اخترنا لكم

الفلسفة .. التقدم

حين التفكير في بدايات أزمنة جديدة ومُستهل عامٍ جديد، يتصدر مجالَ الرؤيةِ مفهومُ ’التقدم‘. وهو يعني حرفيا السير قُدمًا.. إلى الأمام، ودلاليا: الانتقال إلى وضعٍ وحيثياتٍ أفضل. هذا يعني أن التقدم خاصية، أو على الأقل إمكانية، مفطورة في صلب وجود الإنسان كفردٍ وكنوع. ببساطة، الإنسان يمكن دائمًا أن يكون/ يصبح أفضل.

يبدو العلم الرياضياتي التجريبي، وهو أنجح مشروع ثقافي أنجزه الإنسان، بمثابة التمثيل العينى والتجسيد الماثل لمقولة التقدم في الحضارة. قضاياه قابلة دوما للتكذيب والتعديل والتطوير.. للتقدم. هي فروضٌ ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، وأقدر على التوصيف والتفسير والتنبؤ والسيطرة التكنولوجية. كل يومٍ ثمة جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيتجاوزه ويقطع في طريق التقدم خطوةً أبعد.

ولئن كانت فلسفة العلم قد صاغت البلوَّرة المنهجية والمنطقية للطاقة التقدمية العظمى المتوشجة في بنية العلم، فإن ما نزعمه هنا أن التقدم في توجهات الفلسفة/ أم العلوم يتسارع ويتعاظم الآن حتى أنها تفوق العلم في معدلات التقدم. ولا شطط أو مُغالاة أو عجب في هذا. العجب أننا لا نلاحظ كيف تتقدم الفلسفة الراهنة نحو آفاقٍ جديدة، وطروحات مستجدة، تساؤلات أعمق ومناهج أقدر وأكفأ. وتموج الساحة الفلسفية الآن بتقدمٍ وتقدميات هائلة حقا.

بعبارة وصفية بسيطة وكاشفة، أقول إن معظم الفلسفة الآن، ما يشغل دارسيها وباحثيها وصانعيها، هو تقدميات مستجدة، لم يكن لها وجود في الدرس الفلسفي حين كنتُ إبان سبعينيات القرن العشرين طالبة في قسم الفلسفة بآداب القاهرة، أعرق قسم في أعرق كلية في أعرق جامعة. لم نكن ندرس: الفلسفة الإسلامية المعاصرة، الفلسفة في آسيا وأفريقيا، فلسفة مابعد الاستعمار في أمريكا اللاتينية، فلسفة البيئة، الفلسفة النسوية، الفلسفة التطبيقية والعلاجية، آليات الخطاب والحوار بين الثقافات، أخلاقيات العلم والأخلاقيات المهنية والتواصلية، المنطق اللاصوري والتفكير الناقد، الفلسفة للأطفال.....إلخ. ولا كنا نسمع في دروسنا عن المناهج المدوية الآن: الهرمنيوطيقا أي الفهم والتأويل، التفكيك أي قراءة ما بين السطور قبل السطور نفسها بحثًا عن موجهاتها، الأركيولوجيا أي الحفر والتنقيب التاريخي والمفهومي بحثًاعن المنشأ، بخلاف مناهج التكويد والتشفير والقوة التوليدية للأنساق الاستنباطية في فلسفة اللغة والذهن والذكاء البشري والآلي ......إ ذلكم بعض ما يدرسه طلبة الفلسفة في الجامعات الآن، في الليسانس أو الدراسات العليا.

فضلا عن هذه المتون، انطوت هوامشنا فيما سبق على ثلاثة عُمَد، كان لابد أن يحددَ الموقفَ منها كلُ مَنْ يلج رحابَ الفلسفةِ: الوجودية والماركسية والوضعية. هذه الركائز الثلاث طواها الآن تيار التقدم؛ لتتخلق هوامش فلسفية أكثر تقدمًا، أوسع مراما وأبعد غَورًا. الوجودية غلبها سؤال الهوية الثقافية والموقف التاريخي. أما عن الماركسية التي اقترنتْ في حينها بالموقف السياسي العلمي التقدمي، فقد بات ثمة الطريق الثالث والهندسة الاجتماعية الجزئية والليبرالية الجديدة و’جديدات‘ شتى. وبدلا من الوضعية المنطقية في فلسفة العلم نجد الآن رؤية بانورامية شاملة لظاهرة العلم، لا تقتصر على منطق العلم ومنهجه، بل تضم إليهما الأبعاد الثقافية والحضارية للعلم في تيار التاريخ وفي تفاعلاته مع مكونات الثقافة والمتغيرات الحضارية الفاعلة.

إن الفلسفةُ هي الانعكاس المُجرَّدُ الواعي لحقبتِها الحضارية، ومن ثمَّ كانت هذه التقدميات الخلاقة في أعطافِ الفلسفة الراهنة انعكاسًا ومحصلةً للقفزة الحضارية الشاملة بالانتقال في النصف الثاني من القرن العشرين من مرحلة الحداثة إلى مرحلة مابعد الحداثة التي هي ذاتها مابعد الاستعمار، مابعد المركزية الغربية وواحدية نموذج التقدم الغربي. فقد تخلقت نماذج أخرى عديدة لتجارب التقدم العملاقة، مع المعجزة اليابانية والعملاق الصيني والتصنيع الكوري وقهر الفقر في ماليزيا ومعدل الدخل في سنغافورة ووادي السليكون في الهند وتعاظم الثقل المالي في الخليج العربي وصناعة الطيران في الأرجنتين....إلخ.

نلاحظ أن هوامش المتون المطروحة عاليْه انتهت بتجسيدٍ لفلسفة علم مابعد الوضعية. أما الأمثلة التي طرحناها لفروعٍ الفلسفة المستجدة فبدأت بالفلسفة الإسلامية المعاصرة والفلسفة في آسيا وأفريقيا وفلسفة مابعد الاستعمار في أمريكا اللاتينية. واضح أنها فروع تجسد عصر مابعد واحدية النموذج الغربي. إنه ثراء التنوع البشري الخلاق وتعدد مراكز التقدم، وانبثاقة عصر ’التعددية الثقافية‘. لقد توهجت في مونديال قطر. وتوهج معها ما أسماه فيلسوف الإعلام والتواصلية يورجين هابرماس ’مابعد العلمانية‘، التي تعني تصالحا مع الدين وكفًا عن إدانته باللاعقلانية والتخلف، تطبيقًا لمبدأ بعد حداثي شامل هو قبول الآخر. ولئن قبلتْ الثقافة الغربية شراذم آخرين عجبًا كالمثليين وراغبي التحول الجنسي، فإن الدين بالذات أهم مكونات الثقافة عموما وثقافة الأنا خصوصا.

في هذا تبدو العلمانية التنويرية المقترنة بالحداثة آخر حلقات مواجهة عريضة وكفاح طويل لتحجيم الدين وإقصاء رجالاته، منذ المرتدين في الإسلام والنزعة الإنسانية في عصر النهضة والواحدية المادية ولغة الفلسفة التجريبية التحليلية والبلشفية....الخ. في الصيف الماضي قُدّر لي أن أزور سبع دول أوروبية في غضون شهرين؛ فرأيت في سويسرا شوارع تعج بالراهبات، ودخلت في فينسيا كنائس مهجورة فتحولت بناياتها الثمينة الشاهقة إلى مراكز فنية وثقافية، ولا مشكلة في هذا أو ذاك. ولم أر شارعًا واحدًا في أوروبا يخلو من مُسلِمة مُحجبة؛ وليس يقُض هذا مضجع التقدميين، أو فلول العلمانيين التنويريين. لقد دخلتُ جامعات في 34 دولة، ولم أرَ دولة في العالم لا يزال مثقفون فيها مهمومين بتحجيم الدين وحجب شخوصه، إلا مصر! كم يستبد بي الحُلمُ أن يلحق هؤلاء بتقدميات عصر مابعد العلمانية، مابعد الحداثة والاستعمار وواحدية المركز الغربي، ومابعد سلطان شمال الأطلنطي.. عصر قبول الآخر، والتعددية الثقافية الأكثر عدلا وثراءً.

نعود إلى الفلسفة من حيث هي الفلسفة، أو ’الحكمة‘ بتعبير أسلافنا الإسلاميين، لنجدها تختلف عن العلم في أن الجديد لا يلغي القديم ويحذفه، بل يستوعبه ويتجاوزه. وتلك المساقات التقدمية في الفلسفة، التى ذكرت أمثلة عديدة لها، إنما تُدرَس وتُدَرَّس على خلفية وأصولية من الكلاسيكيات الخالدة عبر مراحل تاريخ الفلسفة الممتد بطول تاريخ الحضارة الإنسانية وعرضِها. فتحمل الفلسفة لدارسيها ومحبيها، وللثقافة الإنسانية الشاملة، وعدًا أكيدًا بثراءٍ عقليّ لا يُضاهى، ولا يكف عن الاستثمار والتنمية في تقدميات لن تتوقف حتى قيام الساعة ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا﴾.

***

د. يمنى طريف الخولي

عن صحيفة الأهرام القاهرية ليوم:

20 – 1 – 2023م

في المثقف اليوم