حوار مفتوح

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (252): من الإملاء الفقهي إلى الامتثال الأخلاقي

خاص بالمثقف: الحلقة الثانية والخمسون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:

أنسنة التشريع

إن عقلنة التشريع كانت خطوة أساسا لمقاربة إشكالية العلاقة بين الأخلاق والأحكام الشرعية لتسوية التعارض بينهما. وما كان بالإمكان مقاربة الإشكالية وفق الفهم الدوغمائي لمفهوم القداسة، الذي يتعامل مع الأحكام بوصفها معطى نهائيا لا طريق لمعرفة عللها وأسباب صدورها.. أوامر ونواهٍ لا تاريخية، مطلقة أزمانا وأحوالا وفق قاعدتين: "المورد لا يخصص الوارد"، و"العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، يقتصر موقف الفرد على الطاعة والتسليم. بعيدا عن أسباب صدور الحكم ودواعي تشريعه. غير أن المعنى الجديد لمفهوم القداسة وفقا للاتجاه العقلي أتاح لنا معرفة آلية عملية التشريع (أو مرحلة جعل الحكم بالمصطلح الأصولي). واكتشاف دور العقل والمبادئ الأخلاقية فيها. وبالفعل أمكننا تحديد العلاقة بين ملاكات الأحكام والمبادئ الأخلاقية، كمرجعية لتحديد درجة إلزام الحكم، أمراً أو نهياً. وهي مبادئ أخلاقية: (العدل وعدم الظلم، السعة والرحمة، المساواة). بهذا خرج التشريع من الغموض و"اللامفكر فيه" أو "يحرم التفكير فيه"، إلى عملية عقلائية منضبطة، يقصد من خلالها المشرع مصلحة الناس في أفق الواقع وضروراته. فالأحكام ليست صيغا نهائية، مطلقة أزماناً وأحوالاً، بل ثمة أسباب ودواعٍ لصدورها، بانتفائها تنتفي فعلية الحكم. وهذا نقطة مهمة ومنعطف في فهم الأحكام الشرعية. إذ لم يعد عدم وجود قيد في الحكم يكفي لثبوت إطلاقه، بل هناك واقع وأسباب وسياقات أخلاقية، ومضمرات عرفية وتوافقات اجتماعية كانت وراء تشريع الأحكام الشرعية، فتكون مرتهنة لها في فعليتها. أو تبقى الأحكام فعلية بناء على قاعدة الإطلاق اللغوية، وتبقى جميع أحكام أهل الذمة والموقف من الآخر وحقوق المرأة وحقوق الإنسان فعلية رغم تطور الواقع الاجتماعي ورقي الوعي البشري، ووجود تشريعات إنسانية منافسة وقد أثبتت جدارتها، ومرجعيتها. نخلص أن الحكم الشرعي مرتهن في إطلاقه وفعليته لملاكاته وللمبادئ الأخلاقية المسؤولة عن تحديد مستوى إلزام الفعل. وهذا يقتضي دراسة ظروف وأسباب صدور الحكم أو نزول آية تشريعه. وسبق أن حددت طرقا لمعرفة ملاكات الأحكام مع تعذر تحديد ملاكاته:

أولاً: ارتهان فعلية الحكم إلى فعلية موضوعه التي تتوقف فعليته على جميع ما يتعلق به من شروط وقرائن وواقع محدد. فتنتفي فعلية الحكم بانتفاء فعلية موضوعه. وهذا أمر ممكن لكل خبير سواء كان فقيها أم لا. فالموقف من الآخر ضمن مجموعة أحكام، كانت قد صدرت في ظرف صراع مرير بين المسلمين وخصوصمهم من قريش وأهل الكتاب، فتكون معززة للموقف العسكري والأمني، كالأمر بقتال المشركين من أهل الكتاب، فيكون الحكم مقيدا به، وقرينة على عدم إطلاقه.

ثانيا: يمكن تحديد ملاكات الأحكام أيضاً من خلال ما أسميته بـ(مقاصد الجعل)، التي تختلف عن مقاصد الشريعة. مجسات يمكن من خلالها تحديد ملاكات التشريع عندما يتعذر علينا تشخصيها في مرحلة جعل وتشريع الحكم، وهي: (التوازن الروحي والسلوكي، وتحقيق العدالة الاجتماعية). (أنظر تفصيل الكلام في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص77).

وفي كلا الحالتين تكون الأخلاق هي المرجعية الوحيدة لتحديد ملاكات الأحكام، وليس انتفاء القيود. بهذا بات وعي الحكم الشرعي مختلفا جذرا عن صيغته الدوغمائية، بعد ثبوت تاريخيته وتجريده من ميتافيزيقيته. وبعد اكتشاف دور العقل في عملية التشريع، والجذر الأخلاقي لملاكات الأحكام، فيصدق أن التشريع عملية عقلائية إنسانية. بهذا صرنا بحاجة لمصطلح يشير للبعد الإنساني في عملية التشريع أيضا، وليس العقلنة وحدها التي تنحصر في حدود الآليات المنطقية والمنهج التأملي. وأقصد بالبعد الإنساني، مصالح الإنسان التي يدور حولها التشريع، سواء ضمن المبادئ الأخلاقية، أو من خلال واقع الإنسان والمجتمعات البشرية المأخوذة في عملية التشريع.  وهنا أجد أن "أنسنة التشريع" هي أصدق عنوان ينطبق، على الجهد الفكري والنقدي المتقدم، وما تمخض عنهما من نتائج لإثبات صحة الفرضية، التي افترضت أن التشريعات ليست معطى نهائيا، ومادامت كذلك فتخضع لشروط فعليتها. وتجري وفقا لمتطلبات الواقع ومقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع التي يمكن للعقل إدراكها، وتحديد فعليتها، وتوظيفها لملء منطقة الفراغ التشريعي، في إطار أخلاقي، بعيدا عن وصايا الفقهاء. فهي عملية عقلائية مارسها الإنسان قديما وما يزال ضمن مراحل التشريع.

إن آلية ومراحل التشريع واحدة، لا فرق بين التشريعات السماوية والأرضية، ولا يقال ربما هناك آلية مختلفة للأحكام الشرعية مودعة في سرادق الغيب. ومن يحلل عملية تشريع الأحكام بعيدا عن دوغمائية القداسة يصل لذات النتيجة. واستشهد هنا بكلام كبير علماء أصول الفقه في العصر الحديث وهو يبين مراحل تشريع الحكم، والتي تنقسم إلى مرحلتين، الثبوت (الجعل والإنشاء) والإثبات (إبراز الحكم بخطاب)، يقول:

(... إذا حللنا عملية الحكم التكليفي كالوجوب - كما يمارسها أي مولى في حياتنا الاعتيادية - نجد أنها تنقسم إلى مرحلتين: إحداهما: مرحلة الثبوت للحكم، والأخرى مرحلة الاثبات والابراز، فالمولى في مرحلة الثبوت يحدد ما يشتمل عليه الفعل من مصلحة - وهي ما يسمى بالملاك - حتى إذا أدرك وجود مصلحة بدرجة معينة فيه تولدت إرادة لذلك الفعل بدرجة تتناسب مع المصلحة المدركة، وبعد ذلك يصوغ المولى إرادته صياغة جعلية من نوع الاعتبار، فيعتبر الفعل على ذمة المكلف، فهناك إذن في مرحلة الثبوت ملاك وإرادة واعتبار، وليس الاعتبار عنصرا ضروريا في مرحلة الثبوت، بل يستخدم غالبا كعمل تنظيمي وصياغي اعتاده المشركون والعقلاء، وقد سار الشارع على طريقتهم في ذلك. وبعد اكتمال مرحلة الثبوت بعناصرها الثلاثة - أو بعنصريها الأولين على أقل تقدير - تبدأ مرحلة الاثبات، وهي المرحلة التي يبرز فيها المولى - بجملة إنشائية أو خبرية - مرحلة الثبوت بدافع من الملاك والإرادة. (أنظر الحلقة الثانية من حلقات الأصول، ص176، ج6 من موسوعة المؤتمر، دار العارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط2012م). فهو يعتقد أن عملية تشريع الحكم عملية عقلائية، مارسها الإنسان وما يزال. عملية تمرّ بمراحل، يمارس العقل فيها دورا رئيسا. والسيد محمد باقر الصدر يتكلم وفقا لمبانيه. وقد مرّ تفصيل الكلام حول مراحل ومكونات عملية تشريع الأحكام من وجهة نظرنا، فهناك ملاكات تقوم على مبادئ أخلاقية: (العدل وعدم الظلم، السعة والرحمة، المساواة). وهناك عقل يتصف بالحكمة يوازن بين ملاكات الأحكام ومتطلبات الواقع، وهي عملية مرنة، ترفض الجمود والإطلاق مادام هناك واقع متحرك يفرض نفسه. فالدور الإنساني ثابت في عملية التشريع سواء على صعيد فهم ملاكات معالجة الواقع، الذي هو واقع إنساني، وهذا يختص بأحكام الشريعة. أو على صعيد التشريع لملء منطقة الفراغ التي تسند فيه المهمة للعقل والقيم الأخلاقية ضمن مبادئ التشريع أعلاه.

وبالتالي يصدق أننا نجحنا في "أنسنة التشريع"، وتفادي تداعيات الفهم الدوغمائي الذي يتخذ من القداسة ذريعة لاستبعاد العقل، وجعل تشريع الأحكام ضمن اللامفكر فيه، فهو عملية غيبية، باستثناء الصحابة أو الأئمة، ولازمه فرض وصايا بشرية على الدين في جانبه التشريعي، والتحكم بمصير العباد، انسياقا مع الاتجاه الأيديولوجي للفقيه، حتى أعلن الفقيه وصاياه وقيمومته علنا تحت عنوان ولاية الفقيه المطلقة، التي تعني وجوب الانقياد للفقيه وقراراته. وآراؤه تعلو ولا يعلو عليه أحد، يقتصر موقف الشعب على الطاعة والانقياد والتسليم. ورغم قساوة الاستبداد الديني تحت هذا العنوان، غير أنه يهون أمام رهاب "التقليد" التي تفرض على الفرد سؤال الفقيه عن كل شؤون حياته، فـ"ما من واقعة إلا ولله فيها حكم"، لا يعرفه أحد سوى الفقيه رواية أو استنباطا، وهكذا خلقت هذه المقولات المستفزة، مشاعر سلبية، تخلى معها الإنسان عن عقله وقيمه الأخلاقية أمام الفقيه وآرائه الفقهية. غير أن "أنسنة التشريع" استعادت مركزية الأخلاق لتكون سلطة فوقية لا تقهرها سلطة الفقيه مهما التحف بالقداسة وادعى ولايته. الأخلاق تلك القيم الأصيلة المشتركة بين الناس جمعاء، ويمكن للجميع الاحتكام لها. فيصدق أن أنسنة التشريع أخرجت الإنسان المؤمن "من الاستعباد الفقهي إلى الامتثال الأخلاقي". فلم يعد التشريع حكرا على الفقيه سوى خبرته، وبإمكان الفرد الاحتكام للأخلاق في حالات التعارض بين فتاوى الفقهاء والقيم الأخلاقية. خاصة الموقف الفقهي من الآخر، وفتاوى تفكيره واستبعاده.

هكذا يجب أن يكون مسار التنوير: من القصور العقلي إلى الاستقلال الفكري.. من الإملاء الفقهي إلى الامتثال الأخلاقي. . لتحطيم روح العبودية، وتحرير الوعي من رهاب الحرية، والتخلي عن التقليد والانقياد والتبعية المطلقة، بفعل أوهام القداسة، والخوف من الضلال وحرمان الخلاص. أن التطور الحضاري يستدعي نفوسا تواقة للحرية والارتقاء بواقع حقوق الإنسان، وفسح المجال للعقل يأخذ دوره في مواجهة التحديات. ينبغي إفراغ الأحكام الشرعية من نزوعها التسلطي الاستعبادي، ليحل بدلها المعنى الأخلاقي.الحرية جوهر إنسانية الإنسان، بها يحقق شرط وجوده خارجا، وعلى أساسها يتحمل أعباء قراراته: (إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، وليس لأحد سلبها، تحت أي عنوان، وأن الأصل حريته، لا عبوديته. هو المسؤول الوحيد عن قراراته. وآية: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، لا تعني محاصرة الفرد بفتاوى، تصل حد الاستخفاف بحيثية الإنسان، عندما ترتهن أبسط تصرفاته بالحلال والحرام. كل حكم لم يرد في كتاب الله وجهة نظر اجتهادية غير ملزمة إلا من ألزم نفسه بها. وتبقى الأخلاق مصدر فعلية وشرعية جميع القوانين والأنظمة في منطقة الفراغ شريطة أن تستوفي مبادئ التشريع. ينبغي العودة لاكتشاف الأنا، وتحرير الذات من سجون المقولات الكلامية والفقهية، وزرع الثقة بالنفس بدلا من رهاب الحرية. وفي هذه المرة ينبغي وعي الذات على أساس الحرية وليس العبودي. وأن الأصل حرية الإنسان لا عبوديته.

لست بصدد الحديث عن الدين بمفهومه الواسع، ولا عن آيات الكتاب سوى آيات التشريع. فهي حقل اشتغالي ضمن سؤال: هل مازالت جميع أحكام الشريعة المنصوص عليها في كتاب الله، فعلية، وسارية المفعول رغم تغيّر موضوعاتها؟. هل ثمة ملازمة بين أحكام الشريعة والدين؟. بشكل أدق، هل ثبوت عدم فعلية جملة من الأحكام الشرعية يعد طعنا بمصداقية الدين؟. هل الفقه امتداد للشريعة أم فهم لنصوصها، ووجهات نظر اجتهادية قد تصيب وقد تُخطئ؟. سبق أن بينت مفصلا أن وجود الشرائع وعدم وجودها لا يؤثر على مصداقية الدين. وذكرت ما يؤكد هذا الكلام بأدلة وشواهد كافية. ويكفي آيات الرحمة والسعة واليسر دليلا على إمكانية تغيّر الأحكام. ومن الأدلة آية: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ). فنزول آيات الحرب والجهاد والقتال كان بسبب الصراع المحتدم بين المسلمين وقريش، ولو قدر للرسالة الانتصار بلا عوائق لما نزلت هذه الآيات. وهناك أحكام جاءت استجابة لأسئلة المسلمين (ويسألونك...). لذا تعددت الشرائع بتعدد الظروف المحيطة بالمؤمنين: (لِكُلٍّۢ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)، عكسا للدين فهو واحد لم يتغير: (إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَٰمُ). بمعنى التسليم، وهذا يؤكد أن للدين حقيقة مستقلة، لا تتأثر مصداقيته بفعلية وعدم فعلية الأحكام. بل وليس جميع الأنبياء أصحاب شرائع سماوية. إن تقديم فهم جديد للدين هدف أساس ضمن مشروعي، وبالفعل كتبت كثيرا عنه، ومازلت، والحديث عن فعلية الأحكام يقع ضمن هذا السياق التنويري، لفرز الإلهي عن البشري. وبيان ما هو حكم شرعي موحى به عما هو حكم فقهي اجتهادي غير ملزم. بل أن دائرة الأحكام الشرعية تقتصر على أحكام الشريعة المدونة، وما له جذر قرآني من السُنة، بحدود البيان والتوضيح. وحديث عن فعلية وعدم فعلية الأحكام مقتصر على أحكام الشريعة، وما عداها مهما كان مصدرها رؤية اجتهادية بشرية، لست معنيا بها، سوى أنها خبرة فقهية، لملء الفراغ التشريعي أسوة بأي فقيه. بهذا الفهم يمكننا رد الاعتبار للدين، الذي شوّهته التوظيفات الطائفية والسياسية. ونحول دون تضخم الفتاوى والأحكام الفقهية التي كرست الانقياد والتسليم، والانسياق وراء التوجهات الأيديولوجية للفقيه.

أسوق هذه المقدمة لتفادي أي لبس في فهم مقاصد البحث. الكلام عن الدين وتعريفه وحدوده يأتي في بحث مستقل، والكلام هنا بخصوص الأحكام وكيفية تسوية التعارض بينها وبين القيم الأخلاقية، وقد انتهينا إلى حاكمية الأخلاق ومرجعيتها.

وتبقى الأسئلة حول تحديات الاتجاه العقلي، مع وجود نصوص دالة على خلافه. ثم هل الاخلاق بديلا تشريعيا، وما هي مبرراته؟ أسئلة مهمة جدا يأتي الحديث حولها.

.................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

[email protected]

في المثقف اليوم