حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (237): تحديد ملاكات الأحكام في إطار الأخلاق
خاص بالمثقف: السابعة والثلاثون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:
س520: الحسين بوخرطة، أديب وناقد - المغرب: هل المجتمعات الإسلامية بشكل عام، ونخبها بشكل خاص، واعية بوجود سيرورة تفاعلية تاريخية ما بين الأحكام الشرعية والوضعية، تتغذى من طبيعة دينامكية الواقع في امْتِداداتها وَتَطَوُّرها، وتتوج من مرحلة تاريخية إلى أخرى بتحولات ثقافية وحقائق جديدة؟.. تطور وضعية المرأة نموذجا؟
ج520: ماجد الغرباوي: شكرا للأخ الأستاذ الحسين بوخرطة على تفاعله مع الحوار وسؤاله الجدير.
كان ومايزال الخطاب الديني يعتقد "ما من واقعة إلا ولله فيها حكم"، والشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع، ولازمه اختصاصها بملء الفراغ التشريعي، وبطلان أي تشريع خارجها ما لم يخضع لوصايا الفقيه ورأيه الفقهي. وبعضهم يرى فيه تمردا على الإرادة الإلهية. ولم يرضخوا لمتطلبات العصر والزمان وحاجة الفرد والمجتمع لمواكبة الحياة، بل وأغلقوا باب الاجتهاد باستثناء المذهب الإمامي، وإن لم يتغير شيء، واكتفوا بالكتاب والسُنة مصدرا للمعرفة الدينية بعد التأكيد على إطلاقات أحكامهما أزمانا وأحوالا. وعندما حاصرهم الواقع بأسئلته، وندرة الأحكام، وسّعوا مصادر التشريع لتشمل سيرة الصحابة وسيرة الأئمة عند الشيعة. ثم عمد الفقهاء إلى بعض القواعد الأصولية والفقهية كالقياس والمصالح المرسلة لسد حاجتهم من التشريعات، أو لتحديد الموقف العملي من الحكم المشكوك وفق أصول تسمى بـ"الأصول العملية"، فكان هذا سببا لجمود التشريع وعجزه عن مجاراة الواقع، وبقيت آيات الجهاد فعلية تقصي الآخر وتبيح دمه، واستولى على الخطاب الديني منطق التكفير والتنابذ، واستمرت المرأة تعاني من أغلال الفقه. في ذات الوقت تجد الأنظمة الوضعية تقدم لوائح قانونية وتشريعية أكثر جدوى وفاعلية وأكثر عدالة أحيانا. لا أقول أنها مثالية فهذا مستبعد، غير أن النقد والمراجعة كفيلان بتدارك هفواتها وتطويرها باستمرار. والشاهد اعتماد نظام التأمين الاجتماعي والصحي لتدارك قسوة النظام الرأسمالي، وحماية المواطن من تداعياته وسطوته. إضافة للحرية المفقودة ولوائح حقوق المرأة والإنسان، فيجد المرء كرامته فيها، بينما يفرض الفقيه ولايته وقيمومته، ويحدّ حرية الفرد والمجتمع، وبات المسلمون يعانون تداعيات العنف والتطرف الديني، وانعكاس صورة سلبية عن الإسلام وقيمه. وطالما عانت الأقليات الدينية وطأة السلطة العثمانية، ومازالت تعاني في ظل بعض الحكومات. باستثناء محاولات أولية للخروج من نفق الجمود، وتقديم فهم جديد للدين. فإذا كان هناك وعي بسيرورة تفاعلية تاريخية بين الأحكام الشرعية والوضعية فهو وعي متأخر في سياق اليقظة العربية والإسلامية التي راحت تتحرى أسباب تخلفها وانحطاطها في مقابل الغرب وتطوره. وعلى صعيد المرأة، فإن الانفتاح على الغرب بدءاً برفاعة رافع الطهطاوي قد دفع باتجاه مراجعة الذات، إذ كان أول من نقل صورة مختلفة عن المرأة الفرنسية وما تتمتع به من حقوق على جميع الأصعدة أسوة بالرجل. وعلى هذا الأساس باشر بفتح مدرسة للبنات. فكان الوعي محاصرا بين أحكام الشريعة وفتاوى الفقهاء، وبقيت المجتمعات مرتهنة في وعيها للفقيه وإرادته. فمن أين يأتي الوعي ومنافذه أحادية مغلقة على فتاوى الفقهاء ورؤية الخطاب الديني التراثي؟.
غير أن الواقع فرض نفسه بعد عجز الفقه عن مجاراة الواقع، فكانت البداية مع تأسيس الدولة الحديثة، التي راحت تخط لها مسارا تشريعيا يلبي حاجاتها للأنظمة والقوانين، فكان النجاح حليفها عبر مجالس تشريعية. بعض راعى ثوابت الإيمان والشريعة، وبعض لم يتورع في تشريع لوائح حقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل كتجربة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة. أما الدولة القديمة كالدولة العثمانية في تركيا وامتداداتها، والدولة الصفوية وحواضنها فكان الفقيه يتولى التشريع إما مباشرة أو تحت وصاياه. لا أتحدث عن علمانية الدولة، بل كل دولة بما فيها الدول التي تلتزم بشعائر الإسلام، وتعتبر الشريعة أحد مصادر التشريع وليس مصدرا وحيدا له.
فمع بداية الدولة الحديثة بدأ المجتمع يكتشف وجود تشريعات دستورية وقانونية بعيدا عن الفقيه، كما بدأ اتجاه فقهي ينصت للواقع ومتطلبات الإنسان، خاصة حقوق المرأة التي هي مثال السؤال. وبدأ المجتمع أيضا يعي وجود سيرورة تفاعلية تاريخية بين الأحكام الشرعية والوضعية، تتغذى من طبيعة دينامكية الواقع في امْتِداداتها وَتَطَوُّرها، وتتوج من مرحلة تاريخية إلى أخرى بتحولات ثقافية وحقائق جديدة. فكان وراء هذا الوعي رؤية تشريعية جديدة تمثلت بمجموعة فتاوى عن المرأة وحقوقها، كما أن التشريعات الوضعية استفادت من أحكام الشريعة وتبنت بعضها. وهناك تفاعل بين الأحكام الشرعية والوضعية مثلت وعيا جديدا كأعمال د. عبد الرزاق أحمد السنهورى أشهر فقهاء القانون، وغيره. كل ذلك للخروج من نفق الانغلاق الفقهي، ولا ريب أن كل تحول يرافقه وعي جديد ويفرز ثقافة تلائمه.
إن تكيف الفقه الإسلامي مع الواقع يرتهن لوعي الفقيه وقدرته على تقديم فهم جديد للدين بعيدا عن اتجاه العبودية الذي يكرّس الطاعة والانقياد والاستبداد والتكفير. وقد تكلمت طويلا عن اتجاه الإنسان أو الخلافة ودور العقول في عملية التشريع، يمكن مراجعة كتاب الفقيه والعقل التراثي. وهذا الاتجاه يعوّل عليه، عندما يضع العقل فوق النص وليس العكس، ويرتهن فعلية الأحكام الشرعية لفعلية موضوعاتها في إطار الواقع وحاجته. فثمة تطلع كبير لرؤية جديدة للدين والشريعة، وثمة تحول كبير نحو فهم الواقع وضروراته ومدى حاجته لتشريعات تواكب العصر، وترتفع بكرامة الإنسان وإنسانيته، بعد تحريره من عبودية الفقه وولاية الفقيه.
إن هاجس المشرّع / الله إلتباس الإلهي بالبشري بفعل التزوير، وليست مشكلته مع أصل التشريع خارج دائرة الأحكام الشرعية، إذا كان قائما على العدل والرحمة والسعة ومراعاة الواقع وضروراته، وهي مرتكزات إرادة التشريع. لضمان تحقق ملاكات الجعل التشريعي: التوازن الروحي والسلوكي، وتحقيق العدالة الاجتماعية. المشكلة الأساسية في استغلال الأحكام وتوظيفها خارج سياقات التنزيل ومناسباته، فتكرّس لمختلف المصالح، مما يعيق حركة الإنسان ومهامّه الإنسانية.
***
نتائج البحث
نعود لما قبل هذا السؤال، لنخلص من البحوث المتقدمة: أن الأدلة الأربعة المتقدمة: "سيرة العرف التشريعي. نصوص قرآنية صرحت أنها شُرعت وفقا لمقتضيات الحكمة أو من أنباء الحكمة. تعليل الأحكام، وإمضاء السيرة العقلائية". تؤكد صحة فرضيتنا حول الأحكام الشرعية ومفادها: (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا، بل أن تشريعها يجري وفقا لمتطلبات الواقع ومقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع التي يمكن للعقل إدراكها، وتحديد فعليتها، وتوظيفها لملء منطقة الفراغ التشريعي، في إطار أخلاقي، بعيدا عن وصايا الفقهاء). كما ثبت عدم وجود بعد غيبي أو ميتافيزيقي سوى مبادئ التشريع ومقتضيات الحكمة في إطار الواقع وضروراته.
ولا إشكال في نسبية تشخيص الواقع وتطبيق العدالة قياسا بالخالق تعالى، بعد أن دلت الأدلة الأربعة المتقدمة على إمضاء المقاييس والتقديريات البشرية رغم نسبيتها. بل أن الآيات ناظرة لها عندما تقول: إن الله يأمر بالعدل والإحسان. أي ناظرة لذات المفهوم المتداول للعدالة وليس المفهوم المثالي. بما في ذلك الفهم النبوي، فإنه فهم بشري، يستمد وجوده من تداول المفهوم اجتماعيا. الآيات لا تحيل، وهي تحث على إقامة العدل مثلاً، على العدل الإلهي، فهو غير خاضع للمقاييس البشرية ولا توجد مجانسة بينهما. فلا معنى للتشبث بنسبية المفاهيم للحيلولة دون تحري مبادئ التشريع. وبهذا الشكل وقفنا من خلال البحث على توافق (العرف التشريعي وجملة من آيات الأحكام، وتعليل الأحكام، وإمضاء التأويل)، الارتكاز لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته في تشريع الأحكام الشرعية والوضعية. بمعنى أدق أن الأحكام الشرعية وأحكام الشريعة قائمة على "العدل وعدم الظلم، السعة والرحمة، والمساواة". وجميعها قيم أخلاقية، ومن مدركات العقل العملي، ولا مانع عقلي أو شرعي يحول دون تحري مبادئها وإدراك الجذر الأخلاقي لها. وهذا مبرر إخراجها من كونها أحكاما غيبية تعبدية ومعطى جاهزا إلى اكتشاف المبادئ التي قامت عليها عملية التشريع. وهي نتيجة مهمة، تعيد للعقل مكانته وللنفس ثقتها، وتقدم مفهوما جديدا للشريعة ينأى بها عن الجمود والعجز عن مواكبة الواقع وضروراته. وأساسا إن مخاطبة القرآن لعقولنا إمضاء لطريقة تفكيره، مادام يرتكز للمعرفة والحكمة. فثمة تجربة بشرية وخبرة اجتماعية، امتدت لقرون، تقوم على مبادئ منطقية وعقلية ومعرفة علمية تأخذ بنظر الاعتبار. وهكذا شرعية الأحكام الوضعية فإنها ممضاة متى ما استوفت كامل شروط الحكم التشريعي. وتقدم أن الحكم يكتسب شرعيته من مبادئه لا من قدسيته. ولا شرعية لحكم لا يستوفي شروطه.
إن اكتشاف الجذر الأخلاقي وقيام التشريع وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته ستترتب عليه آثار مهمة على صعيد الأحكام الشرعية، فضلا عن الأحكام الفقهية. وسيلعب الواقع دورا مؤثرا في تحديد مستوى إلزام وإطلاق الأحكام الشرعية. وأهم آثارها هي:
أولاً- تحديد فعلية وعدم فعلية الأحكام الشرعية:
إن تحديد فعلية وعدم فعلية الحكم الشرعي، يلعب دورا كبيرا على صعيد الأحكام الشرعية، فما كان واجبا أو محرما قد لا يكون كذلك، وقد تناولته في موارد عدة. وبشكل أدق سيكون الواقع مبررا لفعلية وعدم فعلية الحكم. بهذا الشكل يمكن مراجعة الأحكام الاجتماعية خاصة، لتحري مدى فعليتها في ظل واقع مختلف، حيث تغيرت شروط فعلية الحكم الشرعي. وبهذا الشكل سيكون بين يدي الفقيه مبررا عقليا لتحري فعلية الحكم بعيدا عن رهاب القداسة.
الطريق الأول: ارتهان فعلية الحكم لفعلية موضوعه
كنت أركز في كتبي القديمة على ارتهان فعلية الحكم لفعلية موضوعه، طريقا واحدا لتحديد فعلية أو عدم فعلية الحكم الشرعي، ومفاد هذا الطريق: "أن فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه وجميع قيوده وشروطه". وقد ضربت مثلا في حينه بوجوب الحج على الاستطاعة: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ)، فالحج واجب بموجب هذه الآية وركن من أركان الشريعة الإسلامية، غير أن وجوبه على هذا الشخص أو ذلك، يتوقف على استطاعته، التي تتوقف على تهيئة جميع مستلزماتها، كجواز السفر، تصريح الدخول للديار المقدسة الذي يستدعي توفر جملة شروط. ولا تقتصر الاستطاعة على الكلفة المادية فقط، خاصة مع تحديد نسبة الحجيج، فقد يكون مستطيعا من الناحية المادية، لكن لا يكون الحج عليه واجبا مع تعذر حصوله على جواز سفر أو فيزا، وأية إجراءات قانونية يتوقف عليها سفره. وبالتالي فإن حكم وجوب الحج ليس مطلقا بل مشروطا، وهذه نتيجة مهمة جدا تنطبق على مجموعة أحكام، تناولت نماذج عديدة عبر كتاباتي السابقة.
وكذلك بالنسبة لوجوب الجهاد، فإنه مشروط بالحرابة، ولا دليل على الجهاد الابتدائي. بينما كثير من الفقهاء، خاصة قدماءهم، يعتبرون الجهاد فريضة مطلقة، غير مشروطة بالحرابة، ويحثون الخلفاء والسلاطين على الغزو ولو مرة أو مرتين كي لا تتعطل فريضة الجهاد. بهذا يتضح حجم الفارق بين فعلية وعدم فعلية الحكم. وطالما أكدت لا فعلية لفريضة الجهاد، مادام موضوعه حماية الدين، والحفاظ على نواة الإسلام في زمن الرسالة عندما كان المسلمون قلة. ثم انتصر الدين بشهادة القرآن: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) وانتشر انتشارا واسعا: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا)، وماعادت هناك ضرورة لحماية الدين بالقوة والعنف. ونعود للمنهج القرآني في الدعوة للدين الجديد: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). وهو منهج الرسول قبل نشوب الحروب.
الطريق الثاني: مراعاة ملاكات الجعل الشرعي
لا شك أن فقه الشريعة بهذا المعنى عملية معقدة، تتطلب عمقا علميا وفلسفيا قادرا على إدراك مبادئ الأحكام، التكليفية والوضعية في مرحلة ثبوت الحكم، (وهذا قياسا على حياتنا، وكما يمارسه المشرّعون). حيث يحدد المشرّع ملاك الفعل أولا، فإذا أدرك وجود مصلحة فيه، تتكون لديه إرادة تتناسب معها، فيبرز إرادته من خلال خطاب في مرحلة الاثبات. غير أن هذا القدر من تشخيص مبادئ الحكم الشعري لا يبيّن كيفية إدراك الملاكات، وما هي محددات إرادة المشرّع حينما يدرك وجود مصلح أو مفسد في الفعل، وهو ما نحتاجه في فقه الشريعة للتأكد من بقاء فعلية أو عدم فعلية بعض الأحكام الشرعية. والحقيقة أن إدراك المصالح والمفاسد في ملاكات الأحكام متعذر علينا، ما لم تكن مصرّح بها قرآنيا. وأما غير المصرّح بها تبقى تخمينات لا يمكن الجزم بمطابقتها للواقع، لذا عمدت أمام هذا الانسداد المعرفي إلى تقصي مرتكزات تلك المبادئ، وفق مقتضيات الحكمة في عملية تشريع الأحكام، لتكون منطلقا لفهم آلية عمل المبادئ، ومن ثم تحديد فعلية الحكم. وقد أخذت بنظر الاعتبار أن المشرع هو الخالق المطلق، وما يتصف به من صفات الكمال والحكمة والعدل والإنصاف والرحمة، (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). فكانت تلك المرتكزات ثلاثة: (مركزية العدالة، السعة والرحمة، الواقع وضروراته). وقد تم الاستدلال عليها قرآنيا وعقليا، كما تقدم بيانه. مما يسهل فهمَ محددات ملاكات الأحكام من مصالح ومفاسد. حتى وإن لم ندرك ذات المصلحة، لكن سنعلم أن إدراكها جرى وفق هذه المرتكزات ضمن معادلة حكيمة، متوازنة، راعت ملاكات الجعل الشرعي الأساسية، التي حصرتها بعنوانين: العدالة الاجتماعية، والتوازن الروحي والسلوكي. فيكون لدينا من خلالها مؤشر، يمكن الاستعانة به لتحديد بقاء أو عدم بقاء فعلية الحكم. فعندما تختل العدالة الاجتماعية نفهم أن معادلة عمل مرتكزات تلك المبادئ باتت غير صالحة للواقع الجديد، فنتحرى الحكم الملائم. (أنظر كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص77-78).
وبالتالي وهذا هو المهم كشاهد على ما تقدم، يمكن للواقع أن يكون مبررا لإعادة النظر في فعلية الحكم الشرعي حينما تختل المقاصد الأساسية للتشريع، بسببه لا بسبب عوامل أخرى. وهذه المرة ليس من خلال شروط الموضوع، بل من خلال علاقة مرتكزات مبادئ الحكم بملاكات الجعل الشرعي. تحتاج لمهارة فقهية، ودراية بالواقع وضروراته.
الطريق الثالث: تحديد فعلية الحكم من خلال الجذر الأخلاقي
وهو خلاصة ما تقم من أبحاث حول علاقة الأحكام الشرعية بالأخلاق، حيث ثبت بالأدلة تشريع الأحكام وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته، وفي إطار القيم الأخلاقية. وقد ضربت في حينه مجموعة أمثلة عملية، كأن يفتي الفقيه خلافا لمبادئ التشريع والقيم الأخلاقية، بكفر المختلف دينيا أو مذهبيا، فيمكن من خلال الاحتكام لمبادئ التشريع الكشف عن حقيقة فتواه، وأنها صادرة بدوافع طائفية. أو بسبب خطأ منهجي، وأسباب غيرها، فلا تكون ملزمة لأتباعه فضلا عن غيرهم. وفتاوى التكفير كثيرة بين المذاهب الإسلامية، مازالت تغذي روح الكراهية والنابذ، وجميعها بدوافع طائفية كأن يتلاعب الفقيه بمفهوم الكافر ليشمل نده الطائفي والمذهبي. أو الفتاوى التي تصدر لدعم الطغاة على حساب الجماهير، ويعزز قراراته بسلب حريتهم واضطهادهم، وهو موقف فقهاء السلطان على طول التاريخ.
يأتي في الحلقة القادمة
..........................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه