حوار مفتوح

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (265): الخطاب الفقهي والأخلاق

خاص بالمثقف: الحلقة الخامسة والستون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:

الخطاب الفقهي والأخلاق

اتضح من سياق البحث عدم شمول مفهوم الشريعة للأحكام الفقهية، وعدم جواز نسبتها إليها، مادامت أحكاماً إلهية منصوصاً عليها. باستثناء تطبيق كبريات الأحكام على مصاديقها. أو وجود وحدة مناط بين المسألتين تقتضي تعميم الحكم. وأما نتائج الاستنباط فهي جهد بشري، تختلف من مجتهد إلى غيره، كاختلاف المذاهب الإسلامية حول وجوب غسل أو مسح القدمين في الوضوء. ولا تخفى الآراء الخلافية حول دلالات الآيات، تجدها مفصّلة في جميع كتب الاستدلال الفقهي. لا بين المذاهب الفقهية فقط بل حتى بين فقهاء المذهب الواحد. وبالتالي فالنص القرآني (آيات الأحكام)، وحي إلهي مقدّس. له دلالته وقدسيته ووقعه في نفس المكلّف. دأبه الاحتياط لضمان الامتثال كوظيفة دينية ملزم بأدئها، وضمان رضا الله. فثمة أجواء نفسية وثقافية تتعامل مع آيات أحكام الشريعة بقدسية عالية، تمهّد لطاعة واتباع وتقليد المجتهد، نافذته لمعرفة تكاليفه وتعاليمه الدينية. ورغم ضرورة وأهمية هذه المشاعر غير أنها ثغرة قاتلة حينما يمتثل البشري (أحكام وفتاوى الفقيه) باعتبارها أحكاماً إلهية، تترتب عليها آثار أخروية. أو دنيوية وأخروية. المكلف ليس متخصصاً ليناقش المجتهد في اجتهاداته، بل يصدّقه بحكم الثقة والاختصاص وسياقات العقل الجمعي. وإذا كان ثمة لَوم فيقع على الفقهاء خاصة، الذين يستغلون نقاء النفوس المؤمنة. المكلّف يصدّق: "ما من واقعة إلا ولله فيها حكم"، ومستعد نفسياً وروحياً لامتثال ما يصدر عن الفقيه من أحكام وفتاوى لضمان براءة ذمته أمام الله تعالى. والكلام عن خصوص المؤمن المتديّن. كل يوم أقرأ مجموعة فتاوى تصدر عن مختلف المرجعيات الدينية في العالم، تكشف عن مدى تعلق الناس بالفقيه كمرجعية دينية ودليل فقهي لأحكام الشريعة أو أحكام الله. هو الوحيد المخوّل بالحديث عن الله. لا أحد يشاركه في تخصصه وخبرته وقدرته على استنباط الأحكام الشرعية. فهو كائن مقدّس، له هيبة في نفوسهم، لا يرتابوا بأحكامه وفتاواه، بل يتلقاه المكلّف باعتبارها أحكاماً وفتوى إلهية مقدسة، وعندما يسّلمه ما يترتب عليه من حقوق الفقراء والخيراة والزكاة، يعتقد جازماً ببراءة ذمته. كل هذا بفعل ثقافة تكرّس سلطة الفقيه، ووجوب الانقياد لأوامره، باعتبارها أوامر شرعية صدرت عن الشارع المقدس أو عن الله تعالى، مباشرة أو بواسطة النبي الكريم، لا يحق للعقل مناقشتها. الفقيه مصدر المعرفة الدينية والشرعية عندهم، يقصر دور العقل على الطاعة والانقياد لأوامره وفتاواه.

إن إشكالية علاقة المكلّف بالفقيه أعمق من تداعيات الانقياد والطاعة، رغم خطورة روح التبعية وإدمان التقليد. غير أن الأخطر إقصاء العقل والأخلاق، وتفويض الفقيه مهمة ملء الفراغ التشريعي بل وحتى قيادة الأمة. وعندما يؤكد على شمول الشريعة، يؤكد على ما هو أبعد من الشمول الفقهي إلى مصادرة العقل، وحرمانه من النقد الأخلاقي عندما تتعارض أحكام الفقيه مع القيم الإنسانية والأخلاقية. مقولة شمول الشريعة تعني احتكار الفقيه للتشريع مباشرة أو من خلال آرائه الفقهية، مهما كان مستوى نضج المجتمع ومهما كان مستوى العقل وتجاربه. فيفرض على الناس متبنيات أيديولوجية، عقدية وأخلاقية وفاء لعقيدته وتراثه، سيما الموقف الشرعي من الآخر، المخالف والند المذهبي فضلا عن الند الديني. ناهيك عن تجاهله لمتطلبات الواقع وضروراته.

نحن ملزمون بانتشال الوعي من غفوته ومده بمفاهيم جديدة تقوض البنى الفكرية التقليدية القائمة على العبودية والطاعة المطلقة. الأحكام الفقهية وجهات نظر اجتهادية ظنية، ومعرفة بشرية ناقصة. تحوم الشبهات حول مصادرها مع قلة أحكام الشريعة / آيات الأحكام، وتعذر ثبوت صحة صدور الروايات. يصرّح الفقهاء أن نسبة الأحكام المقطوع بها لا تتجاوز 5 – 6 بالمئة، وما تبقى ظنون، لا يمكن أن ترقى لمستوى الحجية، فثمة إشكالات عاصفة تثار بوجه صحة صدور الروايات، بدأ من المقولات الكلامية ثم الأصولية مرورا بالفقهية والرجالية والحديثية وغير ذلك. (فمن المتفق عليه بين المسلمين اليوم: أن القليل من أحكام الشريعة الإسلامية هو الذي لا يزال يحتفظ بوضوحه وضرورته وصفته القطعية، بالرغم من هذه القرون المتطاولة التي تفصلنا عن عصر التشريع. وقد لا تتجاوز الفئة التي تتمتع بصفة قطعية من أحكام الشريعة، الخمسة في المئة من مجموع الأحكام التي نجدها في الكتب الفقهية. والسبب في ذلك واضح، لأن أحكام الشريعة تؤخذ من الكتاب والسنة، أي من النص التشريعي، ونحن بطبيعة الحال نعتمد في صحة كل نص على نقل أحد الرواة والمحدثين ـ باستثناء النصوص القرآنية ومجموعة قليلة من نصوص السنة التي ثبتت بالتواتر واليقين ـ ومهما حاولنا أن ندقق في الراوي ووثاقته وأمانته في النقل، فاننا لن نتأكد بشكل قاطع من صحة النص ما دمنا لا نعرف مدى أمانة الرواة إلا تاريخياً، لا بشكل مباشر، وما دام الراوي الأمين قد يخطئ ويقدم الينا النص محرفاً  خصوصاً في الحالات التي لا يصل الينا النص إلا بعد أن يطوف بعدة رواة ينقله كل واحد منهم إلى الآخر، حتى يصل الينا في نهاية الشوط. وحتى لو تأكدنا أحياناً من صحة النص، وصدوره من النبي أو الإمام، فاننا لن نفهمه إلا كما نعيشه الان، ولن نستطيع استيعاب جوه وشروطه، واستبطان بيئته التي كان من الممكن أن تلقي عليه ضوءاً. ولدى عرض النص على سائر النصوص التشريعية للتوفيق بينه وبينها، قد نخطئ أيضاً في طريقة التوفيق).. (الصدر، محمد باقر، اقتصادنا، المجمع العلمي، ص417ـ418). وبالتالي فغالبية الأحكام الفقهية، لا فرق بين فقيه وآخر. ولا فرق بين مذهب وغيره. الغالبية المطلقة أحكام ظنية ظاهرية، ونتاج صَناعة أصولية، ترضخ لا سقاطات العقيدة والتوجهات الأيديولوجية. والظن كما يؤكد الكتاب الكريم لا يغني من الحق شيئا. أو بلغة الأصول، أن كاشفية الظن ناقصة، لا ترث العلم واليقين، فلا تكون حجة: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا). ويبقى الجدل قائما حول أدلة جعل الحجية. والحق أنها أدلة هشة، يمكن نقضها. وبالتالي لا حجية لأية روحية أو خبر ما لم يرث العلم واليقين، فتكون حجيته ذاتية لحجية القطع، وهي روايات نادرة.

بهذا الشكل بات واضحاً أن نسبة الإلهي إلى البشري في تكوين العقل الفقهي هي نسبة آيات الأحكام إلى غيرها من مصادر تشريعية. بل حتى هذا العدد من آيات الأحكام تم اختزاله بالنسخ والتقييد والتخصيص. يقول ابن حزم الأندلسي في كتابه الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم: [إن آية السيف أو قوله تعالى: (إذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتّموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد فإن تابوا وأقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة فخلّوا سبيلهم إنّ اللّه غفور رّحيم). أو آية: (قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) قد نسخت (47) موردا من آيات الكتاب]. آيات مفعمة بالرحمة والمودة والعفو والتسامح ورفض الإكراه. كما أن الخطاب السلفي، الممالئ للسلطة وحروبها وموقفها الصارم من المعارضة، التف على جميع آيات الرحمة والمودة والتسامح بدعوى نسخها بآية السيف. فكانت ضحية النسخ تعطيل أكثر من 60 آية (راجع كتابي: التسامح ومنابع اللاتسامح.. وأيضا كتاب: الهوية والفعل الحضاري، ص 307). بهذا الشكل شلّ النسخ طيفاً من الآيات رغم عدم ثبوته، باستثناء بعض الموارد كآية النجوى. النسخ يفضي إلى جهل لا تنفع معه تبريراتهم، وهو ممتنع على الله تعالى. إن التفسيرات والتأويلات لمعنى النسخ سببها التجزئة في التفسير، وعدم الأخذ بنظر الاعتبار الهدف الكلي لرسالة السماء. النسخ رأي فقهي، كرّس سلطة الاستبداد على حساب القيم الإنسانية، وجرد الشريعة من بعدها الإنساني. لذا لا يؤمن الاتجاه الأخلاقي بالنسخ إلا في حدود المتيقن قرآنياً. وبدلا من النسخ يؤمن بتوقف فعلية الحكم على فعلية موضوعه الذي يتوقف بدوره على فعلية جميع شرائطه وقيوده، تفادياً لجهل الخالق. وهذا شيء آخر غير النسخ، مرَّ تفصيله أكثر من مرة.

الأحكام الفقهية وجهات نظر اجتهادية، مرتهنة لقبليات الفقيه وظرفه التاريخي، مهما كان حجم الألقاب التبجيلية التي تسبق اسمه، لا ترقى لمستوى لأحكام الشريعة المنصوص عليها قرآنيا. بل بعضها أعراف وتقاليد، سوقتها رؤية تراثية سائدة لمفهوم القداسة، تسببت بتداخل الإلهي بالبشري. وما يفتي به الفقيه يمثل رآيه الفقهي ووجهة نظره الاجتهادية، التي قد تتطابق أو تختلف مع آخرين.

يجب أن نذكّر: أن الاتجاه الأخلاقي في الشريع لا يعاني ما يعانيه اتجاه الفقه التقليدي من إشكالات. إذ تنتهي حدود الشريعة عندها بانتهاء آيات الأحكام، ثم يتولى العقل مهمة ملء الفراغ التشريعي وفق مقتضيات الحكمة وضرورات الواقع وعلى أساس مبادئ التشريع وجذرها الأخلاقي، كما مرّ الكلام مفصلا. إن الاتجاه الفقهي التقليدي حاصرة نفسه عندما أقصى العقل وهمّش الأخلاق، حتى فرض الشافعي النص مصدراً وحيداً للتشريع. وليس النص عنده شيء آخر سوى مجموع الآيات والروايات. يقول: (ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حلّ أو حُرم إلا من جهة العلم. وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السُنة أو الإجماع أو القياس)، (الرسالة: 29). والأخيران لا يخرجان عن النص كما سيأتي.

نستنتج من كلام الشافعي أن المكون الأساس للعقل الفقهي، مادام الحديث حوله، هو النص لا غيره، فلا يحق للفقيه على قول الشافعي أن يفتي بعيدا عن النص، ويبقى النص مدار التشريع، مهما كان النص ضعيفا فيقدم على العقل حفاظا على القاعدة: أن مصدر التشريع هو النص، كما يرى الشافعي ومن سار على نهجه. ووصل الأمر بهم تقديم السُنة على القرآن في حالة التعارض، ماداما على مستوى واحد من الحجية بدعوى وحدة مصدرهما وهو الوحي، فكما أن مصدر آيات الأحكام في الكتاب هو الوحي، فالوحي مصدر السُنة بعد تأويل الحكمة بالسُنة، (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ. (أنظر: الرسالة للشافعي، ص32).

في مقابل آيات الأحكام تهيمن السُنة النبوية، "المكوّن الثاني من مكونات العقل الفقيه"، على المساحة الأعظم من العقل الفقهي، فهي عندهم وحي منزل، حجة مطلقة، شاملة لقول النبي وفعله وتقريره. وقد جاءت (مبيِّنة لمجمله [الكتاب]، ومفصِّلة لمحكمه، ومقيِّدة لمطلقه، ومخصصِّة لعمومه، وناسخة لبعض أحكامه)، لذا من الناحية العملية، السُنة هي المصدر الأول للتشريع، مادامت مبيّنة ومفصّلة ومقيّدة ومخصصّة وناسخة، وهي حجة مطلقاً ما فتئت وحياً شأنها شأن آيات الأحكام.

وإذا كنا بصدد فرز البشري عن الإلهي في مكونات العقل الفقهي فإن القدر المتيقن من الروايات الحجة ما كان له جذر قرآني، بناء على الاتجاه الأخلاقي في التشريع. وماعداها فإما أن تكون أحكاماً ولائية مرتهنة لحياة الولي، وقد توفي النبي الكريم، ولم تعد فعلية كي يمكن الاستدلال بها. وهناك أحكام خاصة به، فتخرج تخصصاً. وأيضاً هناك سيرة شخصية، كحبه للنساء والعطر وغيرهما، وأما القسم الخامس فهي السيرة الأخلاقية، فيؤخذ بها بما أنها أحكام أخلاقية إرشادية لحكم العقل، شأنها شأن الأحكام الأخلاقية في الكتاب. جميعها إرشادي لحكم العقل بالحُسن والقُبح. والسيرة مطلقة بناء على الاتجاه الفقهي التقليدي، فتكون وحياً إلهياً بهذا المعنى. تأخذ نفس أحكام الآيات. وقد تتعارض معها، فتقدم عليها. وهذا تمدد لا دليل عليه.

ينبغي التأكيد أن السُنة لا تتقدم على الكتاب وفقاً للاتجاه الأخلاقي في التشريع، ويقتصر دورها على البيان والتفصيل (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). دون التقييد والتخصيص، فربما ملاك التشريع في إطلاق أو عموم الحكم، فلماذا يقيّد ويخصص بالسُنة؟. ولو صح أن حجية السُنة كحجية الكتاب، و(كانت كالقرآن في حجيتها ووجوب الإلتزام بها مطلقا، فلماذا لم تُضف له، وتُضبط كغيرها من الآيات، وينتهى الجدل حول حجيتها؟ لماذا فتحت علينا أبواب الجحيم، وراح كل فريق ينسب لرسول لله ما يشرعن عقائده، ويخدم مصالحه السياسية والمذهبية، حتى اختلط الديني بالسياسي، والمقدس بالمدنس، والعقلي بالخرافي؟ ألا يدل هذا على وجود فارق نوعي، واختلاف جوهري بينهما؟ وبالتالي فالجذر القرآني للرواية هو الذي يحدد مدى حجتها، وما تبقى فله دلالته القوية التي يمكن الاستفادة منها في تطوير الفهم الديني. فالتشريع منحصر بالله تعالى لذا جاءت آية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)...)، (أنظر كتاب: الفقيه والعقل التراثي، ص18).

إن تفكيك الخطاب الفقهي، وفرز الإلهي عن البشري، ضرورة تنويرية لاستعادة ثقة الفرد بنفسه وعقله وتحديد مدى صدقيتها في انتسابها للشريعة الإسلامية، بعد تعرية قداسة الأحكام الفقهية، وسلب الفقيه سلطته، التي كان للجهل دور خطير في ترسيخها.

يأتي في الحلقة القادمة

.................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

[email protected]

 

في المثقف اليوم