كتب واصدارات

الوليمة الباردة.. عرض لكتاب جديد للدكتور إسماعيل نوري الربيعي

عن منشورات الجمل، التي يديرها الشاعر المبدع خالد المعالي، صدر للباحث وألأكاديمي العراقي الأستاذ الدكتور إسماعيل نوري الربيعي، كتاب الوليمة الباردة العراق؛ رهانات الهوية المتشظية. الوليمة الباردة. ذلك هو حال العراق، الذي ما انفك يعيش أحوال الفريسة التي ينقض عليها الجميع. وصفه المؤرخ الإغريقي هيرودوت بــ سرج الرياح، كناية عن ساحة الحرب الناشبة بين الحضارات والأمم والقبائل والدول والمجتمعات. وليمة تكالب عليها اللئام والطامعون والحاذقون والمستذئبون، وكل ما خلق الله من أنواع. وليمة مرّ عليها الكافرون والملحدون، الفسقة الفاجرون. المؤمنون الصالحون، والعابدون الزاهدون. العقلاء والمجانين، الراسخون في الجهل كما الراسخون في العلم، المقبلون طرا نحو هذه الأرض (المزار المشتهاة) بحسب تعبير الشاعر كاظم الحجاج. لكنها ظلت وليمة، وباردة.

على الرغم من حرارة أفئدة أبنائها، ودفء مشاعر أهليها، وسخونة عواطف مواطنيها. إلا أن الفقد والكرب والحزن، يبقى فاردا قلوعه على فضاءاتها ومساحاتها وأشيائها الكثيرات. بلاد لا ترعوي عن محو حوافر خيل الغزاة، وما ترددت يوما عن تكسير سنابك جيوش الفاتحين. أرض تشرئب للمحن، تداوي عللها بالصبر، وتضمد جراحها بالمروءة. إن غدت اليوم وليمة باردة، تستهدفها الوحوش الكاسرة، راغبة في إذلالها والسطو على عنفوانها، إلا أن أبناءها الصيد الميامين، ما لبثوا ينهضون، مقارعين الأحوال والأهوال. مشرئبين للقادم من الأيام، بكل ما فيها من ألوان وأحداث وأجداث، ومصاعب وأفراح ومسرات.

وليمة باردة، هكذا يتراءى لمن لا يعرف هذه البلاد عن كثب. يظن فيها الظنون. ويعتقد حتى يدخل في روعه أنه قد تمكن منها، وهيمن على مقدراتها، وجعل منها رهينة لإشباع نزواته ورغباته وشهواته. لكن هذا القنوط والبرود والتداعي، سرعان ما يتهاوى عبر لحظة لحظة اليقين التي تقوم عليها هذه البلاد. فهي ليست باللقمة السائغة، ولا النطيحة المتردية. إنها البلاد التي يجوسها الأمل، وتينفس بين ظهرانيها الخشوع والتبتل والحِلم. بلاد ينهض فيها الوليد، يستحث إرادة الحياة، يستنهض المروءات والاعتزاز والحبور والفخار. بلى هذه البلاد تعيش أحوال قنوطها في لحظتها الراهنة. لمنها تبقى مرفوعة الرأس بأبنائها الغر الميامين.

الوليمة الباردة؛ العراق رهانات الهوية المتشظية، عنوان كتاب يعالج القضية العراقية، تلك التي ما فتأت تحضر إلى الواجهة لمبررات جمة وشتى.

عالج الفصل الأول مسألة الدستور العراقي الذي صدر عام 2005، في أعقاب التغيير الذي شهده العراق. دستور عقد عليه الأمل في بناء عراق ديمقراطي، يقوم على مبدأ الدولة المدنية وتجليات المجتمع المدني والشفافية والمساواتية والعدالة، وتكريس الحقوق الأساسية للإنسان العراقي. إلا أن القراءة الفاحصة، والتدقيق الهادي في تفاصيل هذا الدستور سرعان ما يكشف عن نزوع صدر من قبل المشرعين، يقوم على المحاصصة البغيضة، والحرص الشديد على تكريس نفوذ النخبة الحاكمة. دستور يقوم الاستهلال فيه على المزيد من الشحنات العاطفية، والتراكيب اللغوية التي لا تمت بأي صلة باللغة الدستورية والتشريعية، المستندة إلى الوضوح والمباشرة. دستور وضع نفسه حبيسا في الماضي، وأضاع التاريخ.

الفصل الثاني: التفاوض حول العراق؛ قراءة في ضوء نظرية الخيال السوسيولوجي. حاول من خلال منهجية الخيال السوسيولوجي التي أسس لها عالم الاجتماع والفيلسوف رايت ميلز، رصد اللحظات التاريخية التي سبقت الإعلان عن الكيان العراقي. والطريقة التي تفاوض بها الساسة (البريطانيون تحديدا) حول طريقة بناء هذا الكيان السياسي، والتركيز على حساب الحقل والبيدر والجدوى الاقتصادية، وحساب المصالح. لحظة برع فيها لويد جورج في تفاوضه مع الفرنسيين، وعمل على تنفيذها الدقيق ونستون تشرشل. فيما تبقى اللواحق والتوابع تشير إلى حضور لــ برسي كوكي والمس بيل.

الفصل الثالث: حاول التوقف عند ثورة العشرين العراقية، بوصفها منعطفا تاريخيا في حياة العراق السياسية. المعالجة توقفت عند مفهو الذاكرة، وطريقة التعاطي مع الأحداث التاريخية. حيث التطلع نحو نزع القداسة عن الماضي، مع أهمية التعاطي مع الحدث بروح تاريخية علمية، تقوم على الإعلاء من شأن التفكير الناقد النائي بنفسه عن المسلمات والمقدسات. مع أهمية الإقرار بأن الحدث التاريخي، غنما هو يقوم على الصناعة الإنسانية، بكل ما فيها من تفاصيل ومدركات ورؤى وتصورات.

الفصل الرابع: ركز على قراءة ؛ رهانات الهوية المتشظية قراءة في التقرير السري للملك فيصل الأول عام 1932. والذي لخص فيه رأيه بالوضع العراقي بصراحة غير معهودة، وآراء صادمة تصل إلى الاحباط. وعلى طريقة التداعي الحر، أفرغ الملك فيصل مكنون نفسه، حول الحالة العراقية. لكن كل هذا الجهر، كان قد انطوى على الكتمان والسرية. فكل ما صرح به الملك فيصل الأول لم يزد في الواقع عن مذكرة داخلية (شديدة السرية) توجه بها إلى رجال النخبة الحاكمة، من حاشيته المقربين.

الفصل الخامس: حاول دراسة موضوع دولة السطوّ الشرعي، تشريع الكلبتوقراطية في العراق في ضوء نظرية العدة الأيديولوجية للدولة، حيث التوجه نحو قراءة ظاهرة الفساد الإداري، التي انتشرت في عراق ما بعد 2003 بشكل لافت ومريع. لا سيما بعد أن توطنت فكرة المحاصصة في مفاصل الدولة العراقية. حاولت القراءة تتبع أصل الفساد وأسبابه والعوامل التي ساهمت في تفاقم هذه الظاهرة المريعة والمقيتة.

خاتمة الكتاب: ركزت على قراءة مابعد الديمقراطية ؛ المعرفة بوصفها سلعة لها فائدة، وسعت إلى تتبع الركائز المعرفية التي تقوم عليها فكرة الديمقراطية، والتطورات التاريخية والفكرية التي نالت من هذا المفهوم. الواقع أن الخاتمة حاولت الوقوف على مفهوم (ما بعد الديمقراطية) والتي يشكل مدارا نقديا، ظهر مؤخرا على يد كبار المفكرين والمنظرين السياسيين. دراسة ما بعد الديمقراطية لها ما يبررها في أن تكون خاتمة للكتاب، باعتبار أن التغيير الذي نال العراق، إنما يقوم على فكرة الدمقرطة التي بشرت بها الولايات المتحدة، في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي، وبروز ظاهرة القطب الواحد الذي تمثل في الولايات المتحدة، والتنظيرات المرافقة لها، لا سيما على يد الفيلسوف السياسي فوكوياما حول الديمقراطية بوصفها النموذج النهائي للسياسة في العالم.

***

في المثقف اليوم