حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (247): الخلاص المقدس والأخلاق
خاص بالمثقف: الحلقة السابعة والأربعون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:
الخلاص والأخلاق
ماجد الغرباوي: سبق الكلام، أن تاريخ المذاهب والفِرق، يؤكد خضوع العقائد لقانون التطور. تنشأ فكرة جنينية، ثم تطوي مراحل تكاملها. بعضها يصمد في مقاومة التحديات، وينجح في تشكيل حاضنة اجتماعية تتبناه وتدافع عنه. أو تندثر، لتبقى مجرد معلومة ضمن تاريخ الفكر العقدي. كما أكدت مرارا أن اعتناق العقيدة لا يدل على صدقيتها ومطابقتها للواقع دائما. ولا ينفي دور الوهم والعوامل النفسية والخارجية في تشكيلها. الإيمان يتأثر بمناشئه. وصدقية العقيدة ترتهن لأدلتها وبراهينها، وبينهما بون كبير، فربما مناشئه مجرد أوهام الحقيقة أو مصفوفة خرافات لا دليل عليها سوى الوهم والايمان النفسي. وهذا مبرر موضوعي يسمح بنقدها ومراجعتها للكشف عن تاريخيتها وزيفها وحجم الوهم والمؤثرات الآيديولوجية والطائفية في صياغتها. فيُخطئ من يؤمن بثبات العقيدة، أو ينفي تطورها وتاريخيتها (مدارات عقائدية ساخنة، المقدمة). وكتب المذاهب والفرق ككتاب الشهرستاني تؤكد هذه الحقيقة. بيد أن المشكلة مع من يعتقد بثباتها كمعطى سماوي، حقه التعالي على النقد والمراجعة. بلا دليل سوى إيمانهم النفسي التراثي الموروث، ممن دأبهم التقليد والانقياد. يصدق عليهم: (بَلْ قَالُوٓاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٍۢ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهْتَدُونَ)، (قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ)؟. فهؤلاء لا يعون إيمانهم بل وجدوا أنفسهم مؤمنين، ومن لا يعي إيمانه يغادره العقل النقدي، لا يفقه ما يفعل، سوى أوهام العقيدة، وطقوس تأنس بها أرواحهم المعذبة. يستفزهم سؤال اليقظة واستفهام الوعي. وتهز أعماقهم كلمة "لماذا". تثير حفيظتهم، فلا يجدون جوابا سوى: (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ)، (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا). فهي إذا عقائد موروثة. بعضها طقوس بسيطة، وروحانية تملأ قلوبهم طمأنينة. ولا مشكلة لنا مع هؤلاء الطيبين، بيد أن مشكلتنا الأساس مع عقائد تحتكر الحقيقة والسلطة. تناصب عداء الآخر كواجب شرعي. ترفض التسامح، لحرمة تواد غير المؤمنين: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ). وتركن للعنف المقدس ملاذا لقهر المختلف دينيا وعقديا: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)، توظّف النص بعيداً عن شروطه. يستبيحون كل شيء خارج سلطتها، وكل شيء تحكمه قبضة حديدية بفعل فائض القداسة. لا تعرف سوى الثيوقراطية نظاما للحكم، يتعالى فيها الحاكم الأعلى، ويكون الراد عليه كالراد على الله وهو حد الكفر به!!! كما في روايات التراث. لا سبيل لخلاصهم كما يعتقدون، سوى ممارسة الطقوس وموالاة الأولياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى. وبالتالي فالتقليد آفة العقل التراثي بوجه الحداثة. وليس سوى النقد أداة لزعزعة ثوابته ومسلّماته وقناعاته ونهائياته. بل حتى هذا القدر لا يضمن تحولا حقيقيا في بنية العقل التراثي ما لم يخلق النقد قناعة ومن ثم إرادة قوية يغادر بها خندق التقليد إلى العقل والنقد والانفتاح على العقلانية. وهذا يعطي أساليب الخطاب، وطريقة استعراض الأفكار ونقدها أهمية قصوى لتحقق غاياتها أو ترتد موقفا عدائيا ضد الحداثة العقلانية: (ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ۖ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ). إذاً فالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن آليات الخطاب العقلاني الهادف لزعزعة يقينيات العقل التقليدي التراثي.
وأما على صعيد المنهج فإن العقل التراثي يرهن الحقيقة لمؤدى الخبر. يصدّق ما يوافق عقائده، ويقبل ما يعزز ثقته وإيمانه، بعيدا عن الدليل العقلي والفلسفي. يبنما يرتكز المنهج العقلي للدليل وقدرته على تحدي الإشكالات. يدرس جميع الأدلة والبراهين والقرائن المتاحة والإجابة على جميع الأسئلة والاستفهامات وتحليل الواقع بجميع عناصره. الأول يكتفي بالخبر دليلا على صحة عقائده ومتبنياته الدينية، وطريقا موصلا للحقيقة، فيكرّس السكون والانقياد والتبعية. بينما الثاني يثير الأسئلة ويبعث على التفكير والنقد. فمهمة النخبة أولاً، وفقا لهذه المعطيات، ترقية الوعي إلى مستوى قبول الرأي الآخر، والنظر بجد لتعدد الآراء، والارتكاز للدليل والبرهان على الحقائق. وهذا عمل شاسع ومعقد، قد لا ينجح ما لم تتبناه مؤسسات تعليمية وإعلامية، تعمل تحت رقابة القانون، بعيدا عن الوصايا الدينية وغيرها. تضع مناهج دراسية تركز على جهد الطالب، كما هو متبع راهنا في المدارس الغربية التي تضع مسؤولية البحث على الطالب منذ سنوات الدراسة الابتدائية. فتجده مهموما بإعداد أبحاثه التي ترتهن لها جدارته العلمية. بينما مناهج المؤسسات التعليمية في دولنا قائمة على التلقين والاتباع واقتفاء أثر المعلم. لا مهمة للطالب فيها سوى الحفظ وسيلة لنجاحه، فتقمع في أعماقه الأسئلة، ونوافذ الوعي تصاب بالعطب، بينما طرح الأسئلة وفقا للنظم التعليمية الحديثة أحد مقاصد المنهج، لتنفتح أمام الطالب آفاقا علمية أرحب. يغامر ويبدع ويحقق فتوحات معرفية مبكرا. وأحسب حتى هذا القدر من وعي التخلف وأسبابه لا يكفي ما لم يتحول إلى قناعة راسخة تدفع نحو التغيير، على نظير قول ماركس: "الفقر لا يصنع ثورة وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة". كذلك التخلف لا يصنع ثورة وإنما وعي التخلف هو الذي يحدث نهضة حقيقية. وعي يخلق قناعة وإرادة جدية نحو التغيير. ويكون وعيا عاما يغزو الفضاء العمومي، فليست مقولة "الصمت يثمر السلام" صحيحة دائما، فثمة قضايا تتعلق بواقع المجتمع ومستقبل أجياله، ينقلب معها الصمت حينئذٍ إلى خيانة، وخذلان للحق والمسؤولية التاريخية بل وحتى الدينية.
قد يكون طموح التغيير الشامل مستحيلا، بيد أن ترقية الوعي إلى مستوى محاكمة الأفكار والعقائد. أو لا أقل إثارة الشك في الفضاء العام ممكنا، سيما مع اتساع وسائل الاتصال الحديثة، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي ووفرة المعلومات. إضافة لوجود تجارب سياسية فشلت بتبنيها الأنظمة الثيوقراطية ولو بالتبني اللامباشر، كما في الدول الدينية. وليس القصد من الفشل خصوص الفشل المدني، واستشراء الفساد المالي والإداري، وإن كانت مؤشرات دالة. بل الفشل على مستوى تحقيق الذات من خلال هامش الحرية وأفق ممارستها بعيدا عن الاضطهاد وفي إطار القيم الإنسانية والأخلاقية.
إن علاقة الدين بالفرد علاقة عميقة متداخلة، سيما المجتمعات التي تُولي الأديان أهمية خاصة، تلتزم بتعاليمها ولو ظاهرا، وتلوذ بها لحماية هويتها وقدرتها على حفظ التماسك المطلوب في مواجهة التحديات المشتركة. ولم يأت هذا الرهان من فراغ، فثمة فلسفة تبرر العقيدة والالتزام الديني، ولو على مستوى الطقوس. إذ أهم عوامل رسوخ العقيدة بعد مرحلة التلقي الأولى: ترسّبها كمقولات تأسيسية (تؤسس لمعرفة جديدة) داخل بنية الوعي، فيصعب نقدها لعدم وجود مقولات تسبقها. أي عدم وجود مقولات تشكّل قبلياته المعرفية التي يتوقف عليها النظام المعرفي لدى الإنسان. ثم يأتي القلق الوجودي الذي يدفع بقوة لتحري مكامن الاطمئنان والاستقرار النفسي، للكف عن الهلع الذي يسببه قلق الوجود وقلق المصير، الذي كلما راود الفرد داهمته الحيرة والخوف فيتشبث بكل وسيلة تضمن خلاصه. وليس كالدين يضفي معنى لوجود الإنسان. يبعث الأمل والطمأنينة والاستقرار النفسي من خلال تفسيرات مغايرة للحياة والموت وما بعد الموت. فالدين ينتشل الإنسان من يأسه وقنوطه، ويشعره بأهميته من خلال مسؤوليته التاريخية، وعطف الخالق ورعايته وتوليه للرزق والعافية وكل ما يحتاج الإنسان، فكيف لا ينشدّ للمطلق المتعالي، وكيف لا يلجأ لله الذي وسعت رحمته كل شيء؟ وهذا ما يؤمن به حقا المؤمنون والمتدينون، وعلى أساسه ترسخت عقيدتهم حدَ التبني المطلق. وهو ذاته يدفع لتعزيز الايمان وترسيخه من خلال الطقوس والممارسات العبادية والمواقف الأخلاقية. وهذا النوع من وعي الدين ضد العقلنة، لا يستجيب للشك. فإنها أي العقلنة تقوّض روحه وجوهره. وحتى الخرافات تأخذ طابعا دينيا مقدسا مادامت تغذي عقيدته وترفد اطمئنانه النفسي. فالدين يمثل جوهر الهوية، وركيزة العلاقات الاجتماعية. وكلما اتسعت التحديات إزداد تمسك الناس به، ولو شكليا. كما أن للدين دورا أساسا في تعميق الانتماء الذي يؤكد به ذاته، ويحقق وجوده الاعتباري. وهو أحد أسباب قلقه، تقتضيه طبيعته الاجتماعية، لتفادي تداعيات الاقصاء المجتمعي، وعدم الاعتراف به. الإنسان قيمة اعتبارية، يكابد لتعزيز رصيده الاجتماعي بمختلف تجلياته الدينية والاقتصادية والسياسية. وقد يكسب الفرد ثقة الناس بطرق اعتبارية أيضا كالعلاقات والتواصل الاجتماعي، وتأكيد الذات عبر قوة حضورها وتأثيرها. والدين أحد الوسائل لتعزيز القيمة الاعتبارية وتحقيق الانتماء، في جميع المجتمعات التي تمنحه مكانة سامية. فالإنسان المتدين إنسان متزن، متوازن في أخلاقه وعلاقاته، يكسب ثقة الناس، وهذا يعزز رصيده الاعتباري. فالدين والطقوس والشعائر والعادات الاجتماعية والتقاليد وسائل لترسيخ الانتماء، والشعور بالقوة والمَنعة التي يحقق ذات الانتماء. وهذا سبب آخر يدعو للتشبث بالدين.
القلق والخلاص
لا ريب أن الجهل والأمية وسذاجة الوعي وراء جملة ظواهر دينية، يختلط فيها الحق بالباطل. الخرافة بالحقيقة. الأسطورة بالمقدس. التوحيد بالشرك وإن لم يكن مقصودا بذاته، غير أن مؤداه يفضي لشرك خفي. وهي ظاهرة استرعت اهتمام الباحثين قديما، بدءا من الديانات الطوطمية، وصولا لديانات التوحيد، ومن ثم التدين الطقوسي، الذي هو محور الحديث. أجد الأسباب المتقدمة قاصرة في تفسير الظاهرة، فثمة رسوخ لا يتزعزع مع كل ممارسة طقوسية، ومع كل تعلق روحي ونفسي بالرموز المقدسة. وسبب قصورها أن الظاهرة عامة، لا تقتصر على فئة معينة بل تشمل مستويات علمية وأكاديمية متقدمة، وطبقات ثرية وأخرى ذات مواقع اجتماعية منيفة تتطلب تفسيرا أعمق. رغم عدم وجود ملازمة بين لشهادة الأكاديمية والوعي، فربما إنسان بسيط أكثر وعيا وإدراكا من بروفسور، يمارس طقوسا دينية مصدرها الوحيد أوهام الحقيقة، وما يحيط بها من خرافات وحكايات. وفق هذه المعطيات سأنطلق من العلاقة بين القلق والخلاص لتفسير خصوص هذه الظاهرة، وعموم ظاهرة التدين. لا أدعي أختزل الأسباب بهذه العلاقة، لكنها أقدر على تفسير علاقة الإنسان بالدين وكيفية استغلاله أيديولوجيا لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية وغيرهما.
مفهوم الخلاص
الخلاص لغة كما في قواميسها: (نجاة وسلامة من الخطر، إنقاذ). ويعني اصطلاحا: " الخلاص: النجاة. والنجاة من خطر ما. فتقول: نجى من الغرق. أو خلص من الغرق". كما هو المتبادر من سماع كلمة "خلاص" أو "نجاة"، ليأتي السؤال مباشرة عن نوع الخطر الذي داهمه؟. ويقصد به اللاهوت المسيحي "الخلاص من الخطيئة وتبعاتها، و"النِّهَايَةُ السَّعِيدَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ". ويسمى أيضا بالفداء. لكن المقصود هنا مفهومه المتداول لدى المسلمين: "النجاة من جهنم وعذاب الآخرة". "الفوز بالجنة، ولازمه الخلاص من النار". "خلاص النفس من أدرانها بعد تطهيرها من الذنوب والخطايا". هذا هو الأصل في استخدام المفهوم، لكن حصل انزياح في معناه ليشمل الخلاص الدنيوي. الخلاص من عذابات الحياة، إضافة للخلاص الأخروي. وربما الثانية تطغى على الأولى عندما تضيق بالناس الدنيا بما رَحُبت. تحاصرهم بالفقر والحرمان والأمراض ومداهمات الطبيعة، والقلق وتتابع الخيبات والعثرات والخوف من المجهول. بل أن القلق المصيري يتفرع على القلق الدنيوي. فتجد الإنسان مهموما بدنياه قبل آخرته. وما الثانية سوى تعويض عن حرمان الأولى، هكذا يفهمون الأشياء. فعندما تخذلهم العدالة ويحيط بهم الظلم والعدوان، فجوابهم: "لكن الله أعدل"، لا ينسى عباده، وسينتقم ممن ظلمنا وبخس حقنا يوم الحساب. فالآخرة خلاص وأمل واسع وكبير. وبالتالي فالحاجة للخلاص يفرضها قلق المصير. والثاني يدفع لتحققه بشتى الوسائل. فيلجأ للشفاعة والتوسل وزيارة الأضرحة، وتقديم الأضاحي والنذور تقربا، لضمان الخلاص، وهنا بؤرة الاستغلال عندما يضعون ثقتهم بمطلق الخطاب التراثي. إنه ذلك القلق الذي يستوطن أعماق النفس البشرية، عندما يستفحل. يمارس حضوره لا شعوريا. قلق لا يطفئه سوى الاطمئنان والاستقرار النفسي، واستبعاد الخوف والهلع، وليس سوى الله قادر على ذلك، لولا مشكلة الإنسان عندما يضل الطريق، ويسكنه إما رهاب التعامل المباشر مع المطلق أو عدم الثقة بالنفس، وفي كلا الحالتين يبحث عن المحايث، الرموز الدينية، والأضرحة المقدسة، يشاهدها أمام عينيه. يتوهم قدراتها عندما يرجع كل توفيق لها، ويفسر كل خيبة بعدم وفائه لها وتقصيره في أداء واجباته تجاهها. وهكذا يضاعف أوهامه بالنذور والصلوات والتقرب بمختلف الأشياء حتى الخرافية منها.
إذاً، هناك قلق وجودي وهناك خلاص رباني. الأول أصيل ودفين لا يفارق وجود الإنسان. والثاني (الخلاص الإلهي) تكاد تكون شروطه تعجيزية لسببين: شدة إيقاعات خطابات الترهيب في الكتب المقدسة وخصوص القرآن، التي تثير الذعر وتزرع اليأس، فمشاهد يوم القيامة في الكتاب تقشعر لها الجلود والأبدان، وكأنك تواقع النار حقيقة. والثاني وجود خطاب تراثي يرهن الخلاص بالفرقة الناجية. فيضطر الإنسان للاستعانة بكل الوسائل لتفادي قلقه الوجودي، البلاء المعبر عن غضب الله في الدنيا، وضمان الفوز في الآخرة. وهنا بالذات يبدأ استغلال الإنسان، سيما من تخذله الفطنة والنباهة، ومازال يعيش رثاثة الوعي. ولا سبيل حينئذٍ لتفويت الفرصة على المتكسبين بالدين، والمعتاشين على بساطة الناس الطيبين، سوى ترقية الوعي عبر خطابات ثقافية تعالج حالة القلق النفسي، وتعيد تشكيله ليكون منتجا للتفاؤل والجمال والإبداع والعطاء والاندفاع نحو عمل الخير والصلاح. وشرط نجاح هذا اللون من الثقافة واقعيتها وصدقية خطابها، لتتمكن من قلب جملة مفاهيم تأسر الإنسان سببها الجهل والأمية. أو بسبب رثاثة الوعي وفائض الخوف من المجهول والمستقبل. وهذا ما تعمل عليه جهود التنمية البشرية، التي نحن بأمس الحاجة لها في مجتمعات تعاني ويلات السياسة، وخيبة الأنظمة التي تتجاهل حقوق الإنسان.
لم تكن المجتمعات الغربية أفضل حالا من المجتمعات الشرقية، سوى ثقتها العالية بمعطيات العلوم، بعد عزل الكنيسة وتعاليمها. وخلق واقع حياتي منهمك بتوفير السعادة والرفاه والأمن والسلام والحرص على حقوق الإنسان. فثمة واقع ماثل أمام الفرد يعزز خطابات التقدم الحضاري. بينما يعاني الفرد ولا يجد سوى الله لخلاصه. وأي تقدم على مستوى الخدمات والأمان والضمان الاجتماعي والصحي يساهم في إعادة تشكيل المفاهيم، وبذلك يغلق الباب أمام الاستغلال، لكنها مفقودة غالبا. كذلك تقديم فهم جديد للدين ومفاهيمه يساعد هو الآخر على إعادة تشكيل الوعي الديني، فهناك قصدية وراء تكريس المشهد التشاؤمي في الكتب السماوية، حداً يشعرك باليأس. وإخفاء الجوانب الرحمانية المشرقة التي تبشر بسعة الرحمة والمغفرة وقرب الله للإنسان، وتبنيه، لا حاجة لشفيع فهو أقرب له من حبل الوريد، كما في الآية الكريمة. وبالتالي فالوضع السياسي مسؤول عن نكصوص الوعي أيضا.
نخلص أن فهم العلاقة بين القلق الوجودي والخلاص، شرط لمعالجة إخفاقات الوعي الديني على صعيد التدين الطقوسي. فثمة التباس في فهم الواقع، من جملة أسبابه: استفحال القلق الوجودي. زاوية النظر للعلاقة. استبداد العقل التراثي في تفسيره ومعالجته. الشك بمعطيات العلوم الإنسانية الحديثة، خذلان الواقع السياسي، رهاب المجهول وما وراء الموت، وقصور المعالجات الاجتماعية. لكن تبقى أخلاق الضعف سببا رئيسيا يستدعي جهودا تثقيفية تعيد تشكيل منظومة الأخلاق بعيدا عن الضعف والنكوص، فليس الكسل والتخاذل والركون للخرافة والوهم وتقديم النص على العقل فضائل أخلاقية. وهذه نقطة مهمة، تداركها يعيد تشكيل العقل ومنظومة القيم الأخلاقية واقتصار مفهوم الفضيلة على القيم التي تعمق إنسانية الإنسان، وتبعث المحبة والجمال والتقدم والازدهار.
يأتي في الحلقة القادمة
.................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه