كلَّ ما وقع عليه إلى الآن من تغيير هو تعسّفٌ حقيقيٌّ على شخصيّته الحقّة وفكره الخالص، وكيف أنّه لا خلاص لهُ من هذه المآزق كلّها إلّا بالخروج عن ثقافة القطيع. وهو الخروج الّذي وجدتُهُ يتحقّقُ في كتابه هذا، ورأيتُ كيفَ أنّه حينما اشتعلَ عشقُكِ في قلب نبيل أيّتُها المدينة النبيّة، ذهب إلى أقصى ركنٍ فيكِ ليتذكّرَ بكلّ ما أوتيَ مِن قوّةٍ مَن يكونُ، ومِنْ أينَ أتى، وإلى أينَ هُو ماضٍ؟!

وأنتَ أيّها القارئ العزيز، إذا كُنتَ الآن تقرأُ هذا الكتاب، فاعلم أنّكَ مقصودٌ أيضاً بخطاب الذّكرى والتذكُّر الّذي بين دفّتَيْهِ، ومُلزَم بتوليده في قلبكَ وفِكْرِكَ وبالرّحيل إلى أقصى ركنٍ في مدينتكَ، بالضّبط كما فعلَ كاتبُهُ! واعلم أنّكَ سترى كيفَ أنّ نبيلاً عاش الكثير من الأحداث في حياته، وقابل العديدَ من الشّخصيّات داخل وخارج العراق، وسافر إلى أماكن عدّة، وقرأ ما لا يُعدُّ ويُحصى مِن الكُتُب، وألّفَ في التّاريخ والأدب، ولكنّه اكتشفَ أنّهُ على الرّغم من كلّ هذه الأشياء الّتي قام بها فإنّه مازال يشعر بأنّهُ لم يكتمل بعدُ، وأنّه ثمّة شيءٌ مازال ينقصه، بل ثمّة صوتٌ بعيد يأتيه من أعماقه الدّفينة ويقول له: "عُدْ إليَّ، تعرفني وتعرف نفسكَ". إنّهُ صوتُ المدينة الّتي أبْصَرَ فيها النّور، صوتُ الدّيوانيّة!

ولأنّ الذّكرى وجعٌ ونزيفٌ، فلا بدّ أنّكَ ستجدُ نفسكَ تتساءلُ عمّن يتذكّرُ مَنْ في هذا الكتاب، بل مَن يسترجعُ مَن؟ ومَنْ يُضَمِّدُ ويُبَلسمُ جراحَ مَن؟ المدينةُ الّتي رأى الكاتبُ فيها النّورَ أمِ الوجوهُ الّتي تتراقصُ في قلبه وعقله والآتية من أعماق الماضي السّحيق؟ ولأنّ الجواب يعنيني كما يعنيكَ فإنّي وجدتُ نفسي ما إنْ وقعَ الكتابُ بين يديَّ أتصفّحُ على عجلٍ أوراقَه الواحدة تلو الأخرى فوق قارئيَ الإلكترونيّ، متوقّفةً من حينٍ لآخر أمام صُوَرِ شخصياته العديدة وعناوينه العريضة، وبالسّرعة ذاتِها وقبل أن أقرأهُ قرّرتُ إغلاقهُ، ثمّ سحبتُ نفَساً عميقاً من الهواء المُنعشِ، وأغمضتُ عينيّ لأسمحَ للنّور الّذي في حروف نبيل الرّبيعي بالتدفّقِ إلى كلّ خليّة في دواخلي، وفجأةً بدأتُ أرى، وشرعتِ المشاهدُ في الانصبابِ على مخيّلتي إلى أن استقرَّتْ منها أمامي ثلاثة مَشَاهِد تتحرّكُ فيها ثلاثُ صُوَر: صورة والد الكاتب، وصورة خاتم والدته العقيق، وصورة الدكتورة ماهي كجه جي. ابتسمتُ وأنا أرى سؤالاً عريضًا يرتسمُ في قلبي ويقول: مَنْ ذا الّذي حرّضَ الكاتبَ على خوضِ هذه المغامرة العجيبة، وهُوَ يعْلمُ جيّداً أنّه ليس من السّهل أبداً أن يكتبَ الإنسان سيرةً قدْ تختلطُ فيها الأوراقُ والأحداثُ، وتتكاثرُ فيها الشّخصيّاتُ والأماكن لدرجة أنّه يصعبُ فيها على القارئ أن يميّزَ بينَ مَنْ يكتبُ مَن، ومَن يُؤَرِّخُ لمَن؟ المُؤلِّفُ أم مدينتُهُ، أمْ هُما معاً؟!

وقبلَ أن يستقرَّ في فؤادي الجوابُ الفصلُ، وجدتُ نفسي أقرِّرُ أن أقرأ هذا الكتاب بطريقتيْن معكوستيْن، وذاك ما كانَ بالفعل، بحيثُ قرأتُ في البداية الكتابَ من صفحاته الأخيرة إلى صفحاته الأولى، ثمّ بعد ذلكَ قرأتهُ من الصّفحات الأولى إلى الصّفحات الأخيرة، وفي كلتا المرّتيْن كنتُ أرى الكاتبَ ماثلاً أمامي بوضع مقلوبٍ ورأسهُ إلى الأسفلِ وقدماه إلى الأعلى. فتأكّدَ لي أنّ هذا هو ثمنُ البحث الحقِّ في المكان والزّمن والذّاكرة. إذ كان لا بدّ لنبيل الرّبيعي أن يرى مدينته لا كما يراها الآخرون، وأن يعشقَ وطنه الكبير لا كما يعشقه الآخرون، وأن يغوص في حياته لا كما يغوصُ فيها الآخرون، وأن يكتبَ بحرفٍ يمشي على رأسه لا على قدميه، لأنّه يكتبُ تلك الحقائق الّتي تغضُّ الطّرفَ عنها العديدُ من الأقلام، ولأجل هذا سُجِّلَ في كتاب الوجود، بالمُؤَرِّخ المُتخصِّص في شؤون الأقلّيات الدّينيّة بالعراق. وهي الصّفة الّتي لم تُمْنَحْ لهُ إلّا بعد أنِ اخْتُبِرَ في امتحان العشقِ: عشقِ الله المتجلّي في الإنسان بغضّ النّظر عن ديانته أو اعتقاده أو عرقه. والمؤرّخُ العاشقُ كالمُصَوّرِ الّذي يعشقُ كلّ وجه يقفُ أمامه لأنّه يرى فيه إبداع الخالق، ولا يُميّزُ في عشقه هذا بين كبير أو صغير، ولا بين غنيّ أو فقير، ولا بين خادم أو سيّد، ولأجل هذا جاءت كلّ الشّخصيّات التي جسّدها لنا نبيل في كتابه هذا ساحرةً خلّابة، نابضة بالحياة والحقيقة في كلّ تجلّياتها السعيدة والشقيّة. ولأنّ الإنسانَ هو المكان الّذي يولدُ وينشأ فيه، فإنّ شخصيات نبيل وأماكنه كانت هي مدينتُه، الشّيء الّذي يعني أنّ الكاتبَ وهو يؤرّخ لمدينته، إنّما كان يُؤرّخُ لأهلها، وبالتّالي لنفسه وذاته. وهذا ما يُفسّرُ كيف أنّه في كتابه هذا اختلطت الأجناس بين تأريخ مونوغرافيّ، وسردٍ بيوغرافيّ وثالثٍ روائيّ أدبيّ، فظهرتْ مدينةُ الدّيوانيّة بصورة غير تلكَ الّتي ظهرتْ في كتابات مؤلّفين آخرين، صورة مفعمة بالحياة والحقائق المُوَثَّقَة، والنّابعة من حياة الكاتب نفسه وهو يصف الأشياء الّتي رآها وعرفها شخصيّاً بطريقة أعاد من خلالها ترتيب الأحداث والوقائع علّ القارئ يستطيع أن يُكَوِّنَ رؤية جديدة وإضافية لما كانت عليه وما أصبحته هذه المدينة.

وأنتَ بينَ دفّتيْ هذا الكتاب، ستراودكَ ولا شكّ أسئلة عديدة، من قبيل هل هذه المدينةُ هي ناسها وسكّانها حقيقةً؟ وإذا كانت كذلكَ فكيفَ أثّروا فيها وفي أمكنَتِها وأزمِنَتِهَا؟ وكيف واجه الكاتبُ وهو ابنها البارّ صعوبة الاختيار بين الأحداث والذّكريات؟ هل قال كلّ شيء؟ وهل تركَ كلّ شيء؟ وهل ما قاله كان كافياً لتكوين صورة معيّنة عن الدّيوانية؟ أم هل ما لم يقله كان الأجدر بالكتابة والتّدوين؟ وهل ديوانيّتُه هي نفسها المدينة الّتي يعرفها غيره من الدّيوانيّين؟ كثيرة هي الأسئلة وكثيرة ومتنوّعة هي الأجوبة أيضاً، ولكن ثمّة شيء أكيد بين السّؤال والجواب، وهو أنّ المؤرّخ نبيلاً الرّبيعي وهو يكتبُ عن مدينته إنّما كان مشغولاً بواجبٍ وطنيّ كبير يرنو من ورائه إلى إعادة الاعتبار للتّاريخ المحلّي عبر التّاريخ السّيرذاتي، محاولاً في هذا تجاوز عمليّة التّأريخِ السّياسيّ والعسكريّ بمفهومه الكلاسيكيّ وإعادة الاعتبار للمجتمع العراقيّ من أجل فهم مُكوّناته وشروط معيشته وديناميّته وذاكرته بحيثُ يُصبحُ كلّ شيءٍ لحظة الكتابة تاريخٌ ووثيقة بما فيها حياة الكاتب وذكرياته والتي أظهرتْ لنا كيف أنّ الأستاذَ نبيلاً في مُؤلَّفه هذا لم يكُن مجرّدَ جامع للمصادر والأخبار، ولا حاطب ليلٍ في غابة الوقائع والحكايات والأسرار، بل هو مؤرّخ ينقلُ الأحداث ويدعمها بالدلائل والصّور والأفكار، ويحلّل المجريات ويربطُ بينها وينتقد بعضها ليُبرزَ لنا الذّات المحليّة لمجتمعه الدّيوانيّ، ويضمّها إلى بنية الذّات الوطنيّة العراقيّة الكبرى، ثمّ إلى الذّات العالمية والكونيّة

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

في المثقف اليوم