حوار مفتوح

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (257): الأخلاق وتحديات المتشرّعة

خاص بالمثقف: الحلقة السابعة والخمسون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:

الأخلاق وتحديات المتشرّعة

ماجد الغرباوي: لقد سلب القرآن شرعية ما عداه من مصادر تشريعية، كان بعضها توافقات متعارفة في تسوية النزاعات، لدى قريش والعرب. إضافة إلى  شرائع أهل الكتاب. الأولى فوضوية، تعسفية، منحازة للأقوياء والملأ على حساب الضعفاء والمعدمين والمعذبين. هذا ما تشي به الآية عندما وصفت أحكامهم بـ"حكم الجاهلية": (أَفَحُكْمَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍۢ يُوقِنُونَ). الجاهلية مفهوم يضمر الحماقة والارتجال في اتخاذ القرارات بما فيها الأحكام القضائية وتسوية النزاعات. وهذا لا ينفي وجود أحكام عادلة آنذاك، لكن الظلم هو الصفة الغالبة. والثانية، شرائع أهل الكتاب، فباطلة مادامت محرّفة، كما بيّنت ذلك صريحا آيات الكتاب. ثم حصر القرآن التشريع بالله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ). لتكون الشريعة الإسلامية مصدرا وحيدا للتشريع، يجب الالتزام بها وتطبيق أحكامها، كخيار وحيد أمام المؤمنين. لا أقل بالنسبة للأحكام المصرّح بها قرآنياً. حق مطلق يقابله باطل مطلق: (وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّۢ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَىٰكُمْ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). وبالفعل تصدى القرآن للتشريع والإجابة على أسئلة الصحابة، وبدأت تظهر معالم مجتمع متشرّع. يلتزم أحكام الكتاب في حياته الفردية والاجتماعية. شغوفا في طرح الأسئلة، يبغي ارتهان جميع تفاصيل حياته للشريعة، ولو على حساب حريته. فكأنه أراد استبدال سلطة الشيخ وقوانينه بالشريعة وأحكامها، ليكشف بذلك عن روح هشة، تعاني رهاب الحرية، وحاجتها الوجودية للولاية والوصايا. لذا كان القرآن يتدارك غربة المشاعر فيؤكد بين الحين والآخر على ولاية الله ورسوله: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ). كان مجتمع المدينة لحوحا في طرح الأسئلة حتى حذّرتهم الآية: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ). وهي ظاهرة تستحق التأمل، للكشف عن أسبابها ودوافعها الدفينة. كان تحذير الآية واضحاً. فثمة آثار ستترتب عليها، (إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ). فلا تكن أسئلتكم وبالاً عليكم. الأحكام من أية جهة متنفذة صدرت، سلطة تفرض محدداتها، وسجن يختزل الحريات. فلماذا أكثر الصحابة السؤال؟ ولماذا استمرت هذه الصفة مع "المتشرّعة" في كل عصر وزمان؟. وأساسا لماذا كان الصحابي يفضّل التلقي على التفكير؟

النص القرآني مرآة، يعكس ثقافة المجتمع، ومعالم بيئته، لا مجرد نسيج لغوي له دلالاته وسلطته. نص تتردد في أرجائه أصداء الوعي الجمعي، وما يعانيه المجتمع من أزمات نفسية وأخلاقية واقتصادية. وعندما يحذّر القرآن من كثرة السؤال، يكشف من خلال تحذيره تلك الخصائص التي تدفعه لكثرة السؤال. إن دافع السؤال غالبا ما يكون فضولا أو جهلا، عندما تترتب عليه فائدة. كأن يكون السائل ضالاً فيهتدي من خلال السؤال. أو يزداد علما ومعرفة. وهذا لا يشمل الصحابة، بل تعبّر أسئلتهم عن قلق مصيري مستحكم، متوارث، يطفو على شكل سؤال، لتفادي خطابات الترهيب، وضمان النجاة والخلاص الذي هو أمنية المؤمنين. ولا طريق سوى الطاعة والانقياد والالتزام بالأوامر والنواهي، فهو يسأل لضمان النجاة من خلال الالتزام بالتكاليف المعلومة والتي يحتملها، أو يبالغ في السؤال عن مصاديقها. لقد كانت الآية إذاً ناظرة إلى تداعيات السؤال وما يترتب على الأحكام الجديدة من آثار مستقبلية على الفرد وجماعة المسلمين، مادام الحكم قيدا، يفقد معه الفرد جزءا من حريته. وبهذا الشكل راح يتوسّع مفهوم الشريعة، ليشمل مطلق السُنة النبوية، ثم سيرة الصحابة، وامتد التشريع لدى الشيعة حتى نهاية الغيبة الصغرى للإمام المهدي، بفعل أسئلة المتشرّعة، وما يفرضه الواقع الجديد الذي ارتهن هو الآخر للشريعة رغم عدم وجود أحكام شرعية بخصوصه. ثم اتسع مفهوم الشريعة ليشمل آراء الفقهاء، وهي وجهات نظر اجتهادية، وصار الناس يرادفون أو هكذا في لا وعيهم، بين الشريعة والحكم الفقهي، حتى اكتسبت قدسيته، وسلطته ورمزيته. وصار الالتزام بفتوى الفقيه ألتزاما بحكم شرعي، لا فرق في ذلك بنظر المكلف، لذا يلتزم بالفتوى، ويخشى مخالفتها فضلا عن رفضها. وبهذا الشكل نجح الخطاب الديني في استبعاد العقل، بعد أن أفتى الفقهاء، بناء على مقولات كلامية، بحرمة الاجتهاد مقابل النص. أو لا أقل تحييد العقل تجاه النص الديني وخصوص الحكم الشرعي، ليقتصر دور المكلف على التقليد والتلقي بقناعة تامة، تنعكس على التزامه وطريقة تعامله مع فتاوى الفقهاء. لا فرق لديه بين النص والاجتهاد، رغم الفارق الجوهري بينهما.

الفقه فهم للشريعة وأحكامها، وليس امتدادا لها، فكان ينبغي للناس معرفة هذه الحقيقة وما يترتب عليها من آثار. وما كان للفقه أن يتفاقم لولا كسل العقل العربي، وخموله، وعدم فاعليته. فهو في أحسن الأحوال عقل أداتي وأداة أيديولوجية، يحقق أهدافها، ويدافع عنها. أما العقل النقدي الفاعل فهو نادر، ظهر مع المعتزلة، فكانت له السلطة والاتجاه السلفي بالمرصاد. وبهذا الشكل فقد الفرد هامش الحرية الذي كان متاحا بسبب محدودية أحكام الكتاب، وبات لا يعي ذاته إلى ضمن إطار فقهي. وهذا أكبر تحدٍ يواجه الاتجاه الأخلاقي. كيف تقنع المتشرّعة ببشرية الأحكام الفقهية؟. وكيف تقنعهم بدور العقل والأخلاق في التشريع؟ الأحكام في وعي المتشرعة، معطى نهائي، يجب الالتزام بها تعبدا، لا يمكن إدراك مقاصدها، ولا يمكن معرفة طريقة تشريعها، فهي تصدر عن عالم ميتافيزيقي مجهول لنا. يقتصر واجبنا تجاهها على الطاعة والتسليم المطلق. فالاتجاه الأخلاقي يحتاج الى ثقيف يستعيد من خلاله الفرد والمجتمع مركزيته، ويتعرّف على هويته الوجودية، فالمطلوب نقد جميع المفاهيم، والكشف عن مصداقيتها، ومدى صدقيتها. فقد تبلوت على مدى 1450 سنة مفاهيم، باتت بداهات عند المذاهب الإسلامية، وهي ليست كذلك بل تمت صياغتها وفق مقولات علم الكلام القديم، الذي كان هدفه الدفاع عن المذاهب وعقائدهم ومتبنياتهم، لا نقد عقيدته ومذهبه. وهذا اللون من المفاهيم بحاجة مستمرة للنقد والمراجعة. فالتثقيف النقدي يمهد لقبول الاتجاه الأخلاقي في التشريع.

سيرة المتشرّعة

سيرة المتشرعة أحد طرق إثبات الدليل الشرعي لدى الأصوليين، إضافة إلى التواتر، الإجماع، الشهرة، وخبر الواحد الثقة. فهي اصطلاح أصولي، يقصد بها: (السلوك العام للمتدينين في عصر المعصومين)، وهي في الغالب تؤدي إلى الجزم بالحكم الشرعي. فإذا التزم عدد من المتدينين بسلوك ما بمرآى ومسمع من المعصوم وعدم اعتراضه، فهذا يكشف (أن السلوك العام مستند إلى بيان شرعي يدل على الفعل). إذاً فحجية سيرة المتشرعة تشترط، أن تكون سيرة للمتدينين في زمن المعصوم، وضمان سكوته عنها. هذا هو المفاد الأصولي لمفهوم سيرة المتشرعة. وكل سيرة لا تُعد حجة ما لم يتوفر فيها الشرطان المتقدمان. (ينظر كتب أصول الفقه، كحلقات الأصول لمحمد باقر الصدر). ويمكن التحفظ على هذا البيان، باقتصار التشريع على الله. ولو سلمنا بشمول السنة النبوية، فتقف عندها، ولا تسري لغيرها كما هو في الفقه الإمامي. وثانيا ليس سكوت المعصوم دليلا على الإمضاء دائما. فربما سكوته دليل على عدم علاقة ذلك السلوك بالشريعة. فهو مجرد عمل مباح كغيره من الأفعال. فهل واجب المعصوم التدخّل في كل شؤون الناس؟ وهل سجلت لنا سيرة النبي ذلك؟ أم اقتصرت وظيفته على تبليغ وبيان الأحكام الشرعية؟.

لا أقصد بمفهوم "المتشرّعة" هنا، خصوص المصطلح الأصولي، بل أقصد سيرة خصوص المتدينين في جميع الأوقات والعصور، لا فرق بين رجل دين وغيره. ذلك الوسط الديني الملتزم بأحكام الشريعة والفقهية. دأبه الاحتياط في موارد الإباحة لتفادي أي احتمال في التكليف. فهو وسط اجتماعي، يتبنى اتجاه "حق الطاعة"، لا "قبح العقاب بلا بيان" في حالات الشك بالتكليف. وقد تقدم بيان الفرق بين الاتجاهين. الأول يحكم بالاحتياط العقلي في حالة الشك بأي تكليف محتمل. فيأتي به أو ينتهي عنه من باب الاحتياط العقلي الذي يرى للمولى حق الطاعة في جميع التكاليف المعلومة والمحتملة على السواء. وطالما أشرت على الجذر العبودي لهذه النظرية فهي تنحدر عن قيم استبدادية مازالت تتناسل في أعماق الناس بفعل روح العبودية والانقياد. بينما يحكم الاتجاه الثاني بالبراءة العقلية. هؤلاء المتشرّعة إضافة إلى متطلبات الواقع، كانا وراء تضخم الفقه، ولا أنسى دور المقولات الكلامية، والمشاعر النفسية، والفهم العبودي للدين. فالمتشرّعة تحدٍ  للاتجاه الأخلاقي. يتوقف قبوله على تحرير الذات من الخوف والتبعية والانقياد، والارتقاء لمستوى المسؤولية. والكف عن رهاب الحرية والتشكيك بالعقل والعلم، وما توصلت إليه الحضارة الحديثة، سيما على مستوى حقوق الإنسان، الذي راح يفضح حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، التي ينظّر لها الفقهاء، باعتبارها حقوقا دينية مثالية، وفقا لمنهجهم في فقه النص. والكف عن الاحتياط، مادام الأحكام واضحة، بينة، محدودة.

في ضوء ما تقدم اتضحت معالم الاتجاه الأخلاقي في عملية تشريع الأحكام. وعليه ينبغي لنا تحري الاختلاف الجوهري بين الاتجاهين.

الاشتراك والافتراق بين الاتجاهين

في ضوء ما تقدم ينبغي تحري مساحات الاشتراك والافتراق بين الاتجاهين، الفقهي والأخلاقي على المستوى التكويني لكلايهما. إذ سبق الكلام أن العلاقة بينهما منطقيا هي العموم والخصوص من وجه. فثمة ما به الاشتراك وهناك ما به الافتراق. آيات الأحكام المنصوص عليها قرآنيا تقع ضمن مساحات الاشتراك اجمالا. أو على نحو الموجبة الجزئية. وأيضا يجب تحديد القيمة المعرفية لمرجعيات الاتجاه الفقهي التقليدي، بعد بيان القيمة المعرفية لمرجعيات الاتجاه الأخلاقي، والتي هي: العقل والأخلاق، تتفرع عنهما جميع أصول ومبادئ التشريع. والمقصود بالأخلاق هنا الأصيلة التي هي أخلاق مشتركة، من مدركات العقل العملي. فيصدق أن الاتجاه الأخلاقي في التشريع اتجاه عقلي - عقلاني، سواء في فهم الدين أو مقاصد التشريع مرورا بمعنى القداسة وفهم النص ودور الواقع في تشريع الأحكام وحاكمية الأخلاق. فدور العقل محوري في عملية تشريع الأحكام. وهذا لا ينفي دور العقل لدى الاتجاه الفقهي غير أنه عقل أداتي، محدود، لا يتقدم على النص إلا في المستقلات العقلية لدى بعض الاتجاهات الفقهية. والحجة الذاتية للقطع. والأصل الأولي في حالات الشك في التكليف.

ويراد بالعقل: معيارا للتمييز بين الصواب والخطأ. والخير والشر. والحسن والقبح. وعلى صعيد الأخلاق فإنها تلعب دورا في تحديد فعلية الحكم ومستوى إلزامه. فما كان محرمّاً في وقت ما قد يكون مباحا في زمن آخر، وبالعكس.

مؤاخذات منهجية

ثمة مؤاخذات على الاتجاه الأخلاقي مقارنة بالاتجاه الفقهي التعبدي، منها:

الأولى: ليست العبرة في إصدار الأحكام، فهي متاحة لكل عاقل، و"ملكة الحكم هي إحدى قوى العقل"، بل العبرة في إصابتها، ومدى تشخصيصها للواقع ومتطلباته.

والجواب: إن الاتجاه الأخلاقي في التشريع غير معني باستنباط أحكام شرعية جديدة مقارنة بالاتجاه الفقهي الذي يفتي بكل صغيرة وكبيرة، بدعوى شمول الشريعة لجميع مناحي الحياة. ويقتصر دوره على منطقة الفراغ التشريعي، الذي تمتد عنده من ختم الرسالة وكمال الشريعة. أي كل ما عدا الأحكام المنصوص عليها قرآنيا ومازالت فعلية. فهو يقدم منهجا قائما على العقل والأخلاق لملء الفراغ التشريعي في موازة منهج الفقه التقليدي، الذي يعتمد النص مصدرا لملء الفراغ. ويعتقد أن تشريعات الرسول خارج التشريعات المنصوصه، تشريعات وفق مقتضيات الحكمة، في ضوء الواقع وضروراته، تقوم على العقل ومبادئ أخلاقية تحدد مسوى إلزاماتها، لا إطلاق لها مع وجود مضمرات الخطاب، التي هي مضمرات نسبية، ترتهن لثقافة المجتمع وضرورات الواقع. فعندما يحكم الرسول بنجاسة الكلب مثلا، فليس حكمه حكما شرعيا نازلا من السماء، بل حكم عقلائي اقتضته ضرورات واقع الكلب، وطريقة عيشه، وعدم نظافته. لذا بعض الآراء خصت النجاسة بالكلب الأسود، المعروف بشراسته وعدوانيته. فيبقى الحكم نسبيا، فمتى حظي الحيوان برعاية صحية كما في الغرب، ترتفع النجاسة والتي تعني القذارة، وليست سرا ميتافيزيقيا. وعندما يأمر بتطهير النجاسة، فهو ناظر لتداعياتها قذارتها، فهناك ملاكات تدعوه للأمر بتطهيرها وبالماء خاصة، وهذه حدود معرفتهم آنذاك، ولو اكتشف العلم أن الماء لا يكفي لزوال النجاسة وإن زالة عينا لكن تبقى آثار غير منظورة، فهنا سيكون قول الفصل للعلم، كأن يفرض استخدام محاليل لتطهيرها. وبالتالي فإن الحكم سيتغير تبعا لتغير موضوعه، كان موضوعه سابقا الكلاب السائبة، المعرضة للتلوث بسبب سيلان لعابها، وفي الحالة الثانية الكلاب التي تحظى برعاية صحية، ولقاحات دورية تدرأ عنها العدوى والأمراض السارية.

لقد أثبتنا بالدليل عدم اختصاص الفقيه بمنطقة الفراغ. وعدم وجود ما يسمى عندهم بالإباحة. بل الأصل عدم جعل التشريع في منطقة الفراغ، من هذا المنطلق يتصدى المنهج الأخلاقي لملء الفراغ التشريعي. وقد بينت في حينها منهج هذا الاتجاه، وعدم احتكار التشريع على خبير تشريعي واحد، بل خبرة أهل الاختصاص، فقد يحتاج الحكم إلى علم النص والتربية وعلم الاجتماع والسياسة والقانون. فالذي يتصدى لسن الأنظمة والقوانين هيئة قانونية وخبراء في التقنين. ولا ريب في إصابة الحكم في هذه الحالة. ثم التراجع عن الحكم ممكنا لتصويبه وفق معطيات جديدة، فهي ليست أحكاما إلهية رغم تشابه مراحل التشريع والجذر الأخلاقي ودور العقل والحكمة فيه.

الثانية: فقدان الحكم وفقا للاتجاه الأخلاقي لرمزيته وسلطته، فإن قوة النص الديني برمزيته وسلطته ومصدره، مما يدفع الفرد للإلتزام به. بينما لا يفقد النص / الفتوى / الحكم المستنبط رمزيته وسلطته لدى متلقي الاتجاه الفقهي التقليدي. لأن معنى الاستبناط، استنباط الحكم الشرعي من مصدره، وهي القرآن والسنة والعقل والاجماع. فالفقيه لا يخرج على النص الديني، بل يعمل على فقهه.

وفي معرض الجواب، يأتي جواب المؤاخذة الأولى هنا. الاتجاه الأخلاقي ينكر وجود أي تكليف شرعي خارج أحكام الشريعة المنصوص عليها قرآنيا. ويشكك بشرعية الاستنباط أساسا، إلا في حدود تطبيق كليات الأحكام على مصاديقها، أو من باب وحدة المناطق، فإذا كان علة تحريم الخمر هي الإسكار فبامكان الفقيه أن يفتي بحرمة جميع أنواع الخمر المسكر. ويرفض سراية قداسة النص القرآني لفتاوى الفقهاء، التي هي وجهات نظر اجتهادية، قائمة على مقولات كلامية وأصول فقهية، جميعها اجتهادات بشرية. الأولى كحجية مطلق السُنة النبوية، فثمة فرق كبير بين اقتصار حجية السنة على ما له جذر قرآني كما يذهب الاتجاه الأخلاقي في التشريع، وبين مطلق حجية السُنة، فتغدو جميع أفعال النبي الكريم أحكاما شرعية، رغم أن بعضها قيم أخلاقية أو رغبات شخصية أو أحكام ولائية مرتهنة في شرعيتها لوجود الولي أو النبي، وغير ذلك. وأيضا: عدالة الصحابة مطلقا. أو عصمة الأئمة وما يترتب عليهما من نتائج وأحكام. وأما الالتزام بالأنظمة والقوانين فالاتجاه الأخلاقي يراهن على الضمير البشري، والضمير الديني، وسطلة القوانين. الاتجاه الأخلاقي يتمتع برؤية كونية، يكون فيها دور الدين إرشاديا لا تكوينيا. ويراهن على الأخلاق في التشريع والالتزام بالأحكام والأنظمة والقوانين.

يأتي في الحلقة القادمة

.................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

[email protected]

في المثقف اليوم