حوار مفتوح

لهذا أنا حزين

تنظر إلي نظراتك المعتادة، وتتحسر على وضعي الحالك، وتتأسف لأني ضعيف أعزل لا أملك ما أدفع به الأزمات المدلهمة عن نفسي، ثم تعود إلى خطابك المكرور الذي كان، في فترات مضت، يفلح في تسكين ألمي ويهدئ أوجاعي، لكنك لم تدر أنه ما عاد يضمد جراحي الغائرة، ولا يرسم أملا وأفقا رحبين أمام بصري؛ لأني بتُّ أرى الأمور في وضوحها، وأقضي الليالي الطوال مكلوما في صمت، وأهجر النوم مكرها لا طواعية مني، لا لشيء إلا لأمعن النظر، وأزايل الغشاوة من عينيّ، وأتأكد إن كنت في حال وعي ويقظة أم أني مثمل حتى النخاع بأوجاع وهمومي هذا الوطن. ولكن، وآه من لكن هذه، وجدتني في برزخ مدلهم: بين النوم واليقظة، بين الأحلام الوردية الناعمة والواقع الملموس القاسي.. إني حزين يا صاحبي، وحزني لما يغادرني وإنما طاب له المقام فأقام، وتغلغل بين مسامي.

حزين على حال الأستاذ الذي أفرغ من مكانته الاعتبارية والرمزية والاجتماعية، والنتيجة أنه أضحى لعبة في ظل سياسات فاشلة، وورقة محترقة بين انتزاع الشرعية المغتصبة، والرغبة الأكيدة في الوجود.

حزين على حال منعشي الصحة الوطنيين من الرجال والنساء، أولئك الذين يسحلون ويرفسون ويقمعون في الشوارع، والنتيجة أن الصحة أصبحت في مهب الريح.

حزين على حال فقراء المغرب الذين لم يعد لهم حق في الحياة، في العيش الكريم، في لقمة العيش الهنيّة، في الصحة، في التعليم، في..في الموت الكريم؛ لأن الأسعار المستعرة تحرق الفقير، وتجعله متلظيا بين نارين حاميّتين: نار الحقوق المهضومة، ونار تحصيل لقمة العيش البسيطة. فحتى العدس والبصل والخضر و... لم يعد بمقدوره شراؤها.

حزين على حال أولئك الفقراء المحتجين على انعدام الماء والكهرباء، والحانقين على غياب الوثائق الضرورية؛ ولكن ما يكلمني أكثر هو نضال هؤلاء من أجل الحصول على هوية تؤكد انتسابهم لهذا الوطن الذي يطردهم، هذا الوطن الذي أعتبره امرأة غريبة الأطوار: من أحبها تغرّب واحترق، ومن أعرض عنها اغتنى وتقرّب.

حزين على حال البيدونيين الذين يقبعون في بؤر هامشية، أولئك الذين ولدوا وترعرعوا في أحياء الصفيح: القصدير سقفهم وغطاؤهم، والأرض فراشهم ومضجعهم. ولما تلقوا الوعود بسكن لائق خدعوا؛ فوجدوا أنفسهم وأبناءهم في العراء طعمة للتشرد والاغتراب.

حزين على الجدار العازل والهوة السحيقة التي تفصل بين حكومتنا الرشيدة والشعب المغربي الفقير؛ هذه الحكومة التي تعيش في واقع غير واقعنا، وتنظر من برجها العاجي بحيث ترانا عكس ما نراها: فنحن حشرات ضعيفة تستحق التفقير والموت في نظرها، ونحن نرى أنفسنا أناسا يستأهلون عيشا كريما، وبين رؤيتها ورؤيتنا نحترق ونحترق، وفي كل احتراق يزداد بعدها عنا.

حزين على الجفاف الذي ضرب أرضنا المباركة، وجعلنا في خوف حقيقي من الفناء، لا لشيء إلا لأنا نحب الحياة، نحب العيش على وجه البسيطة مهما كلفنا الثمن.

حزين على العيون التي ترصد حركاتنا وسكناتنا، وألجمت أفواهنا وقمعت وسجنت أقلامنا، فما عدنا نسطع حتى الأنين والتوجع جهرا.

حزين على حال هذا الوطن الغالي الذي يتهدده الأعداء من كل ناحية، ويتربصون به الدوائر. ومن ثم، فإن الوطن محتاج لأبنائه الأوفياء، وأبناؤهم محتاجون لوطنهم الأبي، ولكي يظل هذا الحب مستمرا على حكومتنا أن ترأف بحالنا، وترحم عجزنا وضعفنا، وتعلم أن حب الوطن والغيرة على مكانته، والرغبة في تقدمه هي التي تشدّنا إلى البقاء على أرضه حتى وإن استمر احتراقنا وتلظينا.

***

محمد الورداشي

في المثقف اليوم