كتب واصدارات

الأنوار لا تتزاحم.. عرض لكتاب محمد التهامي الحراق

"الأنوار لا تتزاحم" عنوان الكتاب الذي أصدره الباحث والكاتب المغربي محمد التهامي الحراق، عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر الرباط المملكة المغربية، 2022م.

تأتي أهمية هذا الكتاب، بكونه ينتمي إلى مجال الكتب والدراسات والأبحاث الجادة، التي تعنى بسؤال التجديد والتنوير، في التعاطي مع مختلف القضايا الراهنة، التي ترتبط بأسئلة الدين والتدين والفن والحرية والحضارة والحوار والنهضة... برؤية منهجية تحليلية يغلب فيها، جانب التركيب بنفس نقدي وتحليلي لمختلف الطروحات والرؤى ووجهات النظر الفكرية في مجال الثقافة العربية الإسلامية القديم منها والحديث، فعلى طول الكتاب تحضر نصوص ووجهات نظر لقامات علمية في مختلف مجالات المعرفة المتصلة بالفلسفة الإسلامية أو المتصلة بمجال العرفان والتصوف أو المتصلة بمجال الفلسفة الغربية، أو المتصلة بمجال الفكر العربي...

استحضار نفس البعد التركيبي في بسط موضوعات الكتاب، نابع من وعي صاحبه محمد التهامي الحراق، بالأهمية المعرفية لمختلف المشاريع الفكرية التي جعلت من التفكيك مدخلا أساسيا في قراءة وفهم وتحليل الموروث الثقافي الإسلامي، وقد ملأت هذه المشاريع المكتبة العربية الإسلامية منذ النصف الأخير من القرن العشرين، فلا شيء يتبع التفكيك ويليه غير التركيب، لقد تمكنت الحضارة المعاصرة اليوم من تفكيك كل شيء، وفصل مختلف المكونات عن بعضها البعض، وهي اليوم تعاني من أزمة منهجية حادة في التصورات التركيبية التي تنظر إلى الإنسان والظواهر والأشياء والكائنات في علاقة بعضها مع البعض الآخر، ومن هنا تأتي أهمية كتاب "الأنوار لا تتزاحم" بكونه يقرب القارئ من الأـزمة المعرفية التي تعاني منها الحداثة في نظرتها للحياة والوجود والإنسان، وذلك بإبعادها كل ما هو روحي وغيبي.

لا نقلل هنا من قيمة التفكيك ولكن لا ينبغي التوقف عنده، في سياق الفهم المتكامل لمختلف القضايا، وفي هذا الإطار نذكر بكون القرآن الكريم يضم عملية التفكيك والتحليل لما سبقه من الكتاب، كما هو بين يدي أهل الكتاب، وكذلك في حديثه عن مختلف الحضارات الضاربة في القدم، من قبيل الحضارة الفرعونية، وفي الوقت ذاته فالقرآن يقدم لنا رؤية قرآنية تركيبية للكتاب كله، يحضر فيها التداخل بين عالم الغيب والشهادة وبين عالم الحواس وعالم الروح، فالقرآن ليس همه التفكيك بقدر ما يهمه أن يحيي في الإنسان ويوجهه لأهمية الابعاد الكلية والتركيبية في نظرته لأخيه الإنسان وللحياة وللوجود.

فالسؤال هنا كيف تأتى للدكتور التهامي الحراق الوعي بأهمية التركيب؟ الجواب هنا بالنسبة للقراء الذين اطلعوا على كتابات التهامي الحراق، سيكون شبه بديهي، بكون الرجل مختص في البحث في مجال التصوف والعرفان في بعده الفكري والفلسفي والجمالي، والمقصود بالتصوف هنا لا يتوقف عند الطقوس والعادات... بل بكونه يمنحنا نظرة منفتحة للوجود وللحياة وللعالم، تلك النظرة التي تخرجنا مما هو ضيق إلى ما هو مفتوح ومما هو محلي إلى ما هو كوني، ففي هذا السياق يستحضر المؤلف قول جلال الدين الرومي "أينما كان النور فأنا الشغوف به  وأينما كانت الزهرة فأنا الفراشة، وأينما كان الجمال فأنا العاشق، وأينما كانت الحكمة فهي ضالتي..!"

في سياق الوعي المنهجي بأهمية سؤال التركيب جاء عنوان الكتاب "الأنوار لا تتزاحم" ففي الازدحام تضيق الأنفاس، ويضيق الناس بعضهم ببعض، لأن ما يميز الازدحام هو فوضى الوجهة والاتجاه، فحالة المسجد وهو ممتلئ بالمصلين لا يعد ازدحاما، والحج وهو ممتلئ بالحجاج والمعتمرين لا يعد ازدحاما، لأن وجهة واتجاه المصلين والحجاج والمعتمرين وجهة واتجاه واحد، هو الله الواحد الأحد، فصفوف المصلين وكذلك طواف الحجاج في حالة تكامل وتآلف لا ازدحام. كذلك هي الأنوار تتكامل وتتآلف، ولا تتعارض ولا تتصادم، في هذا السياق نستحضر قول صاحب الكتاب محمد التهامي الحراق (ص.22) قوله:" إن ما نطرحه هنا ينطلق من كون روح الأنوار واحدة في أنوار الإسلام وأنوار الحداثة، مثلها ينطلق من أن ثمة احتياجا متبادلا لانقاد كل واحدة للأخرى من الانحرافات التاريخية التي أدت إلى خيانة الأنوار فيهما معا. لذلك، فالأنوار بهذا المعنى لا تتزاحم، وهي حقيقة فزيائية أيضا" وقوله في (ص.19) " ليس القصد هنا استيفاء الحديث عن معالم الأنوار في المرجعيتين الحداثية الغربية والروحانية الإسلامية، وإنما القصد هو الإشارة إلى ثراء، حضور الأنوار في المرجعيتين، لكن بأفقين مختلفين، أزعم مع الزاعمين أن بالإمكان صياغة أفق ثالث برزخي تلتقي فيه أنوار المرجعيتين بحيث تتلاقى وتتكامل "هذا النص وما سبقه، ومثله كثير على طول صفاحات الكتاب، يكتنز تحريرا منهجيا من معضلة التفكير بمنطق الثنائيات من قبيل: الدين/ العلم. الإسلام/ العلمانية. الغرب/ الشرق

الكتاب يغطي 330 صفحة، ويتكون من مدخل وفصلين، الفصل الأول: طروح نقدية، والفصل الثاني: عبارة عن حزمة حوارات أجرتها الأستاذة سناء بن سلطن مع المؤلف، ولا شك أنه مساهمة جادة في بسط رسالة التنوير.

***

د. صابر مولاي احمد

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية

 

في المثقف اليوم