حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (255): العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق

خاص بالمثقف: الحلقة الخامسة والخمسون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:
ماجد الغرباوي: إن العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق يعني الانتقال من النقل إلى العقل في فهم الدين والتشريع ودور الإنسان في الحياة. من التعبد إلى النقد. من الجمود على ظاهر النص إلى التأمّل والتأويل. من التلقي إلى النظر. من التقليد إلى الاجتهاد. من الانقياد إلى الحرية. من أولوية التشريع إلى أولوية الإنسان. من الانغلاق على الماضي إلى التفكير بالحاضر والتخطيط للمستقبل. من الإملاء الفقهي إلى الامتثال الأخلاقي. من الأيديولوجية إلى المبدئية والالتزام الأخلاقي. فثمة اختلاف جذري حول مصادر التشريع ومناهج استنباط الحكم الشرعي بين المرجعيتين. لذا نراهن على الوعي الحديث لتسويق الاتجاه الأخلاقي في سن الأنظمة والقوانين وتقييم سلوك الفرد والمجتمع، كضرورة لتقديم فهم جديد للدين والتشريع ودور الإنسان في الحياة، والخروج من الأزمة الأخلاقية بفعل تسويف القيم بعد توظيف الدين لأغراض سياسية وطائفية. فيصدق أن المرجعية الأخلاقية انقلاب على المرجعية الفقهية. قد لا تكون قطيعة تامة، لكنها تختلف في منهجها ومقولاتها الكلامية. إن مرجعية التفكير الديني بشكل عام والمرجعية الفقهية بشكل خاص، ترتكز إلى نسق عقدي متعالٍ، ومصفوفة نصوص مقدّسة، مطلقة أزماناً وأحوالاً، تتولى عملية التفكير وإنتاج المعرفة. من خلالها يستنبط الفقيه فتاواه وأحكامه الشرعية. وبها يفسّر العقل التراثي ظواهر الأشياء. ولازم إطلاق النص تعاليه، فوق النقد والمراجعة، يجب قبوله تعبدا، وتقديمه على العقل في حالات التعارض، فيضطر الفقيه إلى التأويل والتبرير كآلية للدفاع عن النص وقدسيته. لذا لا يكفي وعي النص ظاهرا في تفكيك تلك المرجعيات وإعادة تشكيل العقل، فهو ليس مجرد نسيج لغوي، بل سلطة تستمد صدقيتها من قبليات المتلقي، ومن قوة بيان النص، وقدراته البلاغية والتعبيرية، وأسلوبه في توظيف المجازات داخل النسق اللغوي، وحجم الإحالات المرجعية في إيحاءاته ورمزيته وقدرته على استغفال القارئ. لذا تجد النصوص الدينية أثرى وأقدر على مقاومة النقد والتفكيك، حينما تتجدد دلالاتها مع كل مقاربة نقدية. فلا يمكن تسوية الإشكالية ما لم نفهم تقنية أداء النص، وحجم رهاناته على ثقافة الفرد وقبلياته. بهذا يتضح أهمية نقد النص ومضمراته في تسوية إشكاليات مرجعيات التفكير الديني. ولم تعد دراسة النصوص متنا وسندا كافية في زعزعة يقينيات العقل التراثي. (كتابي: النص وسؤال الحقيقة، ص8). في مقابل مرجعية أخلاقية في منهجها ونسقها العقدي. فإذا كانت المرجعية الفقهية تقتصر على النص والتعبد في تشريع الأحكام، فإن مبادئ التشريع والعقل يلعبان دورا في تشريع الحكم الشرعي لدى الاتجاه الأخلاقي. فآلية التشريع وخطواته ومصادره تختلف. ولكي نفهم جوهر الاختلاف، وكيف التبس الإلهي بالبشري، نطل سريعا على المسار التاريخي لتكوين المرجعية الفقهية، منذ بداياتها ومراحل تطورها. ليس مجرد سرد تاريخ بل طرح ما نود طرحه من أسئلة وعلامات استفهامات في ضوئها نتلمس طريق الهداية لما هو أصلح. لكن قبل ذلك نشير إلى مبررات العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق.
منطلقات العدول المرجعي
ثمة مبررات عقلائية وشرعية وحضارية وأخلاقية وراء العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق، لملء الفراغ التشريعي، تقررها وظيفة الدين ودور الإنسان في الحياة. أشرت لبعضها خلال البحوث المتقدمة، غير أن حساسية الموضوع تستدعي شيئا من التفصيل. والكلام هنا وفقا لمتبنياتي العقدية التي تقع في مقدمتها:
- اختصاص التشريع بالله تعالى، ونفي أية وصايا أو ولاية تشريعية لغيره، مهما كانت منزلته. فالتشريع إما إلهي منصوص عليه قرآنيا أو بشري لا يتعالى على النقد والمراجعة. إما أحكام شرعية أو أحكام فقهية. فهم للشريعة، ووجهات نظر اجتهادية مرتهنة لظرفها الزماني والأحوالي.
- القدر المتيقن من حجية السنة ما له جذر قرآني (بيانا وتفصيلا)، وفقا لآيات الكتاب التي حددت مسؤوليات الرسول وليس من ضمنها حق التشريع. بل أن بعض الآيات أكدت أن الرسول كان يُحيل على الله في بيان الحكم الشرعي، مما يؤكد عدم صلاحياته للتشريع باسم الشريعة. فما ورد عنه من تشريعات تصنّف ضمن خمسة حقول، يأتي بيانها، وبمنهجية أخرى. وهذا لا يسلبها شرعيتها، وتبقى مرتهنة لملاكاتها ومبادئها الأخلاقية، بيد أنها تبقى أحكاما بشرية. كان الصحابة يسألون النبي مباشرة، فتارة يجيبهم بآية قرآنية، حينما لا يكون موضوع الحكم الشرعي مطروقا من قبل. وأخرى يفتي تفصيلاً وبياناً للحكم الشرعي القرآني. (أنظر كتاب: النص وسؤال الحقيقة، ص136).
- لا تسري قدسية الكتاب لغيره، وما عداه نصوص بشرية، قد تصيب وقد تُخطئ، مهما كان دفاع الاتجاه الطائفي والأيديولوجي عنها.
- دور الدين في الحياة إرشادي لا تكويني. بمعنى أصالة العقل وأحكامه التي هي من مدركات العقل العملي. والنص القرآني كاشف عنها، لا مؤسس لها، وهذا ما يؤكد الجذر الأخلاقي للأحكام.
- دور الإنسان في الحياة دور إنساني وهو معنى تحمّله لأعباء الأمانة / الرسالة: (إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). أي أن شرط تحمل الأمانة حرية الإنسان، وهذا يتنافى مع الفتنة والعبادة بالمعنى الحرفي للكلمة، كما يؤكد الاتجاه التراثي عليه. فليست وظيفته التبعية والطاعة والانقياد، بل تحمل المسؤولية بلا إكراه ولا اضطهاد.
مبررات العدول المرجعي
في ضوء هذه المقدمات / المنطلقات يمكن تحديد مبررات العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق، مع التأكيد أن العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق لا يعني القطيعة مع الدين وقيم التشريع، بل أن اكتشاف الجذر الأخلاقي للأحكام الشرعي كما تقدم تفصيلا، يجعل من المرجعية الأخلاقية مبدأ في عملية تشريع الأنظمة والقوانين. بشكل أدق أن المرجعية الأخلاقية ليست شيئا آخر سوى امتداد للجذر الأخلاقي للأحكام، فكما أن القيم الأخلاقية هي التي تحدد مستوى الإلزام في الحكم الشرعي، فكذلك تمارس الأخلاق دورها في ملء الفراغ التشريعي. فيصدق أن المرجعية الأخلاقية امتداد لجوهر الدين وذاتيات التشريع دون أعراضه المحكومة بعاملي الزمان والمكان ومدى تطور وعي الإنسان. بذلك نتخلى عن إطلاق أحكام الشريعة ما لم يثبت الخلاف بدليل قرآني صريح. ولا عبرة لثبوته على مستوى النص والتركيب اللغوية. أقصد إن عدم وجود القيد لا يُثبت الإطلاق الفعلي دائما، لوجود مضمرات أخلاقية وسياقية كانت وراء فهم النص وتحديد فعليته، يتعذر علينا ثبوت إطلاقها. ولا ينفع عدم وجود قرائن وأدلة على ثبوتها، مادامت خاضعة لتطور المجتمع وعاداته وتقاليده. أو باللغة الأصولية، أن تلك المضمرات الأخلاقية والسياقية، ليس فيها مقتضى للبقاء بذاتها، فلا معنى لإجراء البراءة عند الشك بالرافع. ومع كونه كذلك، فالإطلاق منتفٍ لا محال. وهنا لا بد من التمييز بين أحكام الشريعة، العبادية وغيرها، من خلال ملاكاتها، ومقاصدها.
مبررات العدول المرجعي
بدءا نقول: "إن كلا من الفقه والأخلاق يتناولان الفعل الإنساني من حيث الحكمُ عليه وتقويمُه، ومصادر هذا الحكم، وتعليلاته". الأول يرتكز إلى الرأي الفقهي في ضوء مصادر التشريع وقبليات الفقيه، العقدية والأخلاقية. لذا تتعدد الآراء الفقهية حول المسألة الفقهية الواحدة، فتجد فقيها يحكم بإيمان قوم، يحكم عليهم الآخر بالكفر، فالفارق بين الفتويين فارق بين الإيمان والكفر وما يترتب عليهما من أحكام، وهذا سرّ استباحة دماء المسلمين بعضهم البعض بلا ورع ولا تقوى ولا خوف من الله ولا وازع من ضمير. وقد ذكرت تحت عنوان "يقينيات الفقيه" في ص143 – 144، في كتاب "النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني"، ثمانية مظاهر لاختلاف الفتوى تبعا لاختلاف قبليات الفقيه ومبادئه وقيمه وعقيدته وأفقه. وبالتالي لا ثبات للمرجعية الفقهية، عكسا للقيم الأخلاقية الأصيلة فهي ثابتة، مطلقة، وقيم إنسانية مشتركة. الارتكاز للقيم الإنسانية، يمنح الحكم بعدا إنسانيا، ومناعة ضد التوظيف السياسي والأيديولوجي والطائفي. فالفرق بين المرجعيتين هو ذات الفرق بين الثابت الذي يطمئن له الوجدان، والمتحول الخاضعة لأمزجة الفقهاء وتوجهاتهم العقدية والأيديولوجية. فهناك مجموعة مبررات بل ضرورات للعدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق، أشير لها إجمالا:
1- تعدد مصادر التشريع، رغم انتفاء أية ولاية تشريعية لغيره تعالى. وقد تجاوزت القرآن والسُنة، لتشمل سنن الصحابة ومن ثم سُنن أئمة أهل البيت، بعد ترقية الصحابة إلى مستوى العدالة المطلقة، التي هي معادل موضوعي للعصمة. ورفع أئمة أهل البيت إلى درجة العصمة.
2- دعوى شمول الشريعة لجميع مناحي الحياة، رغم أن آيات التشريع في الكتاب المجيد 500 – 600 آية.
3- تفاقم الفتوى والأحكام الفقهية حتى أثقلت كاهل المسلم، وحدَّت من حريته وإرادته.
4- تقديم أولوية الشريعة على أولوية الإنسان. الفقه يضحي بالإنسان من أجل التشريع، بينما حقيقة التشريع خدمة الإنسان وضبط سلوكه كي يعيش بأمن وسلام. الرأي الفقهي يقوم على عبودية الإنسان، والرأي الديني يعتبر الإنسان خليفة في الأرض.
5- حجبت النصوص الثانية (الروايات وأقوال الفقهاء) النص الأول / القرآن. وبات محرما أو هكذا يشعر الفرد مقاربة النص الأول إلا من خلال النص الثاني، مهما كان الأول واضحا بينا. بحجة وجوب التقليد، ووجوب عودة الجاهل إلى العالم. والعالم هنا رجل الدين. فبقى المتلقي مرابطا في القرون الأربعة الأولى، يفكر بطريقة السلف وهو يعيش في القرن الواحد والعشرين.
6- تداخل البشري بالإلهي، حتى صار الفقه يرادف الشريعة في وعي الناس. يخشاها كما يخشى كتاب الله، بينما هي وجهات نظر اجتهادية، تتحكم بها قبليات الفقهية.
7- منطق الهيمنة الذي يمارسه الفقيه وارتهان الفقه لمقولات كلامية وليدة صراع سياسي – طائفي. حتى بلغت الهيمنة أقصاها في ولاية الفقيه المطلقة، التي تعني القيمومة والوصايا مطلقا، كحق إلهي مجعول للفقيه.
8- ظهور الفقه السلطاني، في موازاة علم الكلام القديم، لتبرير سلوك السلطة واستبدادها.
9- مارس الفقه دور الهيمنة والإقصاء، فتسبب في استعداء المسلمين بعضهم البعض.
10- سلب حرية الفرد والمجتمع، وقمع الرأي الآخر.
11- تطبيق مفاهيم الكفر والردة على كل ندٍ ديني أو طائفي. أي قاموا بتوسعة موضوعات أحكام الكفر والرد لتشمل المعارض والند السياسي والطائفي لتشمله أحكامهما. أي حكم الكفر والردة.
12- تأصيل جملة مفاهيم كدار الكفر والإسلام وأحكام الأقليات، فكانت سببا لتمزيق المجتمع على أساس ديني، بدلا من ترسيخ القيم الإنسانية التي تعزز تماسك المجتمعات وفق قيم أخلاقية رفيعة.
13- التحريض ضد القيم الحضارية، بدعوى الأصالة والتقاطع مع الدين.
14- ظهور فقه (التولي والتبرّي)، خاص في الفقه الجعفري، ومفاده اعتبار موالاة أهل البيت والتبرؤ من أعدائهم من فروع الدين، وشرط في قبول الأعمال، رغم عدم وجود دليل قرآني صريح في المقام. وهذا يعني أن التولي والتبري شرط في الخلاص والنجاة الأخروي، وشرط في بعض الأحكام الشرعية، فهناك إقصاء صريح للمخالف، كحرمة أو كراهية تزويجه، ومخالطته، وإعطائه من الأموال الشرعية، بما فيها الصدقات.
15- الحط من قيمة الإنسان ككائن عاقل مفكر، حقق نجاحات مذهله على الصعيد العلمي والإنساني، بينما الفقيه مشغول باستنباط أحكام شرعية تلاحق سلوكه وتصرفاته، بما فيها أحكام "الخلوة"، وكيف يستحب له الدخول باليمنى قبل اليسرى. ويعلمه كيف يغسل وجهه في الوضوء، وغير ذلك مما يخجل الإنسان استعراضه، وهو كثير جدا.
16- يؤكد الفقهاء أن أصول الدين قضايا اجتهادية مردها للفرد، غير أنهم عملا يقصون كل مخالف لهم عقديا، ويرتبون على خياراته آثارا شرعية. وهذا مكمن الخطر. أي التناقض بين النظرية والتطبيق، بين القول والفعل.
17- ظهور أحكام الحيل الشرعية، فكانت سببا لاستباحة القيم الدينية، وتسويف أحكام الشريعة. ومثالها: بإمكانك شراء السائل الذي يحرم بيعه وشراؤه، من خلال شراء القنينة، فأنت تدفع الثمن مقابل القنينة الزجاجية، وليس مقابل السائل المحرم، وقد حرّم بعض الفقهاء الحيل الشرعية، واعبترها التفافا على أحكام الشريعة. وتتمثل خطورتها في الربا، حيث يمكنك الالتفاف عليه من خلال أحكام أخرى وهكذا، تم تسويف قيم الدين بواسطة الفقهاء. بينما الدوافع الأخلاقية تحول دون ذلك جزما.
18- خضوع المنهج الرجال لإملاءات أيديولوجية وطائفية، فكان سببا في رفض روايات المخالف والند الطائفي.
19- فوضى قبول الروايات، بين من يقبل جميع الروايات، مهما كانت ضعيفة أو مرسلة أو مخالفة لمنطق العلم. وبين من يتحفظ على المرسلات دون غيرها.
20- التسامح في أدلة السنن. أو قاعدة التسامح في أدلة السنن التي تعني: (عدم اعتبار ما ذُكر من شروط وضوابط للعمل بأخبار الآحاد الضعيفة المتعلقة بالروايات التي فيها دلالة على السنن، سواء كانت هذه السنن متعلقة بالفعل والأمر أو بالترك والمنع)، فسمحت بتصحيح عدد كبير جدا من الروايات الضعيفة، خاصة ما يخص العبادات المستحبة، فصار هم المسلم المتدين الإلتزام بها على حساب حياته ومستقبله. والتبست الحقيقة بالخرافة، واللامعقول بالمعقول.
21- مازال الفقه يتعامل مع المرأة بمنطق الدونية، والعورة التي يجب سترها، والإصرار على قصورها، وحاجتها المستمرة للقيم والولي والوصي.
22- فقه الدولة فقه استبدادي، يمنح الولي سلطات مطلقة، لا يحترم إرادة الشعب، رغم تأكيدهم على الشورى.
23- استباحة ثروات الدولة بدعوى مجهولة المالك، أي نفي الشخصية الاعتبارية للدولة، فتغدو أموال الشعب مباحة، يمكن سرقتها والتصرف بها بعد دفع خمسها للفقيه (تسجيل صوتي واضح لآية الله الشيخ باقر الإيرواني، فقيه شيعي).
24- فتاوى العنف والإرهاب التي على أساسها استبيحت دماء المسلمين.
25- ربط الفقه بنسق عقدي، عمّق التبعية الفقهية، كما لدى الفقه الشيعي الذي ربط شرعية الدولة وثروات البلد بالإمام الغائب وفقا لعقيدتهم، فحل الفقيه محله في ولايته ووصاياه.
26- عدم مراعاة مقاصد التشريع، وعجز الفقيه عن فقه النص. فتمسكت الفتوى بحرفية النص، كتطبيق الحدود الشرعية.
27 – تداخل الأعراف بالأحكام ولو على صعيد النُدب والكراهية.
28- عدم القدرة على مواكبة الحاضر، واعتبار كل جديد بدعة محرّمة، والأمثلة كثيرة.
29- عدم مراعاة القيم الأخلاقية في التشريع، وتقديم النص عليها في حالات التعارض، رغم أن القيم الأصيلة من مدركات العقل العملي.
30- إن مبدأ شمول الشريعة لجميع مناحي الحياة، و"ما من واقعة إلا ولله فيها حكم"، أحرجت الفقهاء أمام المسائل المستحدثة، وراح يتخبط كل فقيه وفق مسطرته وقيمه الفقهية، بينما المرجع لفهم هذه المسائل هي الأخلاق والقيم الإنسانية، وليس الأحكام الشرعية، فهناك حاجة إلى الانتقال من المقاربة الفقهية إلى المقاربة الأخلاقية للقضايا المستجدة، كـ"الاستنساخ، حمل الأنابيب، نقل الأعضاء البشرية، الهندسة الوراثية"، وغير ذلك كثير. فتجد فقهاء يحرّمون نقل الأعضاء البشرية بحجة أن الجسد هبة الله وملك لله، ولا يجوز للفرد التصرف به، فهو تصرف بمال الغير، يحرم شرعا. الفقيه لا ينظر مدى الفوائد المترتبة على عملية نقل الأفراد، ولا ينظر لإحياء النفس البشرية: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًا). ومادام مقيدا بالنصوص لا يمكنه فقه النص في سياقه الإنساني والأخلاقي، ويركز على المباني الفقهية التي ترسخت في لا وعيه، بعد أمد طويل من الدرس والتدريس، دون مراجعة ولا نقد يتحرى حقيقتها ومدى صدقيتها. المرجعية الصحيحة لمقاربة المسائل المستحدثه هي المرجعية الأخلاقية، فتنظر للمسألة المستحدثة كنقل الأعضاء البشرية من ناحية أخلاقية، فتجدها عملية إنسانية رفيعة، شخص يضحّي ويتبرع بأحد أعضائه من أجل انقاذ حياة إنسان، كم هي كبيرة وعظيمة عند الله وفي المقاييس الأخلاقية: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًا). إن التطور الذي سمح بزرع الأعضاء البشرية أحدث قفزة كبيرة، وأعاد الأمل والحياة لطيف واسع جدا من الناس، أنا أحدهم، عانيت من العجز الكلوي سنوات، ومكثت تحت جهاز الغسل الكلوي خمسة سنوات، بمعدل خمس ساعات، ثلاثة أيام أسبوعيا. خمسة سنوات من الألم والمعاناة الشديدة، بانتظار الموت. حتى جاء دوري، وأجريت لي عملية زرع كلية أعادت لي الحياة والأمل بحمد لله ومنته ورحمته. فهل هذا عمل حرام أيها الفقيه؟. متى تكف عن ملاحقتنا، بفتاواك التي لا دليل عليها سوى رغبتك بالهيمنة والاستفزاز؟. كُف عنّا كي نعيش بنعمة العقل والأخلاق، ونلتحق بركب الحضارة الإنسانية، بعيدا عن منطق الكراهية والعنف.
يأتي في الحلقة القادمة
.................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه