اخترنا لكم

الأخلاق والسلوك الإنساني

أمل الوصول إلى المثالية في تهذيب السلوك الإنساني، فكرة براقة لم يتخل عنها الإنسان يوماً، فهل من «كتالوج» محدد للسلوك الإنساني وفق ضوابط قيمية ثابتة؟ في تفسير الاختلاف الحاصل بين القيم الأخلاقية، وشكلها النهائي المنعكس على هيئة سلوك إنساني، نقول بأن الأخلاق وإن مثلت سلوكاً فردياً، إلا أنها تمثل في صورتها العميقة خلاصةً مكثفةً للقيم المجتمعية التي سادت حتى باتت متبناة وثابتة، كما تعتبر طرفاً دقيقاً من خيط واضح يقودنا لقراءة تاريخية أخلاقية منتمية لعصر محدد بظرفياته التي آلت لصناعة أخلاقية موائمة، وهذا ما يثبت ويدعم فكرة النسبية حتى في الأخلاق.

هذا السياق يشير إلى اختلاف «مساحاتي» بين الوجود القيمي العام والسلوك الأخلاقي الخاص، فالقيم وترجمتها كأخلاق ومبادئ تشكل مظلة واسعة، وفي هذا السياق فقط يمكن اعتبارها ذات قيمة «مطلقة»، أما إذا تبلورت وتولدت على هيئة سلوك فإنها تتجه لتكون نسبية متغيرة وخاضعة للمعطيات المرحلية، وبالتالي فهي تفسر صيرورة التغير الأخلاقي التاريخي، بغض النظر عن اشتراكها مجتمعةً في الحاجة لحالة عامة من الثقافة الأخلاقية المشتركة باعتبارها صمام أمان الاستقرار والاستمرار.

التحدي الأبرز الذي يواجه الإنسان في منظومته الأخلاقية، وبصدد الاسترسال التاريخي، هو فهمه لطبيعة مصدر القيم الأخلاقية، تماماً كما يؤمن بضرورة وجود الأخلاق العامة، أو القيم الثابتة التي لا تتبدل ولا يمكن التنازل عنها، لا سيما أن وعي الذات بمصدر تلك القيم سيثبت من دعائم احترامها، وإدماجها في مختلف مظاهر حياته، وطبائع سلوكياته. وفي حين انقسمت الآراء المفسرة لمصدر القيمة الأخلاقية، فإن هناك آراء أخرى تجاوزتها ولم تتوقف عند تقييد أحدها، إذ ذهب البعض لاستقاء الأخلاق من مصدر ديني بحت، باعتبار أن القيم الأخلاقية تستمد إلزامَها وقوتَها وحقيقتَها وطبيعتها من الله. بينما يعتمد رأي آخر على القوة النفسية باعتبار بنيتها هي المتحكم الرئيس في بث الأخلاق ووجودها في الإنسان. فيما حاز الجانب الاجتماعي ترجيحَ القائلين بأن الأخلاق وتثبيت قيمها لا يكون إلا من خلال إجماع اجتماعي يختص به كل تكتل اجتماعي بصيغ مفارقة لغيره، سواء اتسعت دائرة تلك المفارقات أو ضاقت. ويمثل هذا الرأي قطاعاً محدوداً، لكنه أساسي في سياق الحديث عن الدافع التاريخي الذي أيده العديد من المفكرين باعتباره مصدراً للقيمة الأخلاقية مرتبطاً بالتقدم في خط مسار التاريخ الذي يحمل معه تطويراً للقيم في كل طور من أطواره. بينما يغلب الجانب الطبيعي على القائلين بنمو غرسة القيم الخلقية من خلال نسق تطوري طبيعي قائم على مبادئ مختلفة كالاصطفاء الطبيعي ونظرية الصراع من أجل البقاء. ويتشابه هذا الطرح مع الطرح الذي اعتمد في بنية القيم الأخلاقية على الوضع الاقتصادي، لاسيما لاتفاقهما على عنصر القوة، فالأخير يؤمن بتحديد القيم الأخلاقية من خلال التموقع الحقيقي على سلم الاقتصاد وقوته التي أثبتت تبايناً داخل المجتمع الواحد بين أخلاق الطبقة الفقيرة وأخلاق الطبقة الثرية، وهذا وجه واحد للفرق الأخلاقي بين المجتمع المتباين في المكانة الاقتصادية.

إن إنزال كافة المعطيات السابقة على الوجود الأخلاقي، يدفع للقول بأن الاعتماد الكلي على أساس من تلك الأسس قد لا يبدو كافياً في تفسير نشأة الأخلاق ومنبع القيم، وهذا ليس بجديد، بل إن الكثير من المفكرين والفلاسفة أكدوه، مشددين على استحالة فكرة قيام الأخلاق على أساس منفصل لا علاقة له بغيره، وهي الفكرة التي وافقها الجاحظ وتعدى ذلك بإلغائه فكرةَ تتويج الذات الإنسانية كمنبع للأخلاق والفضيلة، بل ذهب لاعتبار الخطوة الأولى للقضاء على الأخلاق تكون عبر ربطها كلياً بالإنسان، لا سيما أن ضوابط السلوك الإنساني لا يمكن اعتمادها بلون كل ذات، وإلا نشأ التضارب والتعارض المؤدي للهلاك، وقد قال في طبائع الناس: «فلا تنفك طبائعهم من حملهم على ما يرد بهم ما لم يردوا بالقمع الشديد في العاجل (...) ثم الوعد بنار الأبد مع فوات الجنّة، وإنما وضع الله تعالى هذه الخصال لتكون لقوة العقل مادة، ولتعديل الطبائع معونة، لأن العبد إذا فضلت قوى طبائعه وشهواته على عقله ورأيه ألفي بصيراً بالرشد غير قادر عليه، فإذا احتوشته المخاوف كانت مواد لزواجر عقله وأوامر رأيه، فإذا لم يكن في حوادث الطبائع ودواعي الشهوات وحب العاجل فضل على زواجر العقل وأوامر الغي، كان العبد ممعناً في الغي والنساء والمكاثرة، والعجب والخيلاء»، وبالتالي فالإنسان يحتاج بشدة لقوة قيمية تعمل على التعديل والتبديل في سياق الطباع الإنسانية بحيث لا تركن لجانب وتطغى على آخر.

حين يستطيع الإنسان إثبات قدرته على الالتزام بالحدود القيمية الأخلاقية، وعدم تجاوزها أو تهميش بعضها، فإن ذلك يعني بصورة فلسفية عميقة احترامه لذاته، وعدم تعريض حقوقه ومكانته الإنسانية للاعتداء، فعند الحديث عن الحريات نقول إن حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر، وبالتالي فهي معادلة تكاملية تبادلية لا يمكن قيام أحد أطرافها ونقض الآخر، فكيف يوفق اليوم الإنسان بين كل ذلك؟

***

د. محمد البشاري

عن الاتحاد الامارتية في 7 ديسمبر 2022

 

في المثقف اليوم