روافد أدبية

أحمد الشحماني: الساعاتُ الأخيرة

أنا وروحي والساعاتُ الأخيرة قبل بدء الحرب 2003 ..

فيما كان العالمُ على شفا حربٍ داميةٍ، يترقبُ بتوجسٍ وقلقٍ وخوف ما الذي ستأتي به الساعاتُ المقبلة، ينتظرُ بعينٍ مترقبةٍ سويعاتٍ تفصله على مسرح الحدث، ليرى لعبةَ الحربِ، لعبةَ الحربِ التي يتراقصُ لها رصاصُ الموت، لعبةَ الحرب التي راح ضحيتها فقراءُ الوطن، أطفالُ الوطن، عشاق الوطن، معذبو الوطن، بل راح ضحيتها وطنٌ اسمه العراق ..

جاءني صوتها المُموسق بالحنينِ عبر الهاتف طالبةً أن تراني بعد ظهيرة ذلك اليوم الذي يسبقُ الحرب بسويعاتٍ قليلة ..

- هل أنتِ مجنونةٌ يا صديقتي؟

- لستُ مجنونةً ولكن الشوقَ العارم يكتسحني، يكبلني بألفِ وجع، أريدُ أن أراكَ، أريدُ أن أتنفسكَ، أتنفسُ وجهُك، أتنفسُ صوتُك قبل أن تخنقني الحربُ بأزيزِ رصاصها ..

- من يدري رُبَّما أنا، ورُبَّما أنتَ من ستسرقه الرصاصاتُ القادمة لهذا أريدُ أن أراكَ لأودعك، وأمتصَّ عذابات العمر بأسفنجةِ رؤياكَ..

-  ويحكِ يا امرأة، العالمُ على شفا حربٍ بعد سويعات قليلة، والشوارعُ كما ترين زحفت إلى الفراغ، والناسُ أخذت تزحفُ إلى بيوتها بعد أن أخلت محلاتها، ورجعت إلى بيوتها لتتابع الأخبار، أخبارُ الحرب، وأنت تطلبين مني أن أراكِ كي تعزفَ روحكِ موسيقى الحب، أي حبٍ هذا يا صديقتي وها هي الشوارعُ قد ارتدت معطفَ الخوفِ والترقبِ والتوجس؟

**

لم تثنيها كلماتي المُعبئة بالخوف والتوجس، وجدتها تصرُّ على مقابلتي، صارخةً بيّ:

لا أريدُ أن أسمعَ بطبولِ الحرب قبل أن أراكَ، وأعانقك، وأشبع من التحدث إليك ...

نشبَ صراعٌ حادٌ بين روحي وقلبي، بين أن أذهب في هذا الوقت الحرج جدًا وبين أن أضربَ طلبها عرض الحائط ..

حاولتُ أن أتجاهل طلبها الغير منطقي، طلبها المحفوف بالمخاطر، لكنها كررت الأتصال بيّ مرة ثانية وثالثة طالبةً مني أن آتي إليها، أن امتشق سيفَ الروح وآتي إليها عبر المسافات البعيدة بين مدينة الناصرية وقضاء سوق السيوخ، صارخةً أريدُ أن أراكَ قبل أن تبدأ لعبةَ الحرب التي رُبَّما لن تبقيني على قيد الحياة، وقبل أن يتجمد الدمُ في عروق روحي ..

انتقلت عدوى اللاخوف عبر أثيرِ صدى صوتها إلى روحي فوجدتني أصبحتُ مثلها مُصابًا بفايروس اللاإكتراث ولم أفكر قط بالنتائج الوخيمة، ولم أكترث بالأجواءِ المخيفةِ التي تخفيها السويعاتِ القادمة، وجدتني أطلق العنان لروحي لتمتطي حصان المسافات وتذهبُ لمقابلتها في قضاء سوق الشيوخ..

وجدتها بإنتظاري متسمَّرة الروح ..

كان لقاءً جميلاً مُميزًا، موسومًا بالحنين، لكنه متشحًا بالألمِ، ألمِ السويعاتِ المقبلة وما يحملهُ القادمُ من مشاهدٍ مجهولة ..

تمرجحنا أنا وهي وروحي بين النخيل، وتمشينا كعصورين حالمين بين الحقول والترع المائية ..

لم نكن نكترثُ للوقت وهو يفلتُ من بين أيدينا. كانت الشمسُ في أبهى صورة حيث خيوطها الذهبية وهي تعكسُ وجعَ الغروب وكأني بها معلنةً نهاية يومٍ ستعبثُ بغدهِ مخالبُ الأيام القادمة، وتغدرُ به الحروبُ ..

أذكرُ كلماتها المرتسمة في ذاكرتي حين عانقتني قائلةً:

أريدك الآن أن ترجع إلى الناصرية، أخشى عليك من الليل فالغروبُ كما ترى قد هجمَ علينا بجنودهِ المُدججة بأسلحةِ الصمت، والخوفُ عشعشَ في الطرقاتِ، والناسُ زحفتْ إلى بيوتاتها كما العصافيرُ الزاحفة إلى أعشاشها بعد نهارٍ من التمرد المثقل بالتلصصِ فوق أشجارِ النخيل ..

**

حينَ ودعتها، لم أكن أعرف أي الجهات سأتخذ لروحي منفذًا، فالطرقُ تشابهت عليّ، والأكثرُ من هذا لم أجد سيارةً تنقلني إلى مدينتي، والغروبُ أزدادَ غروبًا، وتشعبَ ظلامًا ..

وقفتُ وحدي أرنو إلى المسافات، وروحي المُضطربة تترقبُ الطريق، لا مسافرين، لا سيارات، لا وجوه تمتصُّ وحشةَ الطريق، سوى شوارعٍ يملئها الخوفُ والفراغُ والصمتُ المخيف، وتنهداتُ روحي الغارقة في وحلِ العذاب ..

الخوفُ والترقب كانا قد سيطرا على الشوارع، وكيف لا والحربُ لم يبق لها سوى سويعاتٍ وتزلزلُ السماءُ الوطنَ بالدمار والموت ودموع القنابل العابرة للمدن ..

لا أحدَ يعرف وجعَ الحرب إلا من اكتوى بنيرانها ..

لا أعرف كيف وصلتُ إلى مدينتي، كيف أوجدتْ لي الأقدارُ شخصًا أوصلني بسيارته حين رمقني فجأةَ وهو متجهٌ إلى بيتهِ وأنا في حيرةٍ من أمري أترقبُ الوجوه والشوارع، فجاءني مهرولاً، زاحفًا بروحهِ، متسائلاً إن كان بإمكانهِ أن يسدي لي معروفًا ...

قفزتْ روحي أمامه مثل قطةٍ تموء، فيما قلبي وقفَ مُضطربًا يستمعُ لصوتِ دقات قلبي ..

آه يا وجع الروح حين تُضاجعها عذابات العمر ..

يا وجع المسافات حين نستجدي المدن التي تصبحُ في لحظاتٍ بعيدةً عن مرمى الروح ..

حين وصلتُ الناصرية وجدتُ الشوارعَ خاليةً من البشر إلا صدى أنفاس الليل تضاجعُ ظلام الليل، فيما القمرُ مترنحًا، يحتسي كأسَ نبيذ، غير مكترثٍ بالحرب، وكيف يكترثُ بالحرب وهو يرقصُ وحده في السماء مع صويحباته العاريات، نجوم الليل اللاتي يتمايلن ثمالةً كثمالةِ العمر حين تسرقهُ عبثيةُ الحروب، وتركلهُ بأقدامهنّ بناتُ الدهر ...

***

أحمد الشحماني

 

 

في نصوص اليوم