حوار مفتوح

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (232): الأخلاق وأصالة الحكمة في التشريع

majed algharbawi3خاص بالمثقف: الثانية والثلاثون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:

أصالة الحكمة

ماجد الغرباوي: نبقى في سياق الدليل الثاني على وحدة المبادئ في تشريع الأحكام، وارتهان شرعيتها لمبادئها، لا لقدسيتها، فيكون التشريع متاحا في منطقة الفراغ، شريطة الالتزام بمادئ التشريع، وفقا لمقتضيات الحكمة وأفق الواقع وضروراته. حيث استشهدت بآيات (سورة الإسراء: 23 - 38)، التي استعرضت (22) حكما من أهم أحكام الشريعة الإسلامية. يُطلق عليها أحيانا بالوصايا العشرة. جاء في نهايتها: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا). فثمة مصدران للأحكام: الكتاب والحكمة، هكذا يظهر من بعض الآيات. كلاهما يشتمل على أحكام شرعية وتعاليم دينية مع فارق ربما هو ذات الفارق بين التعبد والتعقل. الثاني يمكن إدراكه وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته، فيكون متاحا للحكماء من الناس. وقد أكدت آيات سورة الإسراء المتقدمة على الحكمة مصدرا للأحكام التي اشتملت عليها. والآية دقيقة في تعبيرها: تقول: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)، فهي جزء من مجموعة آيات مصدر تشريعها الحكمة. والحكمة تحيل على العقل ومدركات العقل العملي والعقلانية والتأمل والتدبر. ومادامت كذلك فيمكن إدراك حكمتها وملاكاته والمبادئ التي قام عليها التشريع، وهي كما تقدم مبادئ مشتركة بين الأحكام الشرعية والوضعية، يقرها العقل، ويرتكز لها العقلاء والحكماء، وقد تم الاستدلال عليها بآيات الكتاب. وهناك مجموعة آيات تشير للحكمة كمصدر ثان مع الكتاب.

وثمة من اقتصر مفهوم الحكمة في القرآن على خصوص الوصايا العشرة، في مقابل الوصايا العشرة في التوراة: (التوحيد، بر الوالدين، الإخلاص والتوبة، الإنفاق السليم، طهارة المجتمع، حماية الأرواح البريئة، رعاية الأيتام، الوفاء بالالتزامات، العدل، التواضع). وهو ما استعرضته آيات سورة الإسراء المتقدمة. لكن لا مبرر لهذا الحصر. الحكمة عنوان لجميع الأحكام التي مصدر إلزامها العقل العملي. وبشكل أوضح هناك أحكام تقضيها ضرورات تشريعية سواء أدركها العقل أو لم يدركها، كما في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ). ونهاية الآية بينت سبب التحريم، فهو قوبة طارئة، سببها: (جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ). ثم تأتي آية ثانية ترفع الحكم: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ). فثمة ضرورات وراء فرض الأحكام ورفعها، بعيدا عن أحكام العقل العملي. في مقابل الأحكام التي يدرك ملاكاتها، كحرمة قتل النفس المحرّمة. المجموعة الأولى أحكام، فرضتها ضرورات الحكمة الإلهية، ومصدرها الكتاب، بينما المصفوفة الثانية مصدرها الحكمة، لذا طالما أقترنت مع الكتاب ليشكل كلاهما مصدرا للتشريع. الشرع والعقل.

- (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)

- (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا). وما لم يكن يعلمه الرسول فلسفة الأحكام وقيام بعضها على الحكمة، (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ). فهي وحي وفقا لمقتضيات الحكمة.

- (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)

- (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)

- (وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ)

- (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ). وهذه الآية ذكرت أربعة مصادر هي: الكتاب، الحكمة، التوراة، والإنجيل. فقد يكون بينها عموم وخصوص مطلق. أو عموم وخصوص من وجه.

- (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا). والخطاب موجه لنساء النبي.

- (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).

أتضح من الآيات أعلاه أن "الحكمة" مصدر تشريعي في موازاة الكتاب: (منزلة من قبل الله تعالى، قابلة للتعليم والتلاوة). وهذا أول معنى من معاني الحكمة في القرآن. وليست الحكمة سوى أحكام العقل العملي. والدلالة اللغوية واضحة، دالة على المعنى، عندما نصف رجلا بالحكمة، فإننا نقصد بكلامنا رجلا يتعقل، يتفكر، يتدبر، يتأنى، لا يطلق الأحكام جزافا أو ارتجالا.

- غير أن الحكمة لا تقف عند حدود الأحكام بل تشمل تعاليم جاءت على شكل أحكام إرشادية لحكم العقل وقدرته على إدراكها، وهذا ما يفسر الآية التالية: (وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ). فعيسى لم يأتهم بشريعة سوى تعاليم دينية مصدرها الحكمة. ومن خلال الحكمة يبين لهم ما اختلفوا به. فيكون المعنى الثاني للحكمة: تسوية الخلافات حول القضايا الدينية المطروحة. فكما أنها مصدر للتشريع، هي أيضا مصدر لتسوية الخلافات، وحسم الجدل حول المتشابها منها. بيد أن رأي الحكمة التي تعني العقلانية والتعقل والعقل، يكون حاسما، وهو معنى التدبر والوعي كما في بعض آيات الكتاب. لذا قد يكون سبب اقتران الحكمة مع الكتاب في آيات عديدة لا باعتبارها مصدرا للتشريع بل لقدرة العقل على حسم القضايا الخلافية أو ما يصطلح عليه بالمتشابه من الآيات، والدليل: قوله تعالى وهو يصف الكتاب: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ). فالكتاب شامل للمحكم والمتشابه من الآيات، ومادام هناك متشابه فهناك حاجة للحكمة، تقتضي رد المتشابه للمحكم. ولو كان المراد بالحكمة مصدرا من مصادر  التشريع كان ينبغي للنبي فرز آيات الحكمة عن آيات الكتاب، ولم يفعل. لكن في الوقت نفسه أكد على تدبر آيات الكتاب، والتدبر مصداق من مصاديق الحكمة وإعمال العقل لفهم سياق الآيات. وهذا الرأي لا ينفي أن تكون الحكمة مصدرا للتشريع، وهو كل ما يدركه العقل العملي، فيكون واجبا بحكم العقل، كالأحكام الأخلاقية. وبدلالة المعنى اللغوي لمفهوم الحكمة نفهم رغم اختصاص التشريع بالله، لأصالة ولايته تكوينا وتشريعا، غير أن الآيات أشارت بشكل غير مباشر للحكمة مصدرا للتشريع عندما استعرضت الوصايا العشرة وذيلتها بقوله تعالى: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ). بمعنى: يا أيها النبي إن ما أوحي إليك (مصفوفة الآيات أعلاه)، هي من الحكمة، ومن مدركات العقل العملي، فالعقل يحكم بقبح القتل، حكمت أو لم تحكم الشريعة بقبحه. وقد مرَّ بنا أن العقل يستقل بأحكامه، وأن الحُسن والقُبح ذاتيان، وما أوحي إليك يا أيها النبي، يمكن إدراك فلسفته، مادام تشريعا عقليا، ووفقا لمقتضيات الحكمة. وهو تأكيد على دور العقل في تشريع الأحكام. فيصدق أن الكتاب يمثل الشريعة في أحكامه، والحكمة تمثل العقل في أحكامها. والعقل عند الأصوليين أحد مصادر التشريع، غير أنهم يختلفون حول صلاحياته.

والحكمة المرادفة للعقل، بمعنى التعقل والتروي والبصيرة، متاحة لا تقتصر على الأنبياء والصحابة والفقهاء، مادامت ملكة نفسانية، يمكن أن تتطور بالتعلم والتأمل الطويل وممارسة فقه النصوص. ومن يتدبر آيات الكتاب يجد الحكمة شرطا ضمنيا بالنبوة، فالنبي حكيم قبل وبعد النبوة، دون استثناء:

- (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ).

- (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ).

- (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ).

- (فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)

- (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ).

يقول صاحب تفسير الميزان وهو بصدد شرح الآية الأخيرة: (قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء، الايتاء هو الاعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدل على نوع المعنى فمعناه النوع من الأحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقلية الحقة الصادقة التي لا تقبل البطلان والكذب البتة.

والجملة تدل على أن البيان الذي بين الله به حال الانفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الانسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الانسان كالمعارف الحقة الإلهية في المبدأ والمعاد، والمعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الانسان كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعات الدينية). (ينظر: تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج ٢، الصفحة ٣٩٥).

ومن المفسرين من خصَّ الحكمة بفلسفة الأحكام، كما في تفسير الأمثل: (ولعل التفاوت بين "الكتاب" و"الحكمة" في أن الكتاب يعني الكتب السماوية، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام، وهي التي يعلمها النبي أيضا. (أنظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج ١، ص٣٨٤). ولا بأس بحملها على فلسفة الدين، ولاريب فإن فلسفة الأحكام تستدعي التدبّر والتأمل، وإدراكها من خلال حكمة المفسر والقارئ.

أما الفقهاء فقد فسروا الحكمة بالسُنة النبوية. وتمسكوا بحجية مطلقها أسوة بحجية القرآن، بل وقدموها عليه، لتخصصه وتقيّده، ماداما وحيا سماويا، لا فرق بينهما من ناحية الحجية. وكلامهم مجرد وجهة نظر، لا دليل عليها من القرآن أو العقل. وتبقى الحكمة مطلقة. وأما التقييد والتخصيص فسبق أن بينت: لا يجوز تقديم السنة على القرآن، ويبقى الكتاب هو الأصل في تشريع الأحكام، رغم أن النبي مبين وشارح. فربما تمام ملاك الحكم في إطلاقه. فلماذا تأتي السنة وتقيده تحرم الفرد حقا من حقوقه؟.

الدليل الثالث: تعليل الأحكام الشرعية

وهو الدليل الثالث بعد العرف التشريعي وبعض آيات الكتاب الذي يستدل به على اعتماد الحكمة ومبادئ التشريع في تشريع الأحكام الشرعية. ويراد بالتعليل الكشف عن عِلَل الأحكام وبيانها. أومعرفة سبب تشريع الأحكام. التي تكشف بدورها عن ملاكاتها والمبادئ الأخلاقية التي قامت عليها. إذ تصدت آيات الكتاب لبيان غايات ومقاصد مجموعة من التشريعات والتعليمات والمبادئ، مما يؤكد وجود ملاكات وراء تشريعها تستهدف مصلحة الإنسان، سواء مصلحة قريبة يمكن إدراكها، أو تقتضي التأمل والتدبّر في دلالات النص القرآني. وقد تنبّه العلماء والفقهاء لهذه الظاهرة التي أطلق عليها فيما بعد بمقاصد الشريعة، واهتموا بدارستها ورصد دلالاتها. وربما الشيخ الصدوق 385هـ، أول من ألف في هذا المجال كتابا بجزئين، بعنوان: علل الشرائع، لكن أشهر الكتب التي تصدت لدراسة الظاهرة وعدم الاكتفاء بإدراج علل الأحكام، هي:

1- الموافقات في أصول الشريعة: أبو إسحاق الشاطبي.

2- قواعد الأحكام في مصالح الأنام: عز الدين بن عبد السلام.

3- مقاصد الشريعة الإسلامية: محمد طاهر بن عاشور.

4- مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها: علال الفاسي.

ثم تلتها دراسات وبحوث وكتب تناولت ظاهرة تعليل الأحكام، وما يترتب عليها أصوليا، سيما أن الحكم يدور مدار علته، فهل ينتفي بانتفائها؟ وهل يمكن توسعة الأحكام؟ وغيرها من موضوعات مرتبطة بها.

والتعليل ظاهرة قرآنية، إذ دأبت الآيات على بيان علة الأحكام والتعليمات والمبادئ الدينية، مثالها:

(إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

(مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

(فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)

(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ)

(وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى)

نكتفي بهذا القدر من الشواهد، ومن يطالع آيات الكتب يقرأ مزيدا من الآيات التي تنتهي بتعليل مضمونها.

المهم أن التعليل يكشف عن ملاكات الحكم، ووجود الملاك يستدعي وجود مبادئ يرتكز لها المشرع وفقا لمقتضيات حكمته وخبرته وإحاطته. وملاكات الأحكام إما مصالح تستوجب الإلزام والوجوب، أو مفاسد تستوجب النهي والحرمة، فيكون العدل والرحمة والمساواة في أفق الواقع وضروراته حاضرة، لتحديد مستوى الإلزام الذي يتراوح بين الاستحباب والوجب. ومستوى النهي الذي يتراوح بين الكراهية والحرمة. وهذا مقتضى الحكمة ونفي العبث واللعب والمزاجية والارتجال في تشريع الأحكام: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)، (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)، (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ). وبهذا يكون تعليل الأحكام دليلا على ارتكاز الشريعة إلى الحكمة ومبادئ التشريع في تشريع الأحكام الشرعية، وليس هناك بعد ميتافيزيقي أو إبهام يقتضي التعبد المطلق، بما في ذلك العبادات، التي استشهدت بآيات تؤكد أسباب تشريعها. بل لا أبالغ أن هدف الأحكام في تفصيلاتها تنطوي على حكمة وعلة، تظهر للمتدبر في خلفيتها التاريخية، خاصة تفصيلات بعض العبادات كالصلاة، كعدد الركعات. فإن تحديدها ترك للنبي، وهو يقدر وفقا لحكمته في ضوء الواقع. ولاريب بأسبقية الصلاة بتفصيلاتها على الإسلام، وآيات متعددة تؤكد هذا، فالنبي اختار ما يلبي حاجة الفرد في عدد الركعات، وأبقى باب الصلاة مفتوحا يروي ظمأ الروح العطشى لبارئها. لا يعاقب على تركها ويثيب من أقامها استحبابا. فالتعليل يؤكد فرضيتنا حول الأحكام الشرعية.

يأتي في الحلقة القادمة

 

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

 

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

[email protected]

 

 

في المثقف اليوم