كتب واصدارات

رينوار بقلم رينوار

الرسامون هم بين الباحثين عن حجر الفلاسفة، هؤلاء الذين إقتربوا من طبيعة سر التوازن الكوني. من هنا نشأت أهميتهم في الحياة العصرية. أنا أعني الرسامين الحقيقيين، العظام.العلماء، مثل الرسامين، يجرون وراء سر الحياة، والحقيقيون، العظام منهم، يخرقون ما وراء المظاهر. وبحثهم نزيه أيضاً، وهو يعني شيئاً بسيطا جداً :إعطاء البشر الجنة الأرضية ثانية.

جان رينوار من كتابه " رينوار... أبي"

كان أبي ينتظرني جالساً على كرسيه المتحرك، لم يعد يقوى على المشي، منذ سنوات عدة، وجدته أكثر هزالاً من المرة الأخيرة التي رأيته فيها قبل أن أغادر إلى الجبهة"

مذكرات جان رينوار التي نشرتها دار المدى بترجمة عباس المفرجي، حدث فني وثقافي بالغ الأهمية والأثر، استوت فيه لغة الأدب على عرش الفن، بالغ الاقتصاد، بالغ الإفصاح، مقتدر في التعبير عن خفايا النفس البشرية، رحب في المضمون، يضم أسرار فترة زاهية من التاريخ الثقافي في فرنسا.

عندما انتهيت من قراءة الكتاب بصفحاته الـ"500"اكتشفت أن رينوار المخرج أراد أن يجلس على كرسي والده الرسام ليقدّم لنا لوحة متناقضة الألوان، ويعلمنا أسرار حرفة الفن.. فالصفحات التي كتبها أشبة بقطع فنية من معدن نفيس نادر.

يعود إلى ذكريات الطفولة"كان أبي وهو يحدثني عن طفولته، ينتثل بلا تمهيد من الوصف الحماسي للجمال المعماري للحيّ الذي عاش فيه، إلى الثناء الذي لا يقل حمية عن لعبة الدعبل".

نراه ينظر بأسى إلى شارعهم القديم وقد تغيّر: "ثمة أشجار برتقال قرب منزلنا مغطاة بالزهور، أحدّق بها واستنشق عبيرها، حين أرى شجرة برتقال تكسوها الزهور أفكر في شارعنا، والتفكير يستحضر في الحال هيئة أبي، هناك قضى أجمل السنوات الأخيرة من عمره."

ترى أين ذهبت أشجار البرتقال؟

ليست الأفكار والذكريات التي تطرحها هذه القطع الفنية حكايات كتبت لكي تُقال، لكنها أفكار ولدت لكي تكتب بأدقّ تفاصيلها وظلال ألوانها، تقدّم للقارئ وكأنها شريط سينمائي له روح وجسد.. إن رينوار الابن يرى حياة رينوار الأب بعين أشبه بعدسة الكاميرا.

في رسالة يبعثها المخرج السينمائي جان رينوار الى أحد ناشري الكتب يقول فيها:"إن ما أريد أن أقوم به هنا إنما هو محاولة لصوغ ما أملكه من تجميع لمحادثات كنت أجريتها مع والدي خلال السنوات الأخيرة من حياته، في معظم الأحيان. في الحقيقة أنني لن أنقل الحوارات الحقيقية التي لا أتذكرها، لكنني سأحاول أن أعطي فكرة عن انطباعاتي القديمة حول لقاءاتي معه، وعن الكيفية التي تمارس فيها تلك اللقاءات تأثيرها عليّ حتى اليوم. وهي كانت تشهد بيننا تلك المحادثات التي تطاول كل شيء: تجارب والدي الماضية، طفولته، عائلتنا، أصدقاؤه، ملابسات حياته وإدارتها. وكذلك تطاول كثيراً من الشكوك التي كانت تدور في خلده في ما يتعلق بالتبدلات السريعة التي تحدث في عالمنا المعاصر». كان تاريخ الرسالة آذار عام 1953، ارسلها المخرج السينمائي من هوليوود حيث كان يقيم هناك، معلناً للمرة الأولى عن رغبته في إصدار كتاب حول أبيه يروي فيه حكاية الابن مع والد مشهور، كان رينوار آنذاك في التاسعة والخمسين من عمره، وقد مضى اكثر من ثلاثين عاماً على رحيل والده الرسام الشهير أوغست رينوار، والذي كان يعد أبرز روّاد المدرسة الانطباعية، وبعد تسع سنوات ينتهي الابن من كتابة سيرة الاب عام 1961.

عندما صدر الكتاب كان جان رينوار يبلغ من العمر ثمانية وستين عاماً، بعنوان"رينوار ابي" حيث يعيد فيه المخرج الشهير لحظات حميمية وممتعة جمعته بوالده شيخ الانطباعيين، وإضافة إلى ذكريات الابن عن والده، استعان رينوار بعدد كبير من معارف والده والمقربين منه، ما إن تنتهي من الصفحة الأخيرة من الكتاب حتى تشعر كقارئ بأن أمواجاً لا تنتهي من الذكريات تأخذك الى عالم ساحر.. المذهل في"صفحات رينوار ابي"أنك وأنت تقرأ تشعر بأنّ كل صفحة من الكتاب أشبه بقطعة شعر صغيرة، تتبع مسار شاعرها.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم