حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (226): عقلنة التشريع والأخلاق
خاص بالمثقف: الحلقة السادسة والعشرون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:
عقلنة التشريع
ماجد الغرباوي: يسعى البحث، وهو يتحرى صدقية التعارض بين الأحكام والأخلاق، لاختبار فرضية في طور التأسيس عن مبادئ تشريع الأحكام الشرعية، في سياق فهم جديد للدين يرتكز للعقل ومحورية الإنسان. والتأكيد على حريته وقدرته على الاختيار وفق مقتضيات الحكمة. بعد بلورة معنى جديد للقداسة. سبق أن مهدت لها بمجموعة بحوث يمكن مراجعتها في كتاب الفقيه والعقل التراثي. سيما الفوارق الأساسية بين تجاه العبودية واتجاه خلافة الإنسان، الذي يأخذ بنظر الاعتبار محورية الإنسان ومصالحه أولاً. وكذلك بحثا منهج التأصيل العقلي، ومقتضيات الحكمة في التشريع التي كانت محاولة جادة لاكتشاف ما أسميته هناك: مقاصد الجعل (وهي غير مقاصد الشريعة) لمعرفة ملاكات الحكم. (أنظر ص: 77 من الكتاب). وهنا سأتناول موضوع مقتضيات الحكمة في التشريع من أبعاد تتكامل مع ما تقدم تمهيدا لنظرية كاملة عن تشريع الأحكام، ندشن معها فهما جديدا، نحرر به الأحكام من سلطة فقهاء اتجاه العبودية، الذي يعتقد أن الحكم اختبار لمدى إلتزام العبد، ومدى تعبده. بينما النظرية الجديدة تسير وفق منهج منبثق عن رؤية فلسفية للحكم الشرعي، ووعي مغاير للدين ودور الإنسان في الحياة. وفهم علمي لآلية عمل مبادئ الحكم في مرحلة تشريعه، وطبيعة علاقتها بمقاصد التشريع في مرحلة جعل الحكم وفق مقتضيات الحِكمة. بهذا يمكن التخلص من رهاب القداسة وسطوة الفقهاء. واستعادة حرية الإنسان، ويرسيخ ثقته بنفسه وبعقله وقدرته على الاختيار وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع التي مرَّ ذكرها: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ). فالحكمة وفقا لهذا الآية متاحة، تستعدي مقدمات تمهد لبلوغها، وأولها أن يكون من أولي الألباب والعقل والتدبر والتأمل. بهذا فقط يمكننا التمرد على أسيجة القداسة بمعنى الدوغمائية والتعصب والجمود. لا طريق للنهوض إلا بتحرير الدين من سطوة القداسة واكتشاف المبادئ العقلية التي تقوم عليه أحكامه. فليست الأحكام بدعاً من نظم الخلق المرتهن للقوانين والأنظمة الصارمة. بل يسرد القرآن قائمة من السنن التاريخية والاجتماعية. وعلى هذا فإن الأحكام هي الأخرى يجرى تشريعها وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع.
الاتجاه العقلي في التشريع
مفاد الفرضية: (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا، بل أن تشريعها يجري وفقا لمتطلبات الواقع ومقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع التي يمكن للعقل إدراكها، وتحديد فعليتها، وتوظيفها لملئ منطقة الفراغ التشريعي، في إطار أخلاقي، بعيدا عن وصايا الفقهاء). (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ). وهي فرضية في إطار فهم آخر للدين والوحي والنبوة والتشريع، يختلف عن النسق العقدي المتداول. وفي ضوء هذه الفرضية، يمكن للعقل اكتشاف تلك المبادئ وتحديد مدى فعلية الحكم في ضوئها. وسيكون الإنسان مخوّلا في تشريع ما يناسبه من أحكام لضبط حركة السلطة والمجتمع وفق مقتضيات الحكمة. كما يمكنه مراجعة الأحكام الشرعية لتحديد مدى فعليتها في ضوء الواقع الجديد وضروراته وما تقتضيه مقدمات الحكمة. وبشكل أوضح، ستكون مبادئ التشريع مبادئ مشتركة، مادامت مبادئ عقلائية تراعي مقتضيات الحكمة وضرورات الواقع. في ضوئها نحدد مدى فعلية الأحكام الشرعية، وعلى أساسها نشرّع لمنطقة الفراغ، بعيدا عن احتكار الفتوى من قبل الفقيه بل يكفي الخبرة والعدة المعرفية اللازمة لفقه النص واكتشاف شرط الواقع في تشريعه. فالعملية ليس منفلتة، بل تجري وفق فلسفة الحكم ومبادئه، لتحرير الدين من سطوة المقدس، والارتكاز للعقل في فهمه. فليس هناك معطى نهائيا في الأحكام الشرعية بل تجري وفق مبادئ التشريع التي مر ذكرها. وهنا أجد من المناسب استدعاء ما كتبته حول مقتضيات الحكمة في التشريع في كتاب الفقيه والعقل التراثي لتوضيح فكرة الفرضية أكثر:
[تقدم أن فعلية الأحكام الشرعية تتوقف على فعلية موضوعاتها، التي تتوقف هي الأخرى على فعلية جميع شروطه الزمكانية. وكانت الاستطاعة للحج مثالا واضحاً على ذلك. غير أن هذه القاعدة بهذه الصورة، رغم أهميتها، لا تجدي نفعا في ما نحن فيه. فالموضوع المشروط لا يكون فعليا إلا بفعلية شرطه، وأن الحكم لا يدعو لإيجاد موضوعه، كلاهما قضية متفق عليها. فالقاعدة تختص في موضوع الحكم الشرعي المشروط، كشرط الاستطاعة في فعلية وجوب الحج. واشتراط عدم السفر والمرض في وجوب الصوم. فكما أن فعلية الموضوع موجبة لفعلية الحكم ابتداء، فكذلك يسقط التكليف حينما تختل فعلية الموضوع بسبب اختلال أحد شروطه، كالصائم إذا قطع مسافة وسافر خارج مكان إقامته.
إلا أن هذه القاعدة عاجزة عن تحديد فعلية أو عدم فعلية موضوعات الأحكام المطلقة. فنحتاج لمنهج مختلف في فقه الشريعة، ندرس بموجبه تلك الموضوعات، للتأكد من فعليتها أو عدم فعليتها، كمقدمة لتطبيق قاعدة: "فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه". فهذا المنهج ينطلق من دراسة ملاكات الأحكام الأساسية لتحديد فعلية أو عدم فعلية الحكم، من خلال علاقتها بمبادئ الحكم ومرتكزاته. فثمة علاقة جدلية بين الواقع والأحكام الشرعية. بل أن الحكم ناظر للواقع في ملاكاته، وقد جاء لمعالجته وخدمة للإنسان ومصالحه، كما هو مقتضى منطق الخلافة، وليس الحكم اختبار لمدى إلتزامه وتعبده، كما يتصور منطق العبودية. فهو منهج منبثق عن رؤية فلسفية للحكم الشرعي، ووعي مغاير للدين ودور الإنسان في الحياة. وفهم علمي لآلية عمل مبادئ الحكم في مرحلة تشريعه، وطبيعة علاقتها بمقاصد التشريع في مرحلة جعل الحكم وفق مقتضيات الحِكمة.
لا شك أن فقه الشريعة بهذا المعنى عملية معقدة، تتطلب عمقا علميا وفلسفيا قادرا على إدراك مبادئ الأحكام، التكليفية والوضعية في مرحلة ثبوت الحكم، (وهذا قياسا على حياتنا، وكما يمارسه المشرّعون). حيث يحدد المشرّع ملاك الفعل أولا، فإذا أدرك وجود مصلحة فيه، تتكون لديه إرادة تتناسب معها، فيبرز إرادته من خلال خطاب في مرحلة الاثبات. غير أن هذا القدر من تشخيص مبادئ الحكم الشرعي لا يبيّن كيفية إدراك الملاكات، وما هي محددات إرادة المشرّع حينما يدرك وجود مصلحة أو مفسدة في الفعل، وهو ما نحتاجه في فقه الشريعة للتأكد من بقاء فعلية أو عدم فعلية بعض الأحكام الشرعية. والحقيقة أن إدراك المصالح والمفاسد في ملاكات الأحكام متعذر علينا، ما لم تكن مصرحا بها قرآنيا. وأما غير المصرح بها تبقى تخمينات لا يمكن الجزم بمطابقتها للواقع، لذا عمدت أمام هذا الانسداد المعرفي إلى تقصي مرتكزات تلك المبادئ، وفق مقتضيات الحكمة في عملية تشريع الأحكام، لتكون منطلقا لفهم آلية عمل المبادئ، ومن ثم تحديد فعلية الحكم. وقد أخذت بنظر الاعتبار أن المشرع هو الخالق المطلق، وما يتصف به من صفات الكمال والحكمة والعدل والإنصاف والرحمة، (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). فكانت تلك المرتكزات ثلاثة: (مركزية العدالة، السعة والرحمة، المساواة)، في أفق الواقع وضروراته. وقد تم الاستدلال عليها قرآنيا وعقليا، كما تقدم بيانه. مما يسهل فهمَ محددات ملاكات الأحكام من مصالح ومفاسد. حتى وإن لم ندرك ذات المصلحة، لكن سنعلم أن إدراكها جرى وفق هذه المرتكزات ضمن معادلة حكيمة، متوازنة، راعت ملاكات الجعل الشرعي الأساسية، التي حصرتها بعنوانين: العدالة الاجتماعية، والتوازن الروحي والسلوكي. فيكون لدينا من خلالها مؤشر، يمكن الاستعانة به لتحديد بقاء أو عدم بقاء فعلية الحكم. فعندما تختل العدالة الاجتماعية نفهم أن معادلة عمل مرتكزات تلك المبادئ باتت غير صالحة للواقع الجديد، فنتحرى الحكم الملائم. ولكي نتعرّف على آلية عمل تلك المرتكزات وتحديد مقاصد الجعل التي تتحكم بها] (أنظر كتاب: الفقيه والعقل التراثي الصفحتان 77 و78)
مقتضيات الحكمة في التشريع
طالما أكدت في بحوثي على: ارتهان فعلية الحكم لفعلية موضوعه. بعد دراسة تاريخه وفلسفة تشريعه، بينما يتجاهلهما الفقيه، مادام الحكم بالنسبة له معطى نهائيا. يتعالى على تاريخيته وأسباب نزوله، و(المورد لا يخصص الوارد) في رأيه. بل يبقى مطلقا، ينطبق على مصاديقه الخارجية ضمن شروطه. ورغم تسليمه بمبدأ العلية إلا أنه يدعي استحالة اكتشافها كي تنتفي فعليته بانتفائها. ويعتقد أن كل ما يبدو علة قد يكون مجرد حكمة. غير أني أجبت على هذه الشبهة، وطرحت بدائل لمعرفة ملاكات الجعل، واسميتها بمقاصد الجعل، في مقابل مقاصد الشريعة. يراجع كتاب الفقيه والعقل التراثي. وبالتالي سأختبر مدى قدرة الفرضية على تفسير جملة من الأحكام والاجابة على جميع الأسئلة والاستفهامات، لتكون دليلا على صدقها. وهناك من يرى الأحكام تعبدا صرفا، لاختبار عبودية الإنسان، ومدى طاعته لله. فتكون المصلحة في ذات الجعل، لا في ملاكاته. وقد سبق مناقشة هذه الفكرة وردها. إذاً، نحن أمام مهمتين خلال البحث: اختبار الفرضية وتحري التعارض. لوجود ترابط بينهما.
نفترض أن مصدر شرعية الأحكام صدورها وفق (مقتضيات الحكمة) لا فرق بين الشريعة الإسلامية وغيرها. والحكمة تعني لغة وضع الشيء في محله. وشخص حكيم: يتدبر الأمور بعقلانية وروية: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). تارة تدل على الاصطفاء وليست لازمة له، كما بالنسبة للقمان: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ). لأنها مشترك إنساني، تشمل الأنبياء وغيرهم: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ). وقد تكون هبة إلهية كما بالنسبة لداود: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ). وبما أن مسؤولية الاصطفاء مسؤولية رسالية، فتستدعي حكمة الرمز المصطفى: (فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). فتكون الحكمة مرادفة للعقل والعقلانية وموازنة الأمور، وإعطاء كل ذي حق حقه، وأخذ الواقع بنظر الاعتبار بجميع تفصيلاته وضروراته دون تحيّز، ثم يتم تشريع الحكم وفق تلك المعطيات. وما يؤكد تشريع الأحكام وفق مقتضيات الحكمة أن هناك أحكاما شرعية يصرح القرآن بتشريعها وفقا لمقتضيات الحكمة كما في آيات (سورة الإسراء: 23 - 38):
[وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴿23﴾ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴿24﴾ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴿25﴾ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴿26﴾ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴿27﴾ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ﴿28﴾ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ﴿29﴾ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴿30﴾ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا ﴿31﴾ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴿32﴾ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴿33﴾ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴿34﴾ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴿35﴾ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴿36﴾ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴿37﴾ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴿38﴾ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ﴿39﴾....]. والآيات تشتمل على 22 حكما من أهم الأحكام، غير أن تشريعها جاء وفقا لمقتضيات الحكمة التي ترتكز على مبادئ التشريع: (مركزية العدالة وعدم الظلم، السعة والرحمة، والمساواة، في أفق الواقع الموضوعي وضروراته. وهي مبادئ التشريع الإسلامي.
وهناك آية أخرى تؤكد هذا الكلام حيث تقول: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ). وأفهم من سياقها الاشارة لتفصيل الأحكام المشرعة وفقا لمقتضيات الحكمة. ولا يراد بها القضاء فقط كما ذهبوا لذلك، وسيأتي في محله بيانها.
ولتوضح المسألة: إن وراء الأحكام الشرعية ملاكات ومصالح، تتوقف فعليتها على فعلية موضوعاتها الناظرة للواقع وحاجاته أساسا. وأن تشريعها قائم على مبادئ: (مركزية العدالة وعدم الظلم، السعة والرحمة، المساواة)، في أفق الواقع الموضوعي وضروراته، وفي إطار القيم الأخلاقية. فالأحكام ليست معطى نهائيا، يتعالى على منطق الحكمة، وعلى تاريخيتها، وضرورات الواقع، وإنما تشرع فوق مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع. فما كان منها فعليا آنذاك وفق ظرف محدد وواقع مشخص، قد لا تكون كذلك. وإذا كان هناك استثناء فيقف عند حدود الأحكام العبادية. لكن أيضا يمكن اكتشاف ملاكات جعلها، كما سيأتي وفقا لرؤية مغايرة عن الوحي. فالشريعة الإسلامية قامت على مقتضيات الحكمة، حتى مع تأكيد الكتاب على اختصاص التشريع بالله تعالى: (يسألونك ... يستفتونك)، (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ). أي أن المشرع الحكم هو سيد العقلاء، وشرع أحكامه وفق مقتضيات الحكمة، بشكل يدركها العقل البشري، مادام هو المخاطب بها. ولايمنع اتصافها بالقداسة تحري ملاكاتها وفعليتها مادامت مرتهنة للواقع وضروراته. إذ جميع الأحكام ناظرة للواقع، ويسألونك، ويستفتونك. فهي أسئلة منبثة من الواقع، والجواب ناظر للواقع. كما أن العرف القضائي كان سائدا وفقا لأحكامه العرفية، لكن هل كانت عادلة أم لا؟ فإن الشريعة حسمت الموقف باختيار ما هو عادل في نظرها من تلك الأحكام السائدة أو بعد تقويمها.
وكمثال توضيحي: قطع اليد بالنسبة للسارق. هل هو حكم ابتدائي غير مسبوق، أم كانت هناك أحكام عرفية فاختار الشارع أحدها وفق مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع؟. فإذا لم يكن مسبوقا بحكم عرفي، لا يمكننا اكتشاف مبرراته ومدى فعليته إلا من خلال مقاصد الجعل (أنظر كتاب: الفقيه والعقل التراثي). وما كان تشريعه وفقا لمقتضيات الحكمة، فإن نفس تلك المقتضيات والمبادئ ستحدد فعليته أو عدمها. ومن خلالها سنتحرى مدى تعارضه مع الأخلاق كما في هذا الحكم الذي يفرض قطع اليد. وتحري مبررات تجاوزه منطق العدالة. وتجدر الاشارة أن ثبوت التعارض لا يجعل منه حكما مبررا، لكن يمكن إعادة النظر في فعليته. كما بالنسبة لعقوبة قطع اليد.
وربما جميع الأحكام الشرعية في الكتاب الكريم، كانت مسبوقة بأحكام إما عرفية قَبلية أو أحكام أهل الكتاب، المنتشرة في الأوساط اليهودية والنصرانية، وكانت متاحة لعرب الجزيرة، وربما كانوا يدينون ببعضها. فمثلا أحكام الإرث التي استعرضها القرآن، قائمة على مقتضيات الحكمة. يمعنى أدق، ينظر المشرع الحكيم للوائح التشريعات آنذاك حول الإرث مثلا، ويختار وفق مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع: (مركزية العدالة وعدم الظلم، السعة والرحمة، المساواة، في أفق الواقع المضوعي وضروراته. أو يشرع غيرها وفقا لهذه المبادئ. فكان إرث الأنثى بشكل عام موجودا وله أحكام ضمن أحكام الإرث عندهم، غير ان المشرع الحكيم اختار ما يناسب الواقع وفق مبادئ التشريع. وكدليل لما نقول دقق النظر في الآيات التالية ستجد المشرع يجول في دائرة الأحكام السائدة آنذاك، يفندها ويقومها ويضيف لها كل ذلك وفق مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع وضرورات الواقع:
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ﴿127﴾ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿128﴾ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿129﴾ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ﴿130﴾ وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا)
وعليه فهنا مساران ضمن البحث. تحرير صدقية التعارض بين الأحكام والأخلاق، واختبار فرضية تشريع الحكم الشرعي.
يأتي في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه