حوار مفتوح

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (263): تداعيات تهميش الأخلاق

خاص بالمثقف: الحلقة الثالثة والستون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:

تداعيات تهميش الأخلاق

يُوحي مفهوم "شمول الشريعة"، بوجود خزين تشريعي يكفي لمواكبة الواقع وتطوراته، منذ البعثة حتى نهاية الدنيا. أو بشكل أدق، يُوحي المفهوم بوجود أحكام مشرّعة، جاهزة، لكل واقعة تنتظر التطبيق. أو تنتظر فعلية موضوعاتها لتكون فعلية. هذا هو المتبادر من العبارة التي يؤكدها الفقهاء، وأغرقوا الحياة بفتاواهم. وقد أعادت أدبيات الحركات الإسلامية صياغتها بشكل آخر، كـ" الإسلام هو الحل" أو "القرآن هو الحل". يقصدون بالشعارين أن كمال الشريعة وشمولها رهان الإسلاميين جميعاً في السلطة وخارجها. بل كل مشاريعهم تقوم على هذه المسلّمة التي لا ريب فيها عندهم. وكلما فضحهم الواقع قالوا (الخطأ في التطبيق لا في التشريع). يتذرعون بخطأ التطبيق لتبرئة فهمهم للتشريع الذي تمثّل فيه الأحكام الفقهية النسبة الأكبر، وهي آراء اجتهادية ووجهات نظر ضمن واقع محدد، يحول دون ثبوتها وإطلاقها. العبارة بشكلها هذا موحية. تراهن على صياغتها في فرض حقيقتها. وتراهن على مفهوم "الشمول" للتستّر على دور العقل الفقهي في منطقة الفراغ التشريعي. وتحقق مقاصدها عندما توحي بشرعية الأحكام الفقهية وإطلاقها وثباتها.

إن شمول الشريعة يتنافى مع واقع التشريع. فآيات الأحكام محدودة، والروايات الشارحة – المفصّلة، مثلها أو تزيد قليلاً، وقد تقدمت الأدلة، وأضيف:

- تفاجأ الصحابة بعد وفاة النبي بوجود فراغ تشريعي، يستدعي الاجتهاد أو إجماع نخبة الصحابة، مع فقدان النص، فثمة اجتهادات مصدرها الخليفة بمباركة الصحابة أو بموافقتهم الضمنية. وهذا يؤكد حدود الشريعة بعصر النبي زماناً ومكاناً. وثبوت الإطلاق يتوقف على ثبوت فعلية الموضوع، لتكون ذات الأحكام فعلية.

- إن جملة من الأحكام المنصوص عليها قرآنياً مصدرها الحكمة وليس الشريعة، كما في الآية (39) من سورة الإسراء التي ختمت جملة أحكام مهمة بقوله: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ). فهي أحكام تقتضيها الحكمة وليست الشريعة بالمعنى الاصطلاحي.

- الأحكام الأخلاقية ضمن منظومة القيم والأحكام القرآنية إرشادية إلى حكم العقل الأخلاقي.

فالمتحصّل هناك ثلاثة مصادر للأحكام المنصوص عليها قرآنياً: (الشريعة، الحكمة والأخلاق). والحكمة لا ترادف الشريعة: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ). وأما تأويلها بالسُنة النبوية  مجرد تأويل لا دليل عليه. فكيف تكون الشريعة شاملة لجميع وقائع الحياة وهي ليست مصدراً لجميع الأحكام المنصوص عليها قرآنياً، فضلاً عن غيرها؟. لست ضد الشريعة بل ضد توظيفها. وما لم يدل الدليل على نسبة حكم للشريعة، لا نحكم بشرعيته، ويبقى حكماً فقهياً مرتهناً لرأي الفقيه وشروط صحة استنباطه.

الكلام إلى الآن عن المتبادر من مفهوم (شمول الشريعة لجميع وقائع الحياة) وبالحمل الأولي منطقياً. ويرجع تاريخها للقرن الثاني الهجري، تدعمها روايات وردت عن أئمة الفقه. يقول محمد بن إدريس الشافعي "150-204هـ / 767-820م": (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها). (الرسالة، ص 19). أنظر جيدا لعبارة (في كتاب الله). ويقول محمد باقر الصدر من المعاصرين "1935 – 1980م": (إن شمول الشريعة واستيعابها، لجميع مجالات الحياة، من الخصائص الثابتة لها، لا عن طريق تتبع أحكامها، في كل تلك المجالات فحسب، بل عن طريق التأكيد على ذلك، في مصادرها العامة أيضا. فنحن نستطيع، ان نجد في هذه المصادر نصوصا تؤكد بوضوح، على استيعاب الشريعة، وامتدادها إلى جميع الحقول، التي يعيشها الإنسان، واعتنائها بالحلول لجميع المشاكل التي تعترضه في شتى المجالات. ثم يستشهد بنصوص تعود للقرن الثاني الهجري:

(1 - روى أبو بصير، عن الإمام الصادق (ع)، انه تحدث عن الشريعة الإسلامية، واستيعابها، وإحاطة أئمة أهل البيت بكل تفاصيلها. فقال: فيها كل حلال وحرام، وكل شئ يحتاج الناس إليه، حتى الأرش في الخدش. (مستدرك الوسائل ١٨: ٣٨٨، الحديث ١٤)

2 - وعن الإمام الصادق (ع)، في نص آخر، انه قال: فيها كل ما يحتاج الناس إليه، وليس من قضية، إلا وهي فيها حتى أرش الخدش، "أي الغرامة التي يدفعها الشخص إلى آخر إذا خدشه". (الكافي١: ٢٤١، الحديث 5).. (الصد، محمد باقر، المدرسة الاسلامية ص 144).

عندما يستشهد محمد باقر الصدر، وهو فقيه وأصولي ومفكر وفيلسوف كبير، بكلام أئمة أهل البيت، وخصوص رواية الإمام الصادق (80 – 148 هـ)، فهو يعتقد وفقاً لمبانيه كفقيه شيعي أن عصر النص يمتد إلى نهاية الغيبة الصغرى (329هـ)، وأن كلام الإمام الصادق إمتداد لكلام الرسول، لا فرق في ذلك من حيث حجية رواياتهم. وهو كما ترى فإن التشريع وفقا للاتجاه الأخلاقي منحصر بالله تعالى، وأن حجية السُنة تقتصر على ما له جذر قرآني. وما عدا ذلك اجتهادات فقهية، وآراء بشرية. وضمنا قد أشار الصدر لهذا (استيعاب الشريعة، وامتدادها)، ويقصد بامتداداتها الأحكام الفقهية، لكن كيف شملها مفهوم الشريعة؟. الأحكام الفقهية اجتهادات بشرية، قد تصيب وقد تُخطئ.

إن مهمة السُنة النبوية قرآنياً، تنحصر بالبيان والشرح والتفصيل. هذه حدودها: (وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، غير أن  الفقهاء بدءا بالشافعي، حولوا السُنة من نص شارح للقرآن إلى نص مشرّع!، ولم يكتفوا بذلك بل امتد المفهوم ليشمل فقه المسليمن. وكلامي واضح لمن له خبره بالبحوث الفقهية العالية، وما يتناوله الفقهاء فيها. حيث ينشغلون بآراء الأصوليين والفقهاء، أكثر من انشغالهم بالنص المؤسس. أقول هذا كي لا يلتبس الإلهي بالبشري تحت ضغط الدواعي الإيديولوجية، وخصوص الدوافع الطائفية التي أفرزها صراع السلطة. ولعل أهم مقاصد الاتجاه الأخلاقي تحرير العقل الفقهي من سطوة الأيديولوجية، وإقصاء الدوافع الذاتية عند تأصيل الأصول وإرساء المباني الفقهية والأصولية.

نؤكد أن الشريعة مكتملة بذاتها قبل ظهور الفقه والفقهاء، وهي القدر المتيقن من التشريعات التي يحتاجها الفرد والمجتمع، و(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ). وما عدا ذلك يتولى العقل والأخلاق ملء الفراغ التشريعي بهدي من القيم الدينية التي هي قيم إنسانية أساساً.

مفهوم الشمول لدى الفقهاء

لا يقصد الفقهاء بـ"شمول الشريعة" وجود خزين تشريعي جاهز، يواكب وقائع الحياة كما توحي العبارة، بالحمل الأولي والنظرة الأولية، بل أرادوا بها التستّر على دور الفقيه ورأيه الاجتهادي في عملية استنباط الحكم الشرعي.

 يقصد الفقهاء بشمول الشريعة:

- ما كان مصرّحاً به من الأحكام. أو مجموع النصوص التشريعية المصرّح بها قرآنيا، بحدود خمسمئة آية، تزيد أو تنقص.

- أو ضمناً عبر الاجتهاد في ضوء نص. ويقصدون بذلك خصوص الأحكام الفقهية. ولازمه يجب خضوع كل ما ليس فيه نص للحكم الفقهي، عن طريق الاجتهاد انطلاقاً من النص. بهذا الشكل يحتكر الفقيه التشريع في منطقة الفراغ، إذ لازم شمول الشريعة لجميع مناحي الحياة تعطيل العقل في منطقة الفراغ التشريعي، لتقدم النص على العقل، وهو مبدأ أساس لدى الاتجاه الفقهي والتراثي بعامة. بهذا الشكل يستثنى عقل الفقيه تحت غطاء مفهوم الشريعة وشمولها لجميع مناحي الحياة. علماً أن الفقيه يتأثر بقبلياته وثقافته وأيديولوجيته عندما يقصي الآخر، المختلف مذهبياً، ويقتصر جواز الترحم والدعاء وجواز عطاء المساعدات المادية بالمؤمن، ويقصد به خصوص المؤمنين من مذهبه. بينما الشريعة لا تفرق في أحكامها المنصوص عليها قرآنياً بين المؤمنين، ولا تخص النجاة بمذهب دون غيره: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). فليس ثمة معيار أيديولوجي سوى التقوى والمؤمنون سواسية في الحقوق والواجبات: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

إن جهود علماء المسلمين على صعيد الدراسات الفقهية كبيرة، حتى عُد الفقه أحد معالم الحضارة الإسلامية، لأصالته. يقول د. محمد عابد الجابري: (إذا جاز لنا أن نسمي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها، فإنه سيكون علينا أن نقول عنها أنها حضارة فقه، و ذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها أنها حضارة فلسفة)، (الجابري محمد عابد، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989، ص 92). من جهة ثانية لا يُعد تشريع الأحكام مثلبة، بل الفراغ التشريعي هو المثلبة حينما يتكاسل علماء الأمة عن واجباتهم. وأيضا لا ريب أن التشريع كان ومايزال يدور مدار النص الديني، غير أن كلامنا عن بعد آخر، عن تداعيات ارتهان الوعي للعقل الفقهي باعتباره عقلاً مطلقاً ثابتاً، يتعالى على النقد والمراجعة، مهما تصادم مع الراهن الحضاري وحقوق الإنسان. إن تعطيل العقل النقدي قد يكون أقل التداعيات، قياساً ببرمجة العقل، ليكون النص مرجعاً أساساً، ومصدراً وحيداً للحقيقة. في هذه الحالة سيكون الإنسان أسيراً للنص يبحث عنه، ويلجأ إليه لمعرفة الحقيقة، وتفسير ظواهر الأشياء، حتى في القضايا العلمية، تجد من يعتمد الطب القديم، ويفضله على مراجعة الطبيب. لا أخطر على الدين من مأسسته، عندما يرتبط برجل الدين ويصبح أداة للقمع والاضطهاد، والحد من الحريات، وفرض أنساق أيديولوجية بغطاء ديني. لقد ارتهن الفقيه سلوك الفرد، مشاعره، مواقفه لأحكامه الفقهية، باسم الشريعة والدين، فسلب الإنسان حريته، وارتهن إرادته لعقل آخر.

المرجعيات الفقهية

ليست مرجعيات التفكير الديني سوى مصفوفة نصوص تتولى عملية التفكير وإنتاج المعرفة. من خلالها يفسر العقل التراثي ظواهر الأشياء، ويفرز الحق عن الباطل، ويستنبط المجتهد أحكامه، بعيداً عن دراسة تاريخ وفلسفة النص، مخافة اكتشاف تاريخيته، وهدر قدسيته، التي هي أساس سلطة الفقيه. (مقدمة كتاب النص وسؤال الحقيقة). فيتراجع العقل النقدي الفعاّل، ليحل محله عقل ساكن، تقريري جامد، مغلق على النقل دون العقل. تقتصر مهمته على التلقي والامتثال، بعيداً عن تحري تاريخه وفلسفته. إن وعي الفقيه لمفهوم القداسة يجعل من النص معطى نهائياً، يضعه فوق العقل، ولا يكون حنيئذٍ معياراً (يمكن للإنسان من خلاله التمييز بين الصواب والخطأ على صعيد المعرفة، وبين الخير والشر على صعيد الأخلاق، وبين الحسن والقبح على صعيد الفن والجمال). وهي المهمة الأساس للعقل. وهذا ما يؤكده القرآن حينما يحيل عليه: (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)؟. فالكتاب الكريم يعترف ضمناً بالعقل كمعيار للحقيقة عندما أحال عليه،. لا تخفى تداعيات تعطيل العقل النقدي وتهميش الأخلاق، لينفرد النص بمرجعية الفقيه، وهندسة عقله وضبط أدائه اليومي. إن تقديم النص دائماً، يبرر تمرّد الفقيه على العقل والأخلاق، مادام النص وليس العقل مصدرا للحقيقة في نظره. فلا غرابة في تقدم الدافع الذاتي على الدافع الموضوي في تصحيح الروايات .

فلسفة الفقه

يقصد بفلسفة الفقه: (ذلك العلم الذي يدرس الفقه ويجيب عن سؤال: ما هو الفقه) بوصفه ظاهرة تاريخية اجتماعية دراسة خارج دينية لا تقوم على أيّ معتقد إيماني مسبق). (محمد مجتهد شبستري، فلسفة الفقه، مجلّة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 7: 12 ـ )13. لكن رغم أهمية هذا العلم، وأهمية دراسة تاريخ الحكم الشرعي وفلسفة الأحكام لا تعنى مناهج الدراسات الدينية والحوزوية بفلسفة الأحكام وتاريخها، سوى أسباب النزول، التي تسلط الضوء جزئياً على ظرف نزول النص أو الحكم. وظيفة الفقيه لا تتخطى حدود ظاهر النص دون الولوج في أعماق، واكتشاف مضمراته، وخلفيته التاريخية، رغم صدور دراسات متأخرة، تنم عن وعي جديد، قصدها فهم فلسفة الحكم، لا مناقشة قدسيته. إن فلسفة الحكم تعني خرم قدسية النص من خلال مساءلته، وتوالي الاستفهامات للكشف عما يريد قوله، وما يريد استبعاده. وهذا يتنافى مع قدسيته التي يرتهن لها الوعي الديني بعامة والفقه بخاصة. الأحكام عندهم مرتهنة لقدسيتها لا لملاكاتها. نصوص مقدسة، لها وجود ميتافيزيقي مسبق، لا نعرف عللها ولا أسباب تشريعها، هكذا يصوّر الاتجاه الفقهي الحكم الشرعي، وفقاً لنسقه العقدي. ومرَّ تفصيل الكلام أن الأحكام الشرعية مرتهنة لملاكاتها لا لقدسيتها، بعد تقديم فهم جديد لمفهوم قدسية النص، وكانت الأدلة التي تم الاستدلال بها كافية. بل قادتنا مساءلة النص، وتوالي الاستفهامات إلى اكتشاف عملية التشريع، ومنهجه، وجذره الأخلاقي، ودور العقل فيه.

غير أن الفقيه لا يستقل في قراءة نصوص الشريعة في الكتاب الكريم، ولا يعتمد رأيه في فهمها، بل يتخذ من الروايات والتراث مرجعية لفهمها، فيصدق أن الفقيه يرتهن وعيه وفهمه وتفسيره لوعي وفهم وتفسير نصوص تراثية / روايات. بعد إضفاء العصمة على مصادرها، لتكتسب قدسية تسمح بتوظيفها. وما هو أبعد، أن العصمة تتستر على عوامل ضعفه وانكساره، حينما توفر له مبررات الانقياد. فيبدو التسليم منطقيا وفقاً لرؤيتهم. أحياناً يضع التعارضُ بين النص والعلم الفقيهَ في حيرة فيضع النص فوق العلم لقداسة الأول، كما في بعض مسائل الصوم (مثالاً لا حصراً)، حينما يحكم بفساد صوم المرتمس بالماء بناء على وجود رواية حكمت بفساد صومه. بينما تقتصر المفطرات على الأكل والشرب والجُماع، فمن أين جاء الحكم؟. كانوا يعتقدون أن دخول الماء عن طريق الجسم سيصل المعدة ومن ثم يوجب فساد الصائم. وكان هذا حدود العلم آنذاك. وبعد اكتشاف الجهاز الهضمي اتضح بطلان قولهم، غير أن الفقيه يتمسك بالرواية ويحكم بفساد المرتمس بالماء، معللاً فتواه أنها صادرة عن معصوم!!!. مشكلة الفقيه في غلوه بدوافع أيديولوجية طائفية، فيرتهن الفقه لأقوال الصحابة والأئمة بذريعة عصمتهم. التكوين المرجعي للفقيه تكوين تراثي، يرتكز للتراث باعتباره مقدساً، ملزماً، رغم بشريته. إن أخطر ما في العصمة أن تغدو آراء بشرية معطى نهائيا، وأحكاماً ثابتة، لا تاريخية، فيتجمد العقل، ويحار في تفسير بعضها، ويسعى جاهدا لتأويلها والتكيف معها، كي لا يخدش قدسيتها من خلال النقد والمراجعة. العصمة بالمفهوم المتقدم لا تسمح بمواكبة الحياة، والاستفادة من معطيات العلوم. بل وترفض التسامح مع الآخر، ورفض حقه في الاختلاف، مادام هناك نص نهائي يحدد الموقف منه. الفقيه يجرد النص من تاريخيته، ليبقى مطلقاً أزماناً وأحوالاً.

وبهذا نكتشف مساحة بشرية كانت تتوارى خلف قداسة النصوص الدينية، وحقيقتها آراء واجتهادات شخصية بشرية، مرتهنة لظروفها التاريخية، مهما كان حجم الألقاب التبجيلية التي تسبق أسماءهم. لقد باتت الحدود واضحة لدى الاتجاه العقلي – الأخلاقي، لا تؤثر فيها آراء علم الكلام القديم ومقولاته.

ثمة قضية أهم، من أجل رؤية واضحة. وعدم الاكتفاء بظواهر الأشياء، مادمنا أمام مسؤولية دينية وأخلاقية. إذا كان منهج الفقيه في استنباط الحكم الشرعي قائماً على الاستدلال بنصوص تشريعية، آية أو رواية (نبوية كانت أم لا)، فلماذا يلام الفقيه ودوره يقتصر على التلقي والتفقه في النصوص ملياً، من خلال مجموعة قواعد أصولية، واعتماد اللغة في فهم ظواهرها؟.

إنما يلام الفقيه لتكريسه دوغمائية القداسة. والحدّ من دور العقل في التشريع. وتهميش الأخلاق. إضافة لقصور المنهج وتقديمه النص على العقل بدوافع أيديولوجية ورؤية تبجيلية للروايات تتجاوز الحد المعقول.

إن تداعيات تهميش الأخلاق في الفقه كثيرة، وما تقدم بعض مصاديقها. كل هذا يؤكد ضرورة العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق. والعودة للعقل ليأخذ دوره في ملء الفراغ التشريعي وفق متضيات الحكمة وضرورات الواقع.

يأتي في الحلقة القادمة

.................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

[email protected]

في المثقف اليوم