حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (261): الأخلاق ورهاب الغواية

خاص بالمثقف: الحلقة الواحدة والستون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:
الأخلاق ورهاب الغواية
تقتصر مرجعيات الاتجاه الأخلاقي في تشريع الأحكام على العقل والأخلاق، كما بيّنت سابقاً. أو العقل منفرداً، مادامت الأخلاق من مدركات العقل العملي. والحكمة تجلٍ له. أو تأمل عقلي في أفق الواقع وضروراته وموازنته مع قيم الفضيلة. فمرجعية الاتجاه الأخلاقي مرجعية عقلية، تقتصر مكوناته على العقل كأداة للمعرفة، ومبادئه وأحكامه. وقد تأكد الأمر بعد تحليل خطوات التشريع واكتشاف الجذر الأخلاقي للأحكام. وعلى هذا الأساس تم نفي أي بعد ميتافيزيقي فيها، باستثناء سلطة النص ومطابقة ملاكاته للواقع، وهو من خصائص أحكام الشريعة المنصوص عليها قرآنيا. ورغم أهمية هذه النقطة لكن الحكم ناظر للواقع، تتأثر فعليته بالتغيرات المكانية والزمانية، بل بكل ما له علاقة بفهم الحكم كقبليات المتلقي. وفعلية الحكم عندنا مرتهنة لملاكاته لا لقدسيته. والكلام عن منطقة الفراغ: "كلُ واقعة لم يرد فيها حكم شرعي منصوص عليها بخصوصها، وعدم وجود علة مشتركة هي أساس الحكم". وهي جميع وقائع الحياة ما عدا الأحكام المنصوص عليها قرآنياً. وقد خص الاتجاه الفقهي الفقيه بملء منطقة الفراغ التشريعي، ونفى الاتجاه الأخلاقي اختصاصه، وقد مرَّ الكلام وأدلته مفصلاً. وبعد بيان مرجعيات الاتجاه الأخلاقي أو العقلي في التشريع، ننتقل للتعرّف على مكوّنات مرجعيات الاتجاه الفقهي في التشريع، وما هي مساحات الاشتراك والافتراق؟.
التكوين المرجعي
ليس التكوين المرجعي للمشرّع / الفقيه معطى جاهزاً أو نهائياً، بل صيرورة تاريخية، وتراكم يعكس البنية الثقافية للمجتمع، ومهيمنها، الذي هو نسق مضمر، يمارس دور الهيمنة والإقصاء. هيمنة كل ما يضمن تماسك بنيته، وإقصاء ما يُربك الوعي الجمعي. فعندما يسوّق القيم الذكورية، مثلاً، تؤثر لا شعورياً في كل قرار له علاقة بالمرأة. لا فرق بين فقيه وغيره. مادامت قيماً متوارثة، ضاربة في أعماق الوعي، كحقائق نهائية. فتتأثر عملية استنباط أحكام المرأة بها. ولو بشكل خفي عندما يرجّح المجتهد روايات دونية المرأة على غيرها.
لا ندية بين الرجل والمرأة، هذا هو السائد آنذاك، قبل وبعد ظهور الإسلام. كائن واحد، تتبعه المرأة، جزءاً من متاعه، تلبي حاجاته، وتستجيب لشهواته، ويتصرف بها كما يود ويهوى. أعراف أبوية صارمة، كانت سائدة قُبيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي جاء بعد كفاح مرير مع وصايا المجتمع. حينئذٍ اكتشفت المرأة ذاتها، وأدركت قيمتها الإنسانية، وعرفت أن لها حقوقاً مسلوبة يجب انتزاعها. فالمنطق الذكوري السائد، يُسقط وصاياه على التشريع. الفقيه لا يشعر باضطهاد المرأة، مادامت وصايا الرجل عرفا سائداً، وتوافقاً اجتماعياً أصيلاً، سارت جميع الشعوب على منواله. فالمرجعية الثقافية للفقيه / المشرّع تشكّلت مفرداتها وتصوراتها داخل بيئته الثقافية. بهذا تتوقف معرفة المرجعيات الثقافية على دراسة البيئة الاجتماعية والثقافية المكوّنة لها. ثم بعد ذلك ندرس مصادر ومناهج التشريع، كي تكتمل الصورة، ومن ثم نحدد مدى فاعليتها وجدواها، في سياق المشروع التنويري الذي نراهن عليه في نهضتنا الحضارية.
مصادر الشريع
مصادر التشريع كما قررها الفقهاء، هي: (القرآن والسُنة والعقل والاجماع والقياس والاستحسان)، على اختلاف مذاهبهم في قبولها أو رفض بعضها. غير أن الخبير في الدراسات الفقهية العالية، يعلم أن مصادر التشريع لا تقف عند حدود المصادر الأربعة الأولى، بل تتعداها إلى أقوال الصحابة والأئمة، وأئمة الفقه والعلماء، خاصة بعد إضفاء العصمة بمفهوميها السُني والشيعي. وأحيانا تختلط الأعراف والتقاليد بالأحكام الشرعية، فيغدو ما هو عرفي حكماً فقهياً كما في بعض أحكام المرأة. وبالتالي ينبغي الفرز بين الإلهي والبشري في تكوين المرجعية الفقهية، لنرى مدى صدقية هذا الاتجاه في تمثيله لشرعية السماء؟. أو بشكل أدق ينبغي تحري قدسية الاتجاه الفقهي من خلال رؤية نقدية لمرجعياته، سواء مصادر تشريعه أو قبلياته.
إن قبليات الفقيه، كعقيدته ومرتكزاته الأيديولوجية، وما يؤمن به من أعراف وتقاليد وتوجهات سياسية وطائفية، تؤثر في عملية استنباط الحكم الشرعي. بما فيها ميوله ورغباته ووضعه النفسي والاجتماعي، إضافة لأُفقه ووعيه وقدرته على تشخيص الواقع، ومدى انفتاحه على العالم ومتابعته لمعطيات العلوم الإنسانية. شعر بها المجتهد أو لم يشعر، فمن يؤمن بمطلق عصمة الأنبياء يختلف في فهمه للنص عمن يؤمن بالعصمة الجزئية. أو العصمة في التبليغ. ومن يعتقد بقصور المرأة عقلياً، يرجّح لا شعورياً روايات دونية المرأة، لتبرير رؤيته الذكورية، والسماح للذكر / الرجل بتأديبها والحد من حريتها وقمع تطلعاتها. وأيضا ذات التأثير عندما يعيش الفقيه رهاب غواية المرأة، ذاك المخلوق الجنسي الذي أخرج أباه من الجنة، رغم عدم وجود مرجحات قرآنية، غير أن الفقيه وسّع من دائرة مصادر تشريعه، وفق مقتضيات أيديولوجية، ورغبة الهيمنة الفقهية. ومن يتابع أحكام المرأة لا يجد مبرراً لها سوى رهاب الغواية، فمثلاً يُكره للرجل الجلوس في مجلس المرأة بعد قيامها مباشرة، تحاشياً لأية إثارة جنسية!!!. الفقيه وجد في الحجاب مبرراً لنفي المرأة، تكريساً لنرجسيته، فانقلب مفهوم العفّة إلى قطعة قماش تخفف من وطأة رهاب الغواية. لست ضد حجاب المرأة، وهو أمر شخصي يخصها، لولا الأعراف والتقاليد التي تفرضه عليها، لا بدافع العفّة، بل لأنها عورة، لا تجلب سوى العار، والفضيحة، إنه شعور مغمور وإنْ لم يصرّح به. مكارم الأخلاق تطالب المرأة بالعفّة والالتزام بالقيم الأخلاقية لا بشكليات الحجاب، من أجل مجتمع سوي، تشارك فيه المرأة والرجل معاً. حدود العلاقة بينهما احترام الآخر وخصوصيته، وعدم التدخل في شؤونه مع مراعاة العفة وغض البصر. ينبغي أن تتوارى مفاهيم العورة والدونية لتحل محلها مفاهيم العفة والاعتراف بإنسانيتها واستقلاليتها ومكانتها. العورة مفهوم يرمز لأبعد من غواية الجسد، وأبعد من دونية المرأة. مفهوم مسموم يثقّف على شيطنة الأنثى، وتحميلها أوزار خطيئاته. منطق يخفي في طياته هوس الجنس الذي كرّسته قيم البداوة وخطابات الترغيب. فلا يجد سوى العنف الرمزي يستر به هشاشته، وضعف مناعته الأخلاقية مع كل إثارة فضلاً عن غواية الجسد،. إن أهم قضية تواجه المرأة تحرير العقل الجمعي من ذكوريته وسلطويته واستخفافه، ليرقى إلى مستوى إنسانيته في تعامله معها. (أنظر للتفصيل كتابي: الهوية والفعل الحضاري).
الاستنباط والقيم الموروثة
إن عملية استنباط الحكم الشرعي ليست مجرد مَلَكَة، تتأتى بالدرس والتدريس والبحث والتنقيب. الاستنباط ممارسة علمية منحازة لقبليات المجتهد وعقيدته ورؤيته الكونية وثقافته وحالته السكيولوجية. ودونية المرأة نظرة متأصلة في ثقافة الشعوب آنذاك، ورهاب الغواية شعور ديني وثقافي موروث. ولا يمكن الأخذ بأية فتوى فقهية ما لم تُدرس دراسة موضوعية، وتحري أدلتها، ودوافعها، وشروطها التاريخية.
ما كان لرهاب الغواية أن يتفاقم لولا فتاوى الفقهاء، وأحكام الاحتياط المبالغ فيها، وخطابات الترهيب، خاصة الروايات الدينية التي تصور حال المرأة يوم الحساب. أقصد، أن علاقة الرجل بالمرأة علاقة طبيعية، وكانت المرأة حاضرة في زمن الرسول، بل وهناك باب في الكتب الفقهية والروائية، كما في البخاري، حول جواز وضوء المرأة أمام الرجل. غير أن الأحكام الفقهية خلقت ثقافة سوداوية كرّست رهاب الغواية، وخلقت حساسية مفرطة عندما صورت المرأة كائناً جنسياً، شيطانياً يتربص بالمؤمن لغوايته، فكانت الفتاوى سلاحا لحماية الذكر من الأنثى. وهذا أحد مصاديق ذكورية الفقه. إن حاكمية الأخلاق تحول دون صدور كل فتوى تتعارض مع القيم الأخلاقية، فاضطهاد المرأة باسم الفقه والعفاف وحماية الذكر، مرفوض أخلاقيا. لا يمكن صدورها عن الشارع المقدس. وقد مرّ الكلام عن التعارض بين الفتاوى والأخلاق.
نعود لمرجعيات الاتجاه الفقهي لتحري مدى صدقيتها من وجهة نظر قرآنية وأخلاقية.
أولاً: القرآن الكريم
القرآن، المصدر الأول للتشريع، الكتاب والمرجع التشريعي المقدّس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه: (لَّا يَأْتِيهِ ٱلْبَٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). تتراوح آيات الأحكام فيه بين 500 – 550 آية، ثم أكد الكتاب كمال الدين: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، التي جاءت في سياق مجموعة آيات تشريع، سبقتها وتلتها، فلا مجال لتأويلها. والسياق حجة، يسلط الضوء على معنى الآية، فيكون قرينة دالة. والدين شامل للعقيدة والشريعة، فلا شرعية لأي تشريع خارجه. سيما والقرآن لم يفوّض تشريع الأحكام لأحد، ولم يجعل ولاية تشريعه بآية واضحة صريحة بيّنة لا لَبسَ فيه ولا شبهة لأي شخص. لذا وفقاً لرؤيتنا الفقهية التي تم الاستدلال عليها مسبقاً أن الشريعة هي خصوص آيات الأحكام التي نصًّ عليها الكتاب الكريم. وهذا نقطة مهمة بالنسبة لنا لا أقل. وعلى أساسها سنكتشف حقيقة قدسية ما عداها من أحكام شرعية. وأعتقد أن عدم وجود تفويض صريح بالتشريع للنبي الكريم دليل قرآني لا يمكن معارضته إلا بدليل قرآني، وهو منتفٍ بالضرورة. وبالتالي أي تأويل لا يصلح معارضاً للكتاب، مادام دليلا ظنياً في كاشفيته. فيبقى الأصل عدم شمول الشريعة لغير آيات الأحكام. وما ذُكر من أدلة حول ولاية النبي الكريم على التشريع، أدلة اجتهادية تأويلية، يمكن نقضها باختصاص الولاية التشريعية بالله تعالى، إلا ما ثبت بدليل قرآني صريح، ينص على جعل الوصايا التشريعية لغيره، وهذا منتفٍ بالضرورة.
إن آيات الأحكام كانت أجوبة على أسئلة فرضها الواقع، "ويسألونك.. ويستفتونك" ، صُرِّحَ أو لم يُصرّح بها. وقد شُرعت في ضوء واقع تاريخي. والحكم كان ناظراً لذلك الواقع وكان بصدد معالجته، فتتأثر فعليته به. بعضها أحكام عبادات وأخرى أحكام معاملات وعلاقات اجتماعية وضوابط أخلاقية. أو بشكل أدق بعض الأحكام بصدد تنظيم علاقة الفرد بخالقه، وبعضها الآخر كان لتنظيم علاقات الفرد بالمجتمع. ولما كانت كذلك كانت الأخلاق هي الأساس في التشريع. إذ ارتكز التشريع في الجانب الحقوقي إلى العدل: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعًۢا بَصِيرًا). فالعدل مدار الحكم، ولا خصوصية للواقع سوى تاريخيته. والإلزام بالحكم إلزام أخلاقي (العدل)، الذي هو قيمة أساسية، لا تقتصر على الجانب الحقوقي، بل تشمل كل شيء: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ وَإِيتَآئِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). وهنا يظهر الفارق في فهم الحكم الشرعي بين مرجعيتين، بين الاتجاه الفقهي التعبدي والاتجاه الأخلاقي. على الرأي الأول، النص بذاته بغض النظر عن ظروفه وأسباب نزوله يُعد حجة ومرجعاً للحكم مطلقاً. بينما "العدل" مدار الحكم على الرأي الثاني. فنفهم أن العدل وهو قيمة أخلاقية أصيلة مأخوذ في ملاكات الحكم حين تشريعه، فيبقى معياراً لفعليته. بشكل أدق ستنتفي فعلية الحكم حينما يختل العدل في ظرف تاريخي مغاير. لذا تقدم أن معطيات الواقع تؤثر في فهم الحكم. ومدار تأثيرها ينبغي أن يكون على أساس (العدل وعدم الظلم. السعة والرحمة والمساواة). فالشريعة خالدة بقيمها الأخلاقية لا بصيغها القانونية.
بهذا نفهم، وهو مهم جداً: لا شرعية (نسبة للشريعة) لأي حكم فقهي باستثناء ما ورد فيه نص قرآني، أو سُنة نبوية لها جذر قرآني. وماعداه تبقى آراء بشرية اجتهادية، قد تصيب وقد تُخطئ. فآيات الأحكام في الكتاب هي الفاصل بين الإلهي والبشري. بهذا نفهم مدى صدقية نسبة الأحكام الفقهية للشريعة. مهما كانت قريبة من روح الدين والقرآن إلا أنها تبقى اجتهادا بشريا، محكوما بظرفه.
ثانياً: السُنة النبوية
لا خلاف حول حجية السُنة، لكن ما هي حدودها؟ هل مطلق السُنة أم خصوص الروايات الشارحة والمبيّنة لآيات الأحكام؟. وهل الرسول مشرّع؟ وهل حجية السُنة كحجية الكتاب، يمكن أن تخصص وتقيد آيات الكتاب أم لا؟. هذه الأسئلة حاسمة في فهم حدود أوسع مصادر التشريع لدى المسلمين، هي سُنة النبي الكريم، التي راحت تتفاقم بمرور الآيات، بفعل الوضع والكذب عليه، واستغلالها في ظل صراع مرير على السلطة.
لقد مرَّ الكلام حول حجية السنة (راجع كتاب: الفقيه والعقل التراثي)، وقد ألمحت آنفاً إلى نفي أي وصايا تشريعية للأنبياء فضلاً عن غيرهم، فتقتصر حجية السُنة على ما له جذر قرآني، وفقا لصلاحيات الرسول المصرّح بها قرآنيا، وهي: التبليغ والبيان والتفصيل. لكن الرأي العقدي والفقهي السائد قائم على حجية مطلق السنة النبوية، بما فيها القضايا الشخصية. لا فرق بين الأحكام الشرعية والولائية التي تنتهي فعليتها بوفاة الولي. والأحكام الشخصية والأخلاقية. فجميعها حجة مقدسة، ترتهن فعليتها لقدسيتها لا لملاكاتها. وهذه مشكلة أخرى تطرقت لها في حينها.
وعلى هذا الأساس اكتسب الفقه قدسية السنة رغم أنه قراءة وفهم للنصوص الأولية، حداً غدت النصوص الثانوية، سيما نصوص أئمة الفقه هي مدار البحث في الدراسات الفقهية. حتى حجب النص الثاني (الروايات)، النص الأول (القرآن) واستفرد بمرجعية التشريع. فعندما يستدل الفقيه بآية قرآنية ما، لا يعمل نظره بها، ولا يستدل بها مباشرة، بل يستدل بها في ضوء رأي من سبقه من الفقهاء، ويحذر دائما من مخالفة السلف وأئمة الفقه ومشهور العلماء، سيما إذا كان هناك إجماع على المسألة الفقهية. وبالتالي الكلام ليس عن النظم الوضعية التي تضع فاصلة بينها وبين الدين. بل عن مجتمع مسلم ارتهن ضبط سلوكه للفقيه وما يفتي به حول المسائل المستحدثة. فاستنزف الفقه حياته وراح يلاحقه في كل صغيرة وكبيرة، ويلاحق ذائقته الجمالية وحريته فأَلـِفَ الطاعة والانقياد والخوف والرهبة. رغم بشرية الأحكام الفقهية. بل أن بعض أدلتها نصوص تاريخية، تلبست بالقداسة بفعل الصراع السياسي والطائفي بين المذاهب والفِرق. فكان انعكاسها سلبياً، بفعل الفارق الزمني والظرف التاريخي بين زمني الصدور والامتثال.
ثمة مبررات تجعل من الفقه غير صالح كمرجعية لتشريع قوانين وأنظمة لملء الفراغ التشريعي. سيما استدلال الفقهاء بنصوص كانت ناظرة لوقائع محددة. بهذا الشكل فقد الفقه قيمته الأخلاقية، وبات عبئاً على مسيرة المجتمع، فلا بد من مرجعية أخلاقية قادرة على مواكبة الإنسان وفق مبادئ وقيم إنسانية. وعلى هذا الأساس راح البحث يؤسس لفهم جديد للدين والإنسان والتشريع. فالتخلي عن المرجعية الفقهية لا يعني فوضى القانون، بل أن جميع دول العالم تحتكم لمبادئ وقيم أخلاقية في تشريع القوانين باستثناء الدول الإسلامية.
ينبغي التنبيه أن الكلام عن مصادر التشريع في منطقة الفراغ التشريعي، التي بدأت بوفاة الرسول الكريم. فلا يصدق مفهوم الحكم الشرعي على أي حكم لم تنص عليه آيات الكتاب المجيد. وأما السُنة فتقتصر حجيتها كما سبق التأكد على ما له جذر قرآني، وهي روايات محدودة جداً. وما عداها رأي اجتهادي في ضوء ظرفه الزماني والأحوالي. إن خطورة الأحكام الفقهية في نسبتها للشريعة باعتبارها قراءة لها، والحال أنها وجهات نظر اجتهادية، فيلتزم المكلّف بآراء وفتاوى الفقيه باعتبارها أحكاماً شرعية تستلزم العقاب والثواب، هذا هو المركوز في لا شعوره. فينبغي التنبيه عليه دائما وتصحيحه.
.......................
يأتي في الحلقة القادمة
.................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه