كتب واصدارات

نظرة في أدب المقالة عند العقاد

خليل حمدمن خلال السفر للدراسة في مصر–بلد العقاد – حظي الكاتب بالتلمذة على بعض الأدباء والنقاد ممن لقي العقاد، أو تلقى من بعض أساتذة جيله، كالشاعر الناقد محمد علي عبد العال رئيس رابطة الأدب الحديث، عضو اتحاد كتاب مصر.

والأستاذ الدكتور سعد أبو عبادة- ممن تلقى عن الأستاذ محمود شاكر-رحمه الله-و هو محقق ديوان "سقط الزند" لأبي العلاء المعري، وكان يشرحه لنا في الجامع الأزهر العتيق.

في جو الأمسيات الشعرية والملتقيات الأدبية التي كان يحضرها في النوادي الأدبية والروابط الثقافية، تعرّف على الكثيرين من طلاب جيل العقاد وطه حسين والزيات والرافعي المخضرمين، واستفاد منهم.

وفي هذه البيئة تيسر له الاطلاع على بعض تراث العقاد في الميادين الأدبية والفكرية، كما قام بزيارة بلدة العقاد (أسوان)، والتعرف على جوانب من حياة العقاد الاجتماعية والثقافية؛ فتفرغ لقراءة شيء من كتبه ومقالاته.

وقد سبق للكاتب أن فاز – ضمن العشرة الأوائل - في مسابقة أدبية بالقاهرة 2005م عنوانها "العقاد ومقالاته عن  شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي-دراسة أدبية  تحليلية في20صفحة"، نظمتها إدارة رعاية الشباب بالأزهر عام 2005.

و تناولت في رسالتي للماجستير- التي نشرت في دار حميثرا بالقاهرة-:" المقال الأدبي عند العقاد جمعا ودراسة"، حيث وقع الاختيار على بعض مقالات العقاد الأدبية والنقدية،  فسارت الدراسة التحليلية بعد اختصار المقالة المختارة قدر الممكن، مع توخّي سلامة المعنى ووضوح الفكرة وقصد الإيجاز في اللفظ.

و أريد أن أشارك قراء" المثقف" بنظرات عابرة على "أدب المقالة "عند العقاد.

***

3926 المقال الادبيأصبح من نافلة القول أن يتساءل المثقف العربي العادي في هذا العصر: من هو العقاد؟

فقد ملأ العقاد عالم الأدب والفكر وشغل الناس بكتاباته ومعاركه النقدية والقضايا التي تناولها أو أثارها، واضطلع بمهمة عظيمة في صالح الدراسات الأدبية والنقدية.

و لفظ"الأستاذ" كاد ينحصر إطلاقه- في مصر-[1] علماً على عباس محمود العقاد، أديب وناقد وشاعر ومفكر وباحث فليسوف مصري، ولد في 28 يونيو 1889م، وتوفي العقاد  في 12 مارس 1964م، ومصر تحت تأثير هزيمة النكسة القاسية، والتي أحس العقاد بمقدمها يوما ما قبل أن تطويه عزلته عن السياسة مع شعب من حوله كان بين مطرقة الخوف وسندان النفاق.

كان للعقاد أعمال أدبية تندرج تحت فنون كثيرة، فقد قال الشعر وأكثر، وشارك في تنشيط الحياة النقدية على عصره، وكتب مقالات متعددة في موضوعات متنوعة.

ولم تشغله المقالة السياسية عن المقالة الأدبية والعناية بالأدب وفنونه، ويتقدم الزمن فإذا به يكثر من المقالات الأدبية في صحيفة "البلاغ" ثم تصدر هذه الصحيفة ملحقا أسبوعيا فيغذيه بمقالاته، وقد بدأ اتجاهه في الأدب والنقد يظهر ويتسع ليكون بعد ذلك فكرا قائما بذاته يتعدى حدود لينتشر في ربوع العالم العربي كله.

وخلف العقاد ثراء أدبيا وفيرا، وإرثا فكريا راقيا، ومؤلفات ثقافية متنوعة، إلى جانب أعداد هائلة من المقالات المتنوعة في الآداب والفكر والعلوم والتراجم والسير والسياسة.

ولا تخفى إسهاماته في تناول الشخصيات التاريخية لا تؤذن بحصر، إضافة إلى كونه المؤسس الرئيسي لمدرسة الديوان النقدية في الشعر العربي.

المقالة المختارة في "أدب المقالة[2]" عند العقاد

نَشَر الكاتبُ المطبوعُ الدكتورُ زكي نجيب محمود جملةً من مقالاته في مجموعة سمَّاها باسم إحدى هذه المقالات، وهي «جنة العبيط».

ولو شاء الكاتبُ المطبوعُ لسمَّاها «ج هنم الحصيف»..؛ لأن هذه المقالات في جملتها تدل على هذه «الجهنم» التي يعانيها الحصيفُ في حياته..

لا جرم، جعل الدكتورُ زكي شرطَ المقالة أن يكون الأديب ناقمًا، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لونٌ باهتٌ من التفكه الجميل، فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها..، فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثير أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة، وإن شئت فاقرأ لِرَبِّ المقالة الإنجليزية أدسن ما كتب، فلن تجده إلا مازجًا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح.

.. ولكننا نُرِيد أن نقول إن «المقالة» أنواع وليست بنوع واحد، وإن اسمها في العربية لا يحصرها في هذا الغرض الذي أَحَبَّ الأستاذُ أن يقصرها عليه..

يقول الأستاذ: إن المقالة يُشترَط فيها «أن تكون على غير نسق من المنطق؛ أن تكون أقرب إلى قطعة مشعثة من الأحراش الحوشية منها إلى الحديقة المُنَسَّقة المنظمة …» ويقتبس رأي جونسون الذي يرى: «أنها نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام …» قطعة لا تَجْري على نسق معلوم ولم يتم هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المُنَظَّم من المقالة الأدبية في شيء.»

ومما لا خلاف عليه أن هذا التعريف يصدق على نوع من المقالة يزداد شيوعًا بين الغربيين كُلَّما شاعت الصحافة وشاعت معها أساليبُ الكتابة العاجلة، ولكنه لا يحصر جميع المقالات الأدبية..

فالكلمات التي تُطلَق على المقالة في اللغات الأوربية يوشك أن تُفِيد كلُّها معنى المحاولة والمعالجة؛ فكلمة Essay وكلمة Sketch وكلمة Treatise بل كلمة Study، وهي تُترجَم أحيانًا بمعنى الدراسة لا يعدو القصد منها في بداية وضعها أن تُفِيد معنى المحاولة التي يعوزها الصقل والإنجاز..، وينقلونها إلى الموضوعات الأدبية على سبيل الاعتذار لا على سبيل الاشتراط، كأنهم يتَّقُون نقدَ الناقد بهذه التسمية..، كما فعل الفيلسوف مونتاني أبو المقالة الأوروبية، حين سمَّى فصوله بالمحاولات..

وكلمة Article وهي أبعد قليلًا من هذا الغرض، تفيد معنى الفاصلة أو الجزء، ويقابلها عندنا معنى «الفصل» الذي يستقل بموضوعه..

لكن هذه المعاني لا تستوعب أغراض المقالات كلها في الكتابة الأوروبية أو في الكتابة العربية.

.. ولا يخفى أن البحث لا يُشترَط أن يكون كتابًا ضخمًا أو كتابًا صغيرًا في عدد الصفحات..؛ لهذا نقول: إننا في حاجة إلى اسم غير اسم المقالة للدلالة على نوع المقالات التي يعنيها الأستاذ نجيب. فهل نسميها العجالة؟ أو نسميها النبذة؟ أو نسميها الأحدوثة؟ أو نسميها الأملية؟ أو نسميها المسامرة؟

إن اسمًا من هذه الأسماء أدل عليها من اسم المقالة على إطلاقه، وقد عرفنا الأمالي والمسامرات والنبذ والعجالات في الأدب العربي، فرأينا فيها مسحة من أسلوب المقالة كما شاع بين الأوروبيين في العصر الحديث.

على أنني لا أدري هل أقرظ «جنة العبيط» أو أنقدها حين أقول إنها تشتمل على مقالات لا تنطبق عليها الصفة التي قَيَّد بها كاتبُها موضوعَ المقالة الأدبية..

إلا أن فيلسوفَنا عدوَّ الفلسفة قد استطاع أن يحرص على هذه الفضائل وأن يتجنب المنطق والنظام في بعض المقالات الأخرى فلم يخطئه التوفيق؛ لأنه قد استطاع مع ذلك أن يقول شيئًا تلذ قراءته ويستجيش الذهن إلى التفكير.

قال في مقال «النساء قوامات»: إذا عشت في أمة هازلة حَمَلَكَ الناسُ محمل الهزل إن كنت جادًّا، وأخذوك مأخذ الجد إن كنت مازحًا.

ثم قال: «ولست أرى لك حيلةً سوى أن تُقْسِم لهم في مستهل الحديث بالذي بسط لهم الأرض ورفع السماء إنك فيما تحدثهم به إنما قصدتَ إلى الجد ولم تقصد إلى المزاح.»

وأحب أن أقول للكاتب الفاضل إنني أعرف هذه الخصلة جد المعرفة؛ لأنني كثيرًا ما كنت من ضحاياها. ومن ذاك أنني اقترحتُ مرة على مسمع من شيوخ عقلاء أن تعمد الحكومة إلى.. إخراج الشيوعيين مرتين في كل يوم «طابورًا» واحدًا يمر كل يوم في حي من أحياء المدينة؛ ليرى الناس بأعينهم أي «خلق مقلبة» هذه التي تريد أن تقلب العالم على من فيه؛ فضحك الشيوخ العقلاء! وكتبت ذلك من قبل ومن بعد؛ فضحك القراء الألباء. مع أنني والله جادٌّ فيما أقترح، ولا أزال مُصِرًّا على هذا الاقتراح.

أيرى صديقُنا الدكتورُ نجيب أن هذه مقدمة مُطَمْئنة في صدد الكلام على مقترحاته؟

ليتمهل قليلًا … أقل من لحظة واحدة؛ لأنني سأقول له على الأثر إنني أحسبه مازحًا فيما كتب، وأحسبه مُحَقَّقًا لشرط المقالة في تمهيده، ولن يثنيني عن هذا الحسبان قَسَمٌ بباسط الأرض ورافع السماء، ولا إنذار يُلوَّح به في خاتمة أو ابتداء.

.. ولا حاجة إلى سؤال أكثر من السؤال عمن يعلق الجرس!

هل تتقدم النساء فيستولين على القِوامة بأيديهن؟! إن استطعن ذلك فلا حاجة إلى اقتراح..، أم يَعْجزنَ عن ذاك ويَكُنَّ مع هذا قادرات على القِوامة؟!

لا منطق هنا ولا نظام، ولكنه مزاح على شرط المقال في تمهيد «جنة العبيط» … وحقِّ باسط الأرض ورافع السماء!

وإنما أَسُوق هذا التعقيب؛ لأخلص منه إلى نتيجة لا تجافي المنطق ولا النظام، فأقول للأستاذ نجيب: اكتب على شَرْطك أو على غير شَرْطك، ما دُمْتَ على الحالَيْن تقول ما يَطِيب وتقول ما يُصِيب.

نظرة في مقالة "أدب المقالة"

هذه المقالة ترد في نطاق تحديد المفاهيم الأدبية، يؤصل بها الكاتب الضوابط والمعايير الأساسية للمقالة الأدبية. وقد تناول الموضوع من خلال قراءة نقدية متأنية في مجموعة مقالات الدكتور زكي نجيب محمود "جنة العبيط".

تحددت الفكرة الأساسية للمقالة في الفقرة الثالثة (جعل الدكتورُ زكي شرطَ المقالة أن يكون الأديب ناقمًا، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لونٌ باهتٌ من التفكه الجميل..).

افتتح الأستاذ العقاد بذكر كتاب الدكتور ثم سخر من عنوانه قائلا: (ولو شاء الكاتبُ المطبوعُ لسمَّاها «جهنم الحصيف»).

و أخذت الفكرة النقدية تتجاوز فاتحة المقالة لتنفذ في نقد المضمون، حيث بدأ بنقد مفهوم "المقالة" لدى الدكتور والكتاب الغربيين عموما، فهي عندهم لا تعدو أن تكون محاولة أو معاجلة لا تنضبط بقواعد محكمة (أن تكون على غير نسق من المنطق) أو هي (أنها نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام..). فما هي إلا قطعة تجري على غير نسق معلوم ولا تكتب من تجربة صادقة بأسلوب راقي وفكر ناضج.

لهذا نجد أن المصطلحات الغربية المختلفة التي تدل على المقالة تدور حول المحاولة والمعالجة؛ (فكلمة Essay وكلمة Sketch وكلمة Treatise بل كلمة Study، وهي لا يعدو القصد منها في بداية وضعها أن تُفِيد معنى المحاولة التي يعوزها الصقل والإنجاز..)، وكذلك (كلمة Article ..، تفيد معنى الفاصلة أو الجزء، ويقابلها عندنا معنى «الفصل» الذي يستقل بموضوعه..)، و"المقالة" أنواع وليست بنوع واحد، فماذا نسمي هذا النوع إذا؟ (فهل نسميها العجالة؟ أو نسميها النبذة؟ أو نسميها الأحدوثة؟ أو نسميها الأملية؟ أو نسميها المسامرة؟).

وفي  يقوم بجولة نقدية في مقالة "النساء قوامات" للدكتور في "جنة العبيط أو جهنم الحصيف"، ثم يحدد المفهوم الصحيح للمقالة ويوضح ضوابطها، فقال الدكتور: (إذا عشت في أمة هازلة حَمَلَكَ الناسُ محمل الهزل إن كنت جادًّا، وأخذوك مأخذ الجد إن كنت مازحًا. ثم قال: «ولست أرى لك حيلةً سوى أن تُقْسِم لهم في مستهل الحديث بالذي بسط لهم الأرض ورفع السماء إنك فيما تحدثهم به إنما قصدتَ إلى الجد ولم تقصد إلى المزاح.»).

بين العقاد أنه قد عاش تجارب كثيرة، هي تصب في هذا المصب، فقد كان اقترح للحكومة اعتماد طريقة لمكافحة الشيوعيين؛ بإخراجهم مرتين في "طابور" واحد (يمر كل يوم في حي من أحياء المدينة؛ ليرى الناس بأعينهم أي «خلق مقلبة» هذه التي تريد أن تقلب العالم على من فيه؛ فضحك الشيوخ العقلاء! وكتبت ذلك من قبل ومن بعد؛ فضحك القراء الألباء. مع أنني والله جادٌّ فيما أقترح، ولا أزال مُصِرًّا على هذا الاقتراح).

والعقاد يرى أن النساء لو استولين على القوامة فهل هن بحاجة إلى اقتراح؟ أم سوف يعدن غير قادرات بعد مضي فترة الاقتراح؟. فالفكرة الأساسية لهذه المقالة لا تعتمد على (منطق ولا نظام، ولكنه مزاح على شرط المقال في تمهيد «جنة العبيط» … وحقِّ باسط الأرض ورافع السماء!).

الخلاصة أن المقالة –بهذا المفهوم الغربي- لا تصلح أن تسمى كذلك، بل هي مجرد محاولة، لا تناقش ولا تنقد؛ إذ كتابها (يتَّقُون نقدَ الناقد بهذه التسمية). وعلى هذا فإن اسما كالعجالة، أو النبذة، أو الأحدوثة، أو الأملية، أو المسامرة – أوضح دلالة وأدنى إلى هذا المفهوم  (وقد عرفنا الأمالي والمسامرات والنبذ والعجالات في الأدب العربي، فرأينا فيها مسحة من أسلوب المقالة كما شاع بين الأوروبيين في العصر الحديث).

تندرج هذه المقالة في قائمة المقالات التي وضع بها العقاد تعريفاً لمفهوم المقالة، وحدد ما يشترط في المقالة من ضوابط ومعايير فنية وعلمية.

والعقاد يستنتج من هذه المناقشات النقدية لمفهوم المقالة الصحيح؛ ليخلص منها (إلى نتيجة لا تجافي المنطق ولا النظام، فأقول للأستاذ نجيب: اكتب على شَرْطك أو على غير شَرْطك، ما دُمْتَ على الحالَيْن تقول ما يَطِيب وتقول ما يُصِيب).

و بنية الجمل في المقالة محكمة في نظمها، يظهر عليها النفس، كما اتسمت بثروة المفردات، واستخدم العقاد- كعادته- الاستدلالات المنطقية والملاحظات الدقيقة. فمن تلك الملاحظات: أن جميع المصطلحات على "المقالة" لا تتعدى (معنى المحاولة والمعالجة)؛ فإنها لا تستوعب أغراض المقالات كلها في الكتابة الأوروبية أو العربية على السواء.

وقد اتصف أسلوب العقاد في بعض المواضع بشيء من السخرية (لا منطق هنا… وحقِّ باسط الأرض ورافع السماء!)، ومثل هذا قوله: (ولا حاجة إلى سؤال أكثر من السؤال عمن يعلق الجرس!) وكذا قوله: (اكتب على شَرْطك أو على غير شَرْطك، ما دُمْتَ على الحالَيْن تقول ما يَطِيب وتقول ما يُصِيب)، بيد أن المقالة أنواع وليست بنوع واحد.

ونلاحظ أن الكاتب قد استشهد بتجربته الخاصة التي عاشها، ذلك الاقتراح الذي دعا العقاد إليه؛ لمكافحة الشيوعية وهو في ذلك جاد فحمل اقتراحه محمل الحذر!

واستطاع العقاد أن ينقد مفهوم المقالة الذي قرره الدكتور مما كان قد درج عليه أكثر الكتّاب الغربيين، بأسلوب علمي منطقي، حيث أوضح أن ضوابط المقالة أوسع مما حصروها فيه برؤيتهم؛ وما ذلك منهم إلا تهرّبًا من النقد والسلامة منه. ولعله خفي عليهم أن المقالة أنواع عدة، وأنها تخضع لمجموعة من القواعد المحكمة، والضوابط الخاصة، وإنما يستحق أن يسمى هذا –المقالة عندهم- بالمحاولة أو المعاجلة أو النبذة أو غيرها دون "المقالة"؛ لأنها (في العربية لا يحصرها في هذا الغرض الذي أَحَبَّ الأستاذُ أن يقصرها عليه..).

فالمقالة جيدة النظم وواضحة الفكرة، وتهدف إلى تحديد بعض المفاهيم والمصطلحات الأدبية المهمة، حتى تتضح المعالم؛ خاصة في تلك الفترة من عمر الأدب.

و إذا كانت الدقة مطلوبة، فإن التكلف والتصنّع عيب في إعداد المقالة.

و يبدو اتساع الأفق والثقافة العريضة، والمعرفة الجيدة باللغات الأوربية،[3]و العمق والدقة في تناول القضايا، نتيجة النزعة الفلسفية التي كان ينزع عنها عادة؛ وتلك سمات تميز بها العقاد في كتاباته، خاصة الأخيرة منها، وكان اتصال العقاد بنتاج الفلاسفة الألمان مبكرا من أمثال شوبنهور ونيتشة (ولعل ذلك ما جعل كتاباته تتسم مبكرة بشيء من الغموض الذي يشيع في الفلسفة الألمانية. وربما كان يقتصد في ألفاظه اقتصادا شديدا، بل يعمد عمدا إلى إفراغ مادة معانيه في أوجز لفظ.. فهو عنده وعاء لفكره وكل ما يطلب فيه أن يؤدي هذا الفكر في قوة، ولعله لذلك امتاز أسلوبه بالقوة والجزالة والكلمات الطويلة..."[4].

و لعل مما يستدعي إعادة القراءة المتأنية والنظرة الواعية قول العقاد في نقده البنائي السابق:" فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثير أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة، وإن شئت فاقرأ لِرَبِّ المقالة الإنجليزية أدسن ما كتب، فلن تجده إلا مازجًا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح".

و يبدو – بمراجعة سريعة-أن الأستاذ العقاد قد وقع في أمر ينقد به نفسه، وهذا الاستدلال الذي بنى عليه الحكم في الفقرة يعوزه القوة التي ينتهض بها حتى يكون برهاناً على صحة ما بنى عليه حكمه العام بأن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثير أو قليل"، والعطف بـ"أو" هنا كاد يزيد الطين بلة، وهو كذلك فيما يظهر.

ذلك أنه قد ينقل الموضوع إلى فكرة المفاضلة بين المقالة والأنواع الأدبية الأخرى – كالشعر،و هي فكرة استأثرت باهتمام النقاد والكتّاب، وتجاذبت حولها الآراء قديما وحديثاً.

ويظهر أن لكل منهما ما يميزه عن صاحبه، وأن لهما جميعا من الأهمية الأدبية والفكرية والاجتماعية التي تأتي استجابة للواقع والأحوال الخاصة.

***

خليل حمد

.....................

[1] يُطلق الأستاذ على العقاد كثيرا في زمانه، وفي الصالون الأدبي إذا أُطلق اللفظ فلا يتجرأ أحد أن يلتفت غير العقاد، وكان  يرى أنه أحق الناس بهذا الاسم،كما يحكي ذلك تلميذه أنيس منصور في كتابه" في صالون العقاد كانت لنا أيام".غير أن هناك في مصر في تلك الفترة أستاذ آخر أيضا يرى أحقيته بهذا الاسم،وهو الإمام محمد عبده؛ فهما أستاذان؛ ولهذا كان بعضهم يقول في تلك الفترة:"الأستاذ الإمام" حيى يميز الإمام محمد عبده من العقاد الذي يصفه بالأستاذ الأديب، أو عملاق الأدب؛ لكن  الوصف رافق –أيضا-اسم "لطفي السيد" أيضا يُعتبر" أستاذ الجيل"، فهم أساتذة، أعيان الأساتذة.

و أحب الأوصاف إلى العقادأ ن يقال عنه:"شاعر"، ولكن لم يشتهر به؛ وإن كان حقاًّ شاعراً له إبداعاته.

[2] نشرت في  مجلة "الرسالة" 2/08/1948م

[3] هذا، وساعده إتقانه للإنجليزية كثيرا في النهوض بالموسوعة الفكرية التي كان يمثلها؛ فقد تمثل عن طريقها ليس فقط الأدب والفلسفة الإنجليزية، ولكن كذلك الآداب والفلسفات الغربية الأخرى كالألمانية والفرنسية والإسبانية، و"لا يختلف اثنان في أن العقاد أكبر كاتب عربي معاصر خالط الأوربيين في أدبهم وفنونهم وعلومهم وفلسفاتهم الميتافيزيقية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية. وآثار هذه المخالطة تشيع في جميع كتاباته حتى ليصبح جسرا مهما في عبور العقلية العربية الحديثة من شاطئ الركود الى شاطئ النهوض) (ضيف، شوقي، مرجع سابق:57)10.

[4] ضيف، شوقي، مع العقاد. القاهرة: دار المعارف، 1988م:55.

في المثقف اليوم