حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (230): تمدد الفقه والأخلاق
خاص بالمثقف: الحلقة الثلاثون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:
سلطة الفقيه والتشريع
ماجد الغرباوي: نخلص لا دليل على اختصاص الفقيه، أو خصوص الولي من الفقهاء، بملء الفراغ التشريعي، وهو مساحة الواقع باستثناء ما ورد فيه دليل شرعي صريح في مورده. ولا مانع وراء مشاركته فقيها متخصصا، دون فرض رأيه ووصاياه. فمنطقة الفراغ إذاً تلك المساحة التي يتولى فيها الشعب مباشرة أو من خلال تمثيل نيابي، تشريع القوانين والأنظمة لتنظيم حياته، بعيدا عن أية ولاية سوى مصالحه ومصالح مجتمعه، شريطة التزام المشرّع بمقتضيات الحكمة وبمبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته، وفي إطار القيم الأخلاقية. وحينما يشك بوجود حكم شرعي في أي مسألة من مسائل منطقة الفراغ، فالأصل هو البراءة، على أساس "قبح العقاب بلا بيان"، كما هو مقرر عند علماء أصول الفقه. (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). ويقصد بالرسول الحجة الموجبة للتكليف.
إن تكاليف الشريعة واضحة بينة لمن يلتزم بها، وهي كل ما اشتملت عليه آيات الأحكام، شريطة فعليتها. وماعدا ذلك فالناس أحرار، لا ولاية لأحد عليهم سوى ولاية الأمة أو الشعب على نفسه. هذا لمن يريد التمسك بالشريعة وآراء الفقهاء، فإن الأصل الأولي عند جملة منهم هو البراءة العقلية. في مقابل من يتمسك بالاحتياط كأصل أولي عند الشك بالحكم المجهول، ثم تأتي البراءة الشرعية لتلغي الاحتياط (راجع حلقات في علم الأصول للسيد محمد باقر الصدر مثالاً). فهناك مسلكان، مسلك "قبح العقاب بلا بيان، ومسلك "حق الطاعة". وأما بالنسبة للعقل العملي بعيدا عن الفقهاء والأصوليين، فالأصل عنده حرية الإنسان. ومن حقه ملء الفراغ التشريعي لتنظيم حياته. وبالتالي فإن الأصول العقلية والشرعية تفضي للبراءة في الأحكام المجهولة، وهي منطقة الفراغ. أو بشكل أوضح تلك المساحة التي ليس للشارع فيها حكم محدد، وقد تركها للإنسان يتخذ ما يراه مناسبا وفقا للعدالة وعدم الظلم، والسعة والرحمة، والمساواة. ولو كان للشارع وهو في مقام التشريع حكم لبيّنه ضمن آيات الكتاب، ومن حق الفقيه حينئذٍ التصدي لبيانه. لكن لم يبيّن، فلا مؤاخذة في وضع قوانين لصالح المجتمع والدولة. وبالتالي لا دليل على احتكار الفقيه للتشريع في منطقة الفراغ التشريعي، غير أن منطق العبودية يعيش رهاب الحرية، ويخشى تحمل المسؤولية، ويشعر بسعادة عارمة في عبوديته. لقد عاش الإنسان ردحا طويلا من الزمن يتصدى لتنظيم حياته بنفسه، وقد أرسى أعرافا وتقاليد لضبط سلوك الفرد والمجتمع، حتى وهو يعيش حياة بدائية: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ). وبعد مجيء الإسلام لم يلغ الرسول جميع الأعراف والتقاليد، خاصة في المجال الأخلاقي: "وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". كل ما فعله الإسلام صحح مسارات العلاقات والأنظمة، وقام بترشيد الوعي، كي يسترد الفرد عقله، ويواصل حياته وفق بوصلة قيمية وأخلاقية، من وحي العقل العملي ومدركاته. لذا لم يسمح القرآن بتمدد الشريعة خارج حدودها، ليتحمل الإنسان مسؤولية خلافة الأرض وإعمارها في ضوء مبادئ العدل وعدم الظلم والجور: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). وبالفعل نهى عن كثرة السؤال، ليحد من مشاعر العجز الداخلي، ورهاب المسؤولية الحياتية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ). وبين بشكل واضح وصريح أن حدود التشريع تنتهي بمضامين آيات الأحكام، ولم يكلف أحدا بملء منطقة الفراغ التشريعي. وبشكل أدق، لم يجعل ولاية تشريعية للنبي فضلا عن غيره، وآيات الكتاب تشهد في تحديد مسؤولياته، وتقدم الحديث مفصلا. وثم آيات تؤكد حدود التشريع، وعدم السماح بتمدد التشريع:
- (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). بهذه الآية تعرف شرعية التحريمات التي تتناقلها كتب الفقه وليس لها جذر قرآني، سوى روايات لا يمكن الجزم بصحة صدورها، تعد عندهم حجة لحجية مطلق السنة النبوية.. يفهم من الآية هناك من استفسر عن حرمة شيء، فكانت الآية جوابا، لتمنح السائل ضابطة في التحريم، وما عداها فهو مباح. والآية ضمن آيات رسمت لنا حدود الشريعة والأحكام، وأعطت ضابطة كلية مفادها: "المحرم مع نصت الشريعة على حرمته"، ولازمها أن يتحمل الإنسان مسؤولية الواقع وضروراته. وطالما أكدت أن دور الدين ترشيد الوعي، وتبقى الأصالة للعقل وما حباه الله من قدرات خارقة، وأمامنا التقدم الحضاري الهائل، رغم تحفظنا على بعض تشريعاته.
- (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ). فكل ما عدا تشريعات الشريعة فهو حلال ومباح، فتشمل الإباحة بامتدادها منطقة الفراغ، فنحكم على كل ما نشك بحرمته بالحلية، ومشمول بالإباحة اللاإقتضائية. بل وحتى الإباحة الإقتضائية، فإن مفادها وجود ملاكات أن تبقى منطقة الفراغ مباحة، قابلة للتشريع من قبل الإنسان، لتواكب تشريعاته النسبية تطورات الواقع وضروراته.
- (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ). فهي أحكام محددة، فيكون الأصل الإباحة إلا مادل الدليل على حرمتها.
- (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ). مما يؤكد اقتصر الولايتين الكونية والتشريعية على الله تعالى. ولا يجوز لأحد أن ينسب له ما لم تصّرح به الآيات. وهنا مكمن الخطر حينما ينسب الفرد فتاوى وأحكام الفقيه لله، ويتعامل معها بقدسية، وهي مجرد آراء اجتهادية، ووجهات نظر فقهية، تختلف من فقيه لغيره، ومن واقع لآخر، ومن عصر لعصر.
- (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ).
كل هذا وغيره يؤكد عدم وجود دليل على اختصاص الفقيه أو الولي من الفقهاء بملء منطقة الفراغ التشريعي، وتبقى منطقة مباحة، يتصدى الخبراء لملئها، وفقا لمصالحهم وفي إطار القيم الأخلاقية الأعم من القيم الدينية. وبالتالي لا دليل على ما ذهب إليه السيد محمد باقر الصدر، كما تقدم: (.. وإنما ملأه بوصفه ولي الأمر، المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقا للظروف). وهذا لا دليل عليه.
وما يؤكد ما نقول أكثر أن الشريعة الإسلامية قد أمضت البيع والشراء، واستثنت الربا وبيع النسيء، ارتكازا لملاكاتها القائمة على التراضي، لذا لا تجد أحكاما قرآنية تفصيلية تخص أحكام البيع والشراء مقارنة بأحكام العبادات مثلا. فملاكات التجارة ملاكات متغيّرة فاكتفت الشريعة بالتراضي لتمريرها وإمضائها. وليس التجارة فقط، فالمجتمع العربي رغم حكومة العنف والقوة لكن تضبط حركته مختلف التشريعات، بعضها ديني، وهناك قبَلي وأخلاقي، وعرفي، وتجاري، وتجاور وعلاقات، وحرب وسلام وديات وقضاء، وغير ذلك، فالإسلام لم يلغها جميعها، بل أمضى بعضها، وهذّب الأخرى، وأعاد توازن ثالثة على أساس العدل ومنع الظلم. وأضاف ما رآه ضرورة لحفظ توزان المجتمع واستتباب الأمن والسلام، كالمطالبة بأربعة شهود شرطا لثبوت الزنا، وإقامة الحد. فلا يمكن للخالق أن يشرع لواقع متحرك تشريعات مطلقة، فربط فعليتها بفعلية موضوعاتها. وقد راعى مهمة الإنسان ودوره، وضرورة الاعتماد على نفسه. وأمامنا القوانين المدنية الحديثة، التي خلقت أجواء آمنة، وحياة اجتماعية مستقرة وفقا لمركزية العدل، وهذا شاهد على كفاءة الإنسان تشريعا. بينما تعصف بأحكام الفقهاء جملة إشكالات لا يمكنهم تجاوزها بفعل القواعد الأصولية التي أسسوها وفرضوها سلطة توجه وعيهم الفقهي. (أنظر كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص، 166). وأيضا أهملت الشريعة السياسة، سوى مبادئ تصلح أن تكون أُطرا لمختلف التشريعات، ولم يتطرق القرآن لأهم مواضيعها. أعني الخلافة، التي تسببت في تشتت الأمة فيما بعد. ولم نقرأ شيئا عن شروطها، ومسوؤلياتها.
بهذا نخلص إن ملء منطقة الفراغ التشريعي تقع على عاتق المجتمع، يتدبرها وفقا لمصالحه، وما يحقق أمنه واستقراره، شريطة عدم تعارض تلك القوانين والأنظمة مع ثوابت الشريعة، مادام المجتمع مسلما، ملتزما بأحكامها. والممثل الوحيد اليوم هي المجالس النيابية والتشريعية ضمن مؤسسات الدولة الحديثة. وحينئذٍ تستمد القوانين الوضعية شرعيتها من الشعب، ومن قدرتها على أداء وظيفتها.
العقل والتشريع
نعود لمواصلة البحث في مفاد الفرضية المتقدمة: (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا، بل أن تشريعها يجري وفقا لمتطلبات الواقع ومقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع التي يمكن للعقل إدراكها، وتحديد فعليتها، وتوظيفها لملء منطقة الفراغ التشريعي، في إطار أخلاقي، بعيدا عن وصايا الفقهاء). وهي مبادئ عقلائية، يحتكم لها الخبراء والمشرعون وفقهاء القانون، من يتصف بالحكمة والعقلانية والموضوعية، ويركن للعدل والرحمة ونظرة المساواة، بعيدا عن التحيز والظلم والجور. ولا يمكنهم ذلك ما لم يحيطوا بالواقع وضروراته، ويحددوا ملاكات الحكم من مصالح ومفاسد. وعندما يترافع الخصوم أمام المحاكم، سواء الشعبية أو الرسمية، يترافعون لإحقاق الحق وإقامة العدل وتسوية الخلافات، انطلاقا من تلك المرتكزات. أي يترافعون على أساس قبلياتهم عن الحكم وما يتصف به الحاكم من صفات العدل وإحقاق الحق أي مبادئ التشريع. وهكذا الحال بالنسبة للأنظمة والقوانين، فإن ما تضمره من مصالح لتنظيم المجتمع والسلطة، هي المبرر لالتزام الناس بها، لذا يعترضون عندما لا تحقق غاياتها، ويصفونها بالظلم وعدم العدل. فتلك المبادئ مبادئ عرفية عقلائية، وقد تم الاستدلال عليها بمجموعة آيات قرآنية كما تقدم. وعندما أكد الخطاب القرآني عليها، فهو تأكيد على قضايا عقلائية، ضمن مرتكزاتهم العرفية. وعندما يؤكد على العدل في الحكم فإنه مأخوذ في تشريعات الشريعة لا محال، وعندما تؤخذ المبادئ بنظر الاعتبار فهي ناظرة للواقع وضروراته، وللفرد وحاجاته، وللمجتمع ومتطلباته، فيأتي التشريع ليُرسي الاستقرار ويحق الحق ويعطي كل ذي حق حقه، ضمن ظرفه الزماني والمكاني. المهم أن تشريعه كان وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع، وعندما يتغير الواقع فإن مقتضى الحكمة إعادة النظر في فعلية الحكم. وبنفس المنطق ينبري المشرّع لملء الفراغ التشريعي، مع مراعاة الواقع وضروراته، والالتزام بمبادئ التشريع وفق مقتضيات الحكمة. فتشريعات الشريعة ليست قضايا ميتافيزيقية أو غرائبية، ولا تقع ضمن اللامفكر فيه، سوى النظرة البعيدة ضمن هدف الخلق وحركة الوجود، وهذا لا يشمل جميع الأحكام. وأيضا هي ليست تشريعات ارتجالية، ولا هي طلاسم وألغاز يتعذر فقهها وإدراك فلسفتها. بل هي تشريعات قامت على مبادئ وملاكات. أي قامت على قيم اعتبارية، لها دلالتها وسلطتها، وتقع ضمن مرتكزات الوسط الثقافي الذي يرتهن له تأويل الوحي. وبدونها لا يستوي التأويل، ولا يحقق مداه التشريعي. وما على الفقيه سوى الخروج من منهج استنباط الحكم المتداول إلى منهج فقه الشريعة، لإدراك فلسفة الحكم وتاريخه وخلفياته الاجتماعية والمبادئ التي ارتكز لها، والمنطق الذي حدد مساره. بيد أنه يتشبث بقدسية الأحكام بالمعنى الدوغمائي، ويرفض مراجعة ملاكاتها ومدى فعليتها، وتبقى مطلقة أزمانا وأحوالا في نظره. فعندما يأمر القرآن بالعدل فهو لا يؤسس له، بل يؤكد على مرتكز عقلائي، سائد في جميع المجتمعات في مقابل الظلم والعدوان. مادام العدل صفة نفسانية من مقولة الكيف، يتصف أو لا يتصف بها الإنسان. فجاء الإسلام وأكد عليه. وبالتالي، فهي قيم عرفية ومرتكزات عقلائية.
تأسيسا على ما تقدم، يمكن اعتبار التشريعات القرآنية نماذج عملية لتشريع الأحكام، وفقا لتلك المبادئ، شريطة إدراك مرتكزاتها ومقاصد تشريعها. بمعنى أدق يمكن الارتكاز لتلك المبادئ التي قامت عليها تشريعات الشريعة، لملء الفراغ التشريعي، بعيدا عن قدسيتها، كي تتكيف مع الواقع وحاجاته. وبهذا الصدد يمكن تأسيس قواعد أصولية تساعد على تشريع أحكام تمثل وجهة نظر فقهية، فيكون القياس والذوق الفقهي أدوات ماضية، لأنك لا تريد تشريع حكم تنسبه للشريعة بل توظف مبادئ التشريع لملء الفراغ التشريعي. المشرع بصدد أحكام لتنظيم حياة الناس في مساحة الفراغ التشريعي وبإمكانه الاستفادة من الأحكام الشرعية نماذج لتشريع معادل لها، يمثل وجهة نظر تشريعية وقانونية. ولا ريب في ذلك، إنما الخطر في نسبة أحكامه للشريعة، فينقاد لها المكلّف مدفوعا بالطاعة والانقياد على أمل إحراز مرضاة الله، كما توحي فتاوى الفقهاء بذلك. (ينظر لتفصيل المسألة، كتاب: الفقيه والعقل التراثي، ص167).
وهنا نؤكد أن الأحكام الشرعية كغيرها من التشريعات، تمرّ بمرحلتين، مرحلة التصوّر أو مرحلة تشخيص مبررات تشريعها، وطبيعة ملاكاتها. ثم مرحلة إبراز الحكم بصيغة قانونية "مرحلة الإثبات". (ولكل واحد من الأحكام التكليفية الخمسة مبادئ تتفق مع طبيعته، فمبادئ الوجوب هي الإرادة الشديدة، ومن ورائها المصلحة البالغة درجة عالية تأبى عن الترخيص في المخالفة. ومبادئ الحرمة هي المبغوضية الشديدة، ومن ورائها المفسدة البالغة إلى درجة نفسها. والاستحباب والكراهة يتولدان عن مبادئ من نفس النوع، ولكنها أضعف درجة بنحو يسمح المولى معها بترك المستحب وبارتكاب المكروه). كما هو رأي السيد محمد باقر الصدر في أصوله (أنظر: حلقات في علم الأصول). أو بتعبير فقه الشريعة الذي بينته في كتاب الفقيه والعقل التراثي: (إن درجة إلزامات الأحكام الشرعية تتناسب طرديا مع حجم ملاكاتها). وعلى هذا الأساس يمارس المشرّع القانوني عملية وضع الأنظمة والقوانين. فهي عملية منضبطة بذات صيغ تشريع الأحكام الشرعية من قبل الشارع المقدس. غير أن ارتياب الفقيه بالعقل ومتطلبات القداسة تضع أسيجة ومحرمات لضمان احتكار استنباط الأحكام الشرعية من قبل الفقيه، وربط ملء منطقة الفراغ التشريعي بسلطته، من خلال فرض وصاياه أو ولايته. فالفقيه حتى وإن سلّم بوجود نظام من المبادئ والقيم خلف تشريع الأحكام الشرعية، بيد انه يرفض قدرة العقل على إدراكها وتحديد عللها وملاكاتها وأسباب تشريعاته، لتغدو عملية ماورائية، وغيب مطلق لا يعرف حقيقته إلا الله. لقد عجزت محاولات أسلمة القوانين والأنظمة، وربطها بالشريعة، واضطرت للعدول من مطابقتها للشريعية إلى عدم تعارضها مع ثوابت الشريعة، كما حصل للمشرع الإيراني. حيث كانت مهمة مجلس صيانة الدستور التأكد من مطابقة الأنظمة والقوانين الصادرة عن مجلس الشورى مع الشريعة ثم عدلت بعد عجزها للتأكد من عدم مخالفتها لثوابت الشريعة والدستور.
إن حاجة الإنسان للعقل باتت أكثر من حاجته لأية وصايا دينية، بعد ختم النبوة، واكتمال الدين بهذا القدر المحدود من الأحكام الشرعية المذكورة في الكتاب الكريم، ولو كانت هناك حاجة لأحكام شرعية أخرى لحدد لنا القرآن مصدرها، ولم يقل للنبي: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)، ولم يحدد مسؤوليته: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا): ولم يصف كتابه بأنه تبيان لكل شيء، رغم محدودية أحكامه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ). (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا). ولَما قالت الآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا). خاصة وقد سبقتها وتلتها أحكام شرعية، وهذا هو اختصاصها بدقة. فتأويلها خارج سياقها، يحتاج إلى أدلة قرآنية صريحة وهي منتفية. بهذا يمكنك معرفة مدى شرعية فتاوى الفقهاء التي غدت بالآلاف، ممن راحوا يلاحقون الإنسان حتى في طريقة تغوّطه، بحجة أن النبي كان يفعل هكذا، فينبغي التأسّي به. أو يفسّرون الآيات تفسيرا غريزيا عندما يبيحون زواج القاصرات، ويُفتون بجواز تفخيذ الرضيعة. إنها مأساة التدين البسيط حينما يرتهن وعيه لغيره، ويهجر القرآن ووضوح بيانه.(أنظر كتاب: الهوية والفعل الحضاري، ص 394 وما بعدها). لا أنفي دور الروايات، واعتماد الفقيه عليها في فتاواه وأحكامه، لكن ينبغي له التخلص من الجمود، وفقه النص، بعد إدراك فلسفته وتاريخ تشريعه. وما عليه الاجتهاد اليوم هو تقليد الحاضر للسابق، ولم يحصل انقلاب حقيقي في فهم الشريعة وغاياتها ومقاصدها.
لا يمكن للمسلمين النهوض ما لم تتحرر عقولهم من سلطة النصوص والتراث، ويفهمون الدين ومقاصده وأهدافه وغاياته، بعيدا عن الروايات التي تعكس فهماً آخر، يمثل زمن الرواية بأبعادها المختلفة. فهي روايات محترمة إلا أنها تعبّر عن ظروف وبيئة وثقافة مختلفة. فللرواية ظروفها ولنا ظروفنا، وبإمكاننا العودة للكتاب الكريم وفهم رسالته فهماً صحيحا. للأسف لم أجد من يهتم بآيات الخلق التي ترسم معالم هدف الرسالات والأديان، وهذا خطأ كبير في فهم الدين. بل وأحد أسباب جميع الانحرافات العقائدية والسلوكية، خاصة ما تمارسه الحركات الإرهابية باسم الدين والقرآن. وما تبثه حركات الغلو من ثقافات تكرس الجهل والأمية والتكاسل في الحياة الدنيا. وبالتالي فتمدد الفقه على حساب العقل عمل يفتقر للقيم الأخلاقية.
ويبقى السؤال: ما الفرق حينئذٍ بين أحكام الشريعة وألأحكام الوضعية إذا كان تشريع كل منهما على ذات المبادئ والقيم؟.
يأتي في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه