اخترنا لكم

نظرة على المستجدات الإيرانية

على حشد بعض الأشخاص حولها من كل صوب لإظهار تمتعها بخلفية شعبية. وأعتقد أنه من المستحيل التوصل على وجه الدقة إلى السبب الأساسي والجذري وراء هذه الكارثة التي ألمت بالبلاد دون الالتفات إلى التطور الذي مرت به نظرية «ولاية الفقيه». في الواقع، يكمن السبب الرئيس وراء ما حدث في هذا المبدأ. وخلال هذا المقال، سأحاول استعراض التغيرات والتطورات التي طرأت على هذه النظرية.

 

يعتبر كتاب «غلشن راز» أهم الكتب على الإطلاق في تاريخ الأدب الصوفي الفارسي. في ثنايا الكتاب، يشرح لنا الشيخ محمود شابستاري العلاقة بين تطور المصطلحات ومعناها في حياتنا المعاصرة، حيث يقول: «نظرا لأن لغة كل امرئ تعتمد على درجة التقدم التي أحرزها، فإنه من الصعب أن يتفهمها الناس. أما الذي تحيره هذه الألغاز، فسيصل إلى معناها».

 

يبدو لي أن تغير أو تطور اللغة والمصطلحات يقوم على تطور النظرية. وبدوره، يعد تطور النظرية نتاجا لتطور وجهات النظر المفكر أو الفيلسوف أو السياسي. وبالنظر إلى التراث الإسلامي، نجد أنه يتميز بثراء شديد فيما يخص فكرة تطور الأفكار أو النظريات. على سبيل المثال، هناك آية قرآنية تقول: «كل يوم هو في شأن» (سورة الرحمن ـ الآية 29). والملاحظ أن لفظ «يوم» القرآني يختلف في معناه عن اليوم العادي بالنسبة لنا، حيث أورد الماوردي (450 هـ) في كتابه «تفسير النكت والعيون» أن ابن بحر قال: الدهر كله يومان، أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فشأنه سبحانه في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر، والنهي، والإحياء، والأمانة، والإعطاء، والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء، والحساب، والثواب، والعقاب.

 والقول الثاني: إن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا.

 وفي هذا الشأن الذي أراده في أيام الدنيا قولان:

 أحدهما: من بعث من الأنبياء في كل زمان بما شرعه لأمته من شرائع الدين وكان الشأن في هذا الموضع هو الشريعة التي شرعها كل نبي في زمانه ويكون اليوم عبارة عن المدة.

 

القول الثاني: ما يحدثه الله في خلقه من تبدل الأحوال واختلاف الأمور، ويكون اليوم عبارة عن الوقت.

 

على سبيل المثال، طبقاً لما ورد في التوراة، خلق الله الخلق في ستة أيام. وكانت تلك الأيام قبل خلق الشمس والأرض. فكيف يمكننا تخيل يوم بلا أرض ولا شمس؟

 

أتذكر أنه خلال انعقاد «مجلس الخبراء» الأول، في صيف 1980، عكف الخبراء على إعداد قانون دستوري يتناول الاستفتاء داخل إيران. وجرت مناقشة مهمة بين دكتور بهيشتي وآية الله منتظري. وكما تعلمون، فإن منتظري كان يتقلد آنذاك منصب رئيس المجلس، وكان بهيشتي نائبه. عندما شرع منتظري في شرح آرائه حيال دور سلطة الرئيس، علق دكتور بهيشتي بالقول: «وجهة نظرك في الجلسة الأخيرة كانت مختلفة!» حينئذ سارع منتظري بالرد قائلا: «كل يوم أنا في شأن!» وهنا رد عليه دكتور بهيشتي أنه «ربما تكون في كل ساعة في شأن!»

 

ودعوني أخبركم مثالا آخر. يقول جلال الدين الرومي: «الصوفي ابن الوقت!» (مثنوي 2/1426).

 ولا يقتصر هذا التوجه على الصوفية الإسلامية فحسب، وإنما يمتد إلى مدارس فكرية وأدبية أخرى. على سبيل المثال، نجد لويجي برانديلو (28 يونيو (حزيران) 1867 ـ 10 ديسمبر (كانون الأول) 1936) وهو كاتب مسرحي وروائي وكاتب قصة قصيرة إيطالي، حصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1934. من بين مؤلفاته رواية رائعة بعنوان «واحد ولا أحد ومائة ألف». وكانت تلك آخر، وربما أعظم، روايات برانديلو على الإطلاق. خلال الرواية، صب اهتمامه على الشخصيات البشرية، وفكرة ميل البشر إلى تبديل آرائهم لدى مواجهتهم موقفا جديدا. وأعتقد أن نظرية «منطق الموقف» التي صاغها كارل بوبر تدين بالفضل إلى برانديلو.

 

ودعوني أوجز بالقول إن هناك أرضية مشتركة بين شابستاري والرومي وبرانديلو وبوبر. وعليه، من الواضح أن المفكرين والفلاسفة، وكذلك السياسيين، يميلون نحو تبديل آرائهم طيلة الوقت. منذ أكثر من ثلاثين عاما ماضية بعد نجاح الثورة الإسلامية، تمثل التساؤل الجوهري الأول الذي جابه المجتمع الإيراني الذي وقف في تلك اللحظة عند مفترق طرق على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في ماهية دور القائد والمرشد الأعلى، وبالتالي فرض مفهوم «ولاية الفقيه» نفسه. أود التركيز على هذه القضية تحديدا، والإجابة عن التساؤل: هل أدخل الإمام الخميني تغييرات على نظريته بمرور الوقت؟ أرغب في القول إن الإمام الراحل الخميني، باعتباره صوفيا وشاعرا وفقيها، بدل آراءه على امتداد خمسة عقود. وسأحاول التركيز على فكرة «ولاية الفقيه»، ثم أنتقل لمناقشة الأحداث التي شهدتها الفترة بين عامي 1970 و1988. أود تقسيم تطور نظرية «ولاية الفقيه» إلى ثلاثة أجزاء. ويمكن النظر إلى الأجزاء الثلاثة باعتبارها الجذور والجذع والثمار فيما يخص «ولاية الفقيه». يمكننا الإشارة إلى المرحلة الأولى بـ«مرحلة النجف» (1964 ـ 1978). لحسن الحظ، تمت ترجمة كتاب الخميني «الحكومة الإسلامية: حكم الفقيه» إلى الإنجليزية على يد البروفسير حامد ألغار. ويمكن الاطلاع على هذا الكتاب عبر شبكة الإنترنت. ويشكل الكتاب خلاصة وافية لثلاث عشرة خطبة ألقاها الإمام الخميني خلال فترة إقامته في النجف ما بين 21 يناير (كانون الثاني) و8 فبراير (شباط) 1970. تعد النظرية التي يتناولها هذا الكتاب حجر الزاوية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث قام الدستور الإيراني عليها. في بداية الفصل الأول بعنوان «ولاية الفقيه»، يقول الخميني: «موضوع ولاية الفقيه يمدنا بفرصة لمناقشة عدد من الأمور والقضايا الأخرى. تعتبر ولاية الفقيه قضية تجتذب من تلقاء نفسها الموافقة ولا حاجة لطرح أدلة كثيرة لتأييدها، ذلك أن أي شخص لديه إدراك عام بتعاليم وأوامر الإسلام سيوافق دونما تردد على مبدأ ولاية الفقيه بمجرد تعرفه عليه. وسينظر إليه باعتباره ضروريا وجليا دون حاجة لحجة تدعمه». (ولاية الفقيه. الصفحة الأولى) بناء على هذا المنطق وهذه النظرة الفلسفية، راود الخميني الاعتقاد بأن «ولاية الفقيه» جلي تماما بالنسبة لأي مسلم. في ثنايا كتابه، أولى الإمام الخميني اهتماماً خاصاً بالولاية باعتبارها المبدأ الذي تقوم عليه جميع الواجبات الأخرى. ويبدو لي أن الإمام الخميني في كتابه مزج بين أربعة فئات، بمعنى أن أربعة توجهات جرى الجمع بينها: (1) التوجه الصوفي. (2) التوجه الفلسفي. (3) التوجه الفقهي. (4) التوجه السياسي. وتعمل جميعها كأساس للنظرية. وكما تعلمون، فإن «الولي» مصطلح معقد، يحمل أبعادا مختلفة. وتحمل «الولاية» العديد من المعاني المركبة المرتبطة بعمق بتاريخ المصطلح. هذا اللفظ مشتق من اللفظ العربي «ولاية»، والذي يعني كون المرء قريبا إلى وله سلطة على شيء ما. من الناحية الفنية، تعني «الولاية» الحكم أو التفوق أو السيادة. من منظور آخر، تعني «الولاية» الصداقة أو الولاء أو الوصاية. خلال تلك الفترة، ساد لدى الإمام الخميني اعتقاد بأن دور وسلطة الوالي الفقيه تكافئ دور وسلطة النبي والأئمة في المذهب الشيعي.

 

وأعرب عن اعتقاده بأنه «حال إقدام شخص ما مناسب تتوافر لديه شروط القيادة على إقامة حكومة، فإنه سيتمتع بذات السلطات (ولاية) التي حظي بها النبي الكريم (الأنبياء) في حكمهم للمجتمع. ويكون لزاما على الجميع طاعته».

 

في الواقع، إن الفكرة القائمة على أن سلطة الحكم التي تمتع بها الأنبياء والأئمة أكبر من تلك التي حظي بها أمير المؤمنين أو أن سلطة الحكم الخاصة بأمير المؤمنين أكبر من سلطة الفقيه خاطئة. بطبيعة الحال، لا شك أن منزلة الأنبياء والأئمة أعلى من العالم بأسره. ومن بعدهم نجد أن منزلة أمير المؤمنين أكبر من كل الآخرين. بيد أن المنزلة الروحية السامية لا تعزز سلطات الحكم، ذلك أن ذات السلطات التي تمتع بها النبي الكريم والأئمة في تنظيم الجيوش وتولية الحكام وجمع وإنفاق الضرائب لصالح المسلمين منحها الله للحكومة الحالية. لكن دون نعت الشخص الذي يتولى هذه المسؤولية بأنه «فقيه عادل».

 

عندما نقول إن سلطة النبي الكريم والأئمة هي ذاتها سلطة الفقيه العادل خلال فترة التخفي، فإنه لا ينبغي على أحد السقوط في خطأ القول إن منزلة الفقيه مكافئة لمنزلة الأئمة والنبي الكريم. ويكمن السبب وراء ذلك في أننا لا نناقش منزلة الأفراد، وإنما واجباتهم ومسؤولياتهم. إن «الولاية» تعني الحكم والسيطرة على مقاليد الأمور داخل بلد ما وتنفيذ التعاليم السماوية، وهي مسؤولية على درجة كبرى من الأهمية والخطورة. إلا أن ذلك لا يعني أن الشخص الذي يتقلد مسؤولية غير عادية يرتفع إلى مكانة أعلى من حدود البشرية، بمعنى أن السلطة التي نناقشها تعني الاضطلاع بالحكم وتنفيذ الشريعة، الأمر الذي يتعارض مع ما يظنه الناس، وهو أنها منزلة كبيرة وفضل. في الواقع، إنها مسؤولية جل خطيرة (ولاية الفقيه ـ صفحتا 92-93).

 

من بين مسؤوليات الفقيه، إذا ما أقدم رجل على معاملة زوجته على نحو غير صائب، فإنه ينصحه في البداية، ثم يعاقبه، ثم إذا ما رأى أن الأمور لن تتحسن، يفصل بينهما بالطلاق. وأنتم تتفقون معي بالتأكيد أن تلك السلطة تندرج تحت مسمى ولاية الفقيه. إن ولاية الفقيه هبة منحها الله للمسلمين («صحيفة نور»، المجلد 10، صفحتا 87 – 88).

 

المرحلة الثانية: باريس وقم (1978 ـ 1979)

 منذ بداية اندلاع التظاهرات في قم حتى انتصار الثورة الإسلامية وموافقة مجلس الخبراء على الدستور الجديد، لم يتحدث الإمام الخميني عن «ولاية الفقيه»!

 

كان واضحا أن الإمام الخميني القائد الأول دون منازع للثورة الإسلامية، ما يعني أن النظرية التي وضعها أصبحت قائمة على أرض الواقع. وما أقصده هنا أن النظرية والتطبيق اختلطا ببعضهما بعضا، وباتا أشبه بوجهين لعملة واحدة. إلا أنه خلال تلك الفترة، لم يشر الإمام الخميني إلى نظريته. والتزم الصمت الكامل حيالها! ولم يقتصر الأمر على عدم إشارة الخميني إلى «ولاية الفقيه»، وإنما امتد كذلك إلى أقرب معاونيه أمثال منتظري ومطهري وبهيشتي، إلى جانب هاشمي رافسنجاني، الذين التزموا جميعا الصمت تجاه النظرية التي تقوم عليها الثورة الإسلامية. ولهذا، صرح آخر رئيس وزراء في عهد الشاه محمد رضا بهلوي ـ شابور بختيار ـ بأن الحكم الإسلامي صورة مجهولة تماما من صور الحكم.

 

أعتقد أن الإمام الخميني وتلاميذه المقربين منه الذين أسسوا مجلس الثورة كانوا على مستوى رفيع من الذكاء لإدراكهم أن الترويج لنظرية «ولاية الفقيه» لن يكون أمرا ملائما آنذاك. جدير بالذكر أن جلال فارسي ـ أحد المفكرين البارزين من أبناء معسكر المحافظين ـ صرح في لقاء أجرته معه صحيفة «أبرار» بأن الإمام الخميني خدع الغرب! وأضاف أنه في الوقت الذي ركز الخميني على الديمقراطية والحرية، حتى من خلال الدفاع عن الجمهورية، لم يكن في حقيقة الأمر مؤمنا بهذه الأفكار، وإنما كان الأمر برمته تكتيكا ذكيا، وكانت إستراتيجيته الحقيقية إقرار مبدأ «ولاية الفقيه».

 

ينطوي هذا الحكم على أهمية كبيرة، بالنظر إلى أن فارسي تولى مهمة تحرير خطب الإمام الخميني حول «ولاية الفقيه» عام 1970، ما يعني أن الكتاب تمت كتابته بصورة أساسية على يد فارسي، بناء على خطب الإمام الخميني. ونشأ جزء كبير من الجدال حول النجاح الذي حققه الكتاب من قدرته على الإقناع والمهارة السياسية وقوة أسلوب كاتبه، الذي كان يجري النظر إليه بوجه عام باعتباره زعيم الثورة الإيرانية «بلا منازع». ويشدد الكثير من المراقبين للثورة الإيرانية على أنه في الوقت الذي جرى توزيع الكتاب على المجموعة الرئيسة من أنصار الخميني داخل إيران، حرص الخميني ومساعدوه على عدم نشره أو الإعلان عنه أو عن فكرة «ولاية الفقيه» على نطاق أوسع لإدراكهم أن المجموعات التي تمثل أهمية جوهرية لضمان نجاح الثورة ـ العلمانيين والإيرانيين من أنصار التوجهات الإسلامية الحديثة ـ من المحتمل أن تعارض حكم رجال الدين بقوة. وعليه، لم يتم الإعلان عن مبدأ «ولاية الفقيه» على الرأي العام ودمجه في الدستور الإسلامي الجديد سوى بعد إحكام المجموعة الأساسية من أنصار الخميني قبضتهم على السلطة بالبلاد. المثير أنه في إطار المذكرة الخاصة بالدستور الجديد التي أعدها دكتور حسان حبيبي، لم يرد أي ذكر لنظرية «ولاية الفقيه».

 

المرحلة الثالثة: 1980 ـ 1988:

خلال العقد الأول من عمر الثورة الإسلامية، بدل الإمام الخميني توجهاته إزاء بعض القضايا المهمة، فمن ناحية، غير الإمام وجهة نظره إزاء الموسيقى والسينما. ومن ناحية أخرى، اقترح فكرة بالغة الأهمية، ألا وهي أن بمقدور ثلثي أعضاء البرلمان تمرير قانون يتعارض مع الدستور، وكذلك مع الفقه والشريعة. وبعد وفاة الخميني، تمت إضافة كلمة واحدة لتفسير حكم الفقيه، وهي «الاستبداد»! وكانت تلك بداية قصة جديدة في إيران. وتعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة والأزمة الراهنة في إيران نتاج وثمرة الاستبداد.

الشرق الاوسط

 

في المثقف اليوم