كتب واصدارات

مرحبا بكم في السلوك "الكلبيّ" للفلسفة

عندما أجد كتابا عليه اسم المترجم التونسي "ناجي العونلي" اقتنيه على الفور، لثقتي الكبيرة باختيارات هذا المترجم المتميز، يكفي انه تصدى لترجمة واحد من اصعب كتب الفيلسوف الالماني هيغل " فنومينولوجيا الروح"، علما ان كتاب هيغل سبق ان ترجمه الى العربية المترجم الهيغلي الكبير امام عبد الفتاح امام، لكني حرصت على اقتناء نسخة ناجي العولني ايضا.. قبل اسابيع وجدت اسم العونلي على كتاب بعنوان " نقد العقل الكلبي " للفيلسوف الالماني بيتر سلوتراديك من منشورات دار الجمل، ورغم انني لا اعرف الشيء الكثير عن سلوتراديك، فلم يترجم له حسب علمي سوى كتابه الشهير " الانجيل الخامس لنيتشه " وقبل ايام وصلني كتابه " أمزجة فلسفية " ترجمة جميلة حنيفي. إلا ان العنوان " نقد العقل الكلبي " كان مثيرا ومستفزا بالنسبة لي خصوصا انني شغوف بقراءة كل ما يتعلق بالفلسفة الكلبية التي اسسها الفيلسوف " أنتستينس " في القرن الرابع قبل الميلاد والذي كان يعلم تلامذته في ساحة تسمى " الكلب السريع ". وكان أنتستينس هذا قد كرس نفسه لمتابعة سقراط حيث اعجبه استقلال هذا الفيلسوف، واذا عرفنا ان سقراط كان لا يكترث للثروات ولا بمديح الناس له. فقط كان هدفه الحصول على الحكمة الخيرة، فان أنتستينس جعل من الاستقلال مثلا اعلى لحياته، كان يردد ان الفضيلة وحدها كافية لتحصيل السعادة. والفضيلة في نظره هي غياب الرغبة والتحرر من الحاجات، وهي الاستقلال التام. الفضيلة هي الحكمة، غير ان هذه الحكمة تعتمد اساسا على قيم الغالبية العظمى من البشر، اما الثروات والانفعالات، فهي ليست خيرات حقيقية. الفضيلة اذن، هي الحكمة لمن تعلمها، والرجل الحكيم إذا ما تسلح بهذه الفضيلة لا يمكن ان يصيبه أيُ ما يسمى بشرور الحياة.

واعود لكتاب سلوتردايك" نقد العقل الكلبي "، الذي نشره عام 1983 وأصبح  الكتاب الفلسفي الاكثر مبيعا في المانيا وترجم الى العديد من اللغات ووضع صاحبه في مصاف الفلاسفة المشاغبين الكبار، حتى اطلق عليه لقب "النيتشوي الجديد"، وشكل مع السلوفيني سلافوي جيجيك، والفرنسي ميشال أونفري، ثلاثي يثير ضجيجا فلسفيا اينما حل. فهؤلاء الفلاسفة الثلاثة يرون ان الفلسفة يجب ان تفكر بشكل جريء وان يتخلى الفيلسوف عن عالمه الضيق ، لعالم اوسعا افقا ورحابة، وان يخرج من صومعته الاكاديمية الى الناس اينما كانوا.

 ولد بيتر سلوتردايك في السادس والعشرين من حزيران عام 1947 لاب من اصول هولندية وام المانية.. قرأ الفلسفة منذ ان كان طالبا في الاعدادية، اثارته افكار نيتشه الذي قال عنه ان قلبه خفق عندما قرأ كتابه "هكذا تكلم زرادشت" ، حتى اعتبر نفسه "  سليل نيتشوي " مدفوعا بالغرام بديناميت الفلسفة الذي اخبرنا ان لا احد سيفهمه إلا بعد مرور مئة عام على رحيله، وقد حقق سلوتردايك امنية الفيلسوف الالماني الراحل حين القى عام 2000 محاضرة بمناسبة مئة عام على رحيل نيتشه تحولت فيما بعد الى كتاب بعنوان " الانجيل الخامس لنيتشه " – ترجمة علي مصباح – فمن هو نيتشه الذي يريد سلوتردايك استعادته؟.. انه المرشد لروح الحداثة " قائد الاستهواء الممتع في إبداع اشكال حياة " – امزجة فلسفية ترجمة جميلة حنيفي – ولأن نيتشه تحول الى فيلسوف مجرم بعد الحرب العالمية الثانية وما جلبه غرام هتلر بكتاباته من آثام، فان سلوتردايك وجد ان مهمته ان يتدخل ليعرض عمل نيتشه الحقيقي تحت مرآة مختلفة، نرى فيها الفيلسوف الالماني الذي قضى سنواته الاخيرة مريضا الى ان فارق الحياة في الخامس العشرين من آب عام 1900 ـ بصورة مختلفة " نيتشه الواهب، نيتشه الشبيه بشمس الظهيرة التي تلهب وتبهر لا لشيء إلا لتذكرنا بالطاقة اللامتناهية التي تؤسس الحياة." نيتشه الذي يكره المعلمين والمريدين ويطردهم من حوله، ويدعوهم الى التمرد عليه والتنكر له، نيتشه الذي قال ذات يوم:" ادرت ظهري إلى الحاكمين عندما رأيت ما الذي يسمونه اليوم حكما: السمسرة والمساومة على السلطة – مع الغوغاء " – انساني مفرط في انسانيته ترجمة علي مصباح -. ولهذا يرى سلوتردايك ان كل توظيف لنيتشه وفكره سواء من قبل السياسيين او أية مدرسة فكرية ليس سوى سطو واغتصاب.

ومثلما كان نيتشه عصيا على التدجين ومشاغب ومزعج، فان سلوتردايك الذي تعلق بصاحب "هذا هو الانسان" يبدو اليوم مزعجا للمؤسسات الثقافية والسياسية، ومشاغب، يعتبر نفسه فيلسوف كلبي يفتفي اثار نيتشه كما كان نيتشه يقتفي اثار الفيلسوف الكلبي الشهير "ديوجين"، ففي واحدة من تأملاته يكتب فريدريك نيتشه انه كان يتنمى لو عاش في عصر ديوجين:" لكنت وقفت ساعات لمناظرته "، ويضيف لقد كان هذا الفيلسوف هو المبشر بجنس جديد من الفلاسفة  ما ذا سيسمى هذا الجنس؟ سيطلق عليه  الفيلسوف العدمي إميل سيوران اسم " الفيلسوف النباح " الذي لا يتوقف عن النباح في وجه معاصريه، وفي وجه كل قيمة من قيمهم التي تثير الشكوك.

في كتابه " العلم المرح " – ترجمة علي مصباح - يقدم نيتشه قصة ديوجين الذي اشعل مصباحا في يوم مشرق وانطلق الى السوق باحثا عن الانسان، لكنه عند نيتشه نجده يبحث عن الله ليعلن للجمهور ساخراً ان الإله قد مات:" لقد قتلناه انا وانتم ! نحن جميعا قتلناه..إلى اين نسير الآن وسط عدم لا نهائي؟ ألا يتنفس الفضاء الخاوي في وجوهنا؟ ألم يصبح اكثر برودة؟ ألا يجيء الليل باستمرار، اكثر ظلمة وحلكة؟."

سلوتردايك الذي يبدو اليوم اشبه بنجم سينمائي، يريد ان تتحدث الفلسفة الى الناس في جميع طبقاتهم وثقافاتهم  وان تعود للتمرد التي ينبع من تمردها على ذاتها، لتصبح شبيهة  بـ "الكلبية القديمة" التي وضعها ديوجين وجسدها كتجربة تعاش ولا توصف. فهي وحدها الفلسفة الجديرة التي ينبغي العودة إليها والنهل من منابعها الأصيلة حتى تصير الفلسفة تمردا وسخرية ومقاومة.

مثل نيتشه درس سلوتردايك الفلسفة والأدب الألماني  والاغريقي والتاريخ قدم رسالة الماجستير عام 1971 بعنوان "البنيوية بما هي تأويل شعري" وفي سنة 1972 كتب عن فوكو والنظرية البنيوية في التاريـخ، وله الكثير من المؤلفات المثيرة للجدل. وإلى جانب عمله أستاذا للفلسفة وعلم الجمال، نجح في نقل الفلسفة إلي التليفزيون الذي اطلق عليه تسمية " ساحة أثينا الجديدة"  من اجل ان تدخل الفلسفة الى البيوت وتتمشى في الشوارع وتخطب في الساحات، ألم يكن ديوجين يجوب الشوارع والاسواق مرتديا معطفا أسود اللون، مستندا إلى عصاه وهو يقول لكل من يسأله عن هدفه: "أنا أبحث عن الإنسان.". في عام  1976 حصل سلوتردايك على الدكتوراه في الفلسفة باطروحة بعنوان "الأدب وتدبير تجربة الحياة ". بعد نيله للدكتوراه يسافر الى الهند للدراسة على يد الفيلسوف المتصوف " باجون شري راجنيش " المعروف باسم " اوشو " ويعترف سلوتردايك بانه مدين بالكثير لافكار الفيلسوف الهندي وقد بدت تاثيرات هذه الفلسفة في محاولته للمزج بين البوذية والهندوسية والتحليل النفسي. رحلة سلوتردايك الى الهند امدته بقوة ابداعية جعلته يسعى لتغيير النظرة الى المعرفة التي يرى انها سلطة ولهذا نجده  يستدعي ديوجين الذي كان يؤمن بسلطة الفلسفة فنراه " بعكازه وجرابه وفانوسه يحضر بعينين ذاهلتين ندوة حول هيغل ومؤتمرات حول الاستراتيجية النووية وفائض ضريبة الاستهلاك، ويلتقي موجة من المصطافين على الطريق، ويتسكع في شوارع برلين. انه ديوجين الذي " ينتمي الى فلاسفة الحياة الذين تَكون الحياة في نظرهم، اهم من الكتابة والتصنيف " – نقد العقل الكلبي ترجمة ناجي العونلي –

يقوم عمل سلوتردايك في كتابه " نقد العقل الكلبي " على تحديد لفظة " كلبية " بطريقتين، هناك كلبية مشتقة من الارث الفلسفي اليوناني القديم الذي اسسه ديوجين، ويمثل نمط حياة موازي في كل من الفلسفة ونشاط الانسان اليومي. وهناك الكلبية المعاصرة المعبر عنها باعتقادات ساخرة في قوة العقل ويسخر منها سلوتردايك لانها لا تحمل ابدا الحياة محمل الجد، وبالتالي فان الكتاب يريد ان يسلط الضوء على مجتمع خال من المعنى، وعليه فلا بد للعودة الى اتباع تعاليم ديوجين لغرض اعادة توحيد الفلسفة مع الحياة اليومية.

كان ديوجين يشعر بالسعادة حين يطلق عليه لقب "الفيلسوف النباح"، فهو عاش ينبح في وجه معاصريه وفي وجه كل القيم التي تثير الشكوك.

يؤمن ديوجين ان على الانسان ان يقول "لا" حين يجب أن يقولها، اما اذا كنت تقول " نعم " في وقت كان عليك ان تقول " لا "، فانك تحول نفسك الى شخص لا يمكنه إلا ان يقول "نعم" ، حتى حين يكون هذا هو الوقت الذي يجب عليه ان يقول "لا"، إذا خنت نفسك، وتحدثت بالكذب والزور، وجسدت الاكاذيب فانك بذلك توهن شخصيتك، واذا كانت شخصيتك واهنة، فستقضي عليك الشدائد والمحن حين تظهر، وستحاول الإختباء لكن لن يكون ثمة مكان لتختبئ فيه، وحينها ستجد نفسك تفعل اشياء فظيعة

يرى سلوتردايك ان الفيلسوف المعاصر عليه ان يكون صادما وصادقا. ومثل أنتستينس ومن بعده تلميذه ديوجين يؤمن ان مهمة الفلسفة ارشاد ليس فقط اولئك الاشخاص الذين قدموا انفسهم بوصفهم طلابا بل اي فرد كائنا من يكون.الفلسفة كما يفهمها سلوتردايك تضيء بشكل مثير فلسفة تقاوم النظريات ليس بالممارسة، وإنما بالسخرية، فلسفة يطلق عليها تسمية فلسفة الوعي الساخر،  مهمتها مقاومة سلطة المؤسسات وبلورة فكر فلسفي ساخر، والخروج عن المألوف. فالسخرية بامكانها ان تثير الدهشة والتساؤل، وهي تعبير عن الإرادة  الحرة والواعية، حين تمارس قدراتها في تغيير ما هو قائم بالفعل.ولهذا يرى سلوتردايك ان الفلسفة يمكن لها ان تلعب دورا مهمّا في المجتمعات الراهنة. في السنوات الاخيرة وجه سلوتردايك نقدا لسياسات الهجرة، ويرى  ان الارهاب تحول من ارهاب افراد الى ارهاب دول.وان السياسة تحولت إلى شيء لاعقلاني تمليه الانفعالات.، كما يرى ان الديمقراطيات اصيبت بتعفن:" جَو ديمقراطياتنا شبيه بجو جناح طب السرطان في مستشفى كبير، حيث تنعدم ثقة المرضى في الطبيب…صار الحشد من الآن فصاعدا يحلم بنخبة جديدة تتميز لا بالكفاءات وإنما بالميزات التي كانت تنسب في الماضي إلى السحرة المعالجين، وما يقوي هذه الظاهرة هو تضمن السياسة دوما لعنصر إسقاط شبه ديني.".

وفي النهاية هل وجد بيتر سلوتردايك مصباحه الشبيه بفانوس ديوجين؟، لقد استقال من كرسي الجامعة وقرر ان يلاحق الناس في الندوات والفضائيات والمجادلات الحوارية والكتابة وان يقرع طبوله دون ان يخشى احد. انه النيتشوي الكلبي، ألم يصف نيتشه نفسه بالفيلسوف الكلبي وهو وصف حاسم:" ذهل عنه الناس في كثير من الاحيان، وبهذا الوصف صار نيتشه الى جانب ماركس، مفكر القرن الاكثر اهمية ووزنا " – نقد العقل الكلبي -.

عندما سُئل ديوجين لماذا يحب تسميته كلباً، أجاب: "، فأنا أصرخ على أولئك الذين يخافون، وأضع أسناني في الأوغاد".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم