اخترنا لكم

هوسرل وقراءة التراث السابق

تقوم «فينومينولوجيا» إدموند هوسرل أو الظاهريات على حدس الماهيات خلافاً للعلوم التجريبية الأخرى التي تقوم على وقائع، لذلك يصر هوسرل على ضرورة تحقيق الفلسفة الترانسندنتالية لا بروح نظرةٍ عامة، بل بروح علمٍ دقيق متوجه نحو فكرة الصحة المحددة، معتبراً قبول المذهب الطبيعي كمثلٍ أعلى من أجل إقامة فلسفة علمية يحقق وعياً زائفاً، لأن الفلسفة لديه يجب أن تكون أكثر دقةً من العلوم التي تتميز عنها بالانطلاق من دون افتراضاتٍ سابقةٍ تنأى عن السؤال بحجّة الوضوح.

وظاهرية الفيلسوف الألماني «هوسرل» تختلف عنها لدى «هيغل»، مع امتيازه بقراءة التراث السابق عليه: «لذلك نجده يقرأ التراث الفلسفي قراءةً شديدة الانتقاء: تفضيلٌ مطلقٌ لأفلاطون من القدامى، وتمييزٌ لديكارت بمقام السبق والتأسيس لدى المحدثين، ثم تنويهٌ بطائفة من الفلاسفة مثل ديفيد هيوم وجون لوك وغوتفريد لايبنتز وإيمانويل كانط، وتبجيلٌ للفيف من معاصريه تبجيلاً خاصّاً: برنتانو، أفيناريوس، ديلتاي، هربارت، لوتسه، ماينونغ، بولزانو… فالفينومينولوجيا قد سبق إليها هؤلاء جميعهم بما حدسوا به من معان وأغراض فلسفية قريبة مما أقر به، ولا سيما من حيث النفور من كل أشكال الميتافيزيقا التأملية، والبناءات المجردة التي لا أساس لها في المعطيات المباشرة للتجربة».

«العودة إلى الأشياء عينها» هذا ما لا يتحقق بالموقف الطبيعي، وينقضه هوسرل في كتابه: «أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهراتية» بقوله: «في الموقف الطبيعي نحقق ببساطة، كل الأفعال نحققها بالأفعال التي بفضلها يوجد العالم بالنسبة إلينا، ونعيش على نحوٍ ساذج في الإدراك والتجريب، وفي هذه الأفعال التي تظهر لنا فيها هويات الأشياء والتي لا تظهر فيها فحسب، بل هي تعطى لنا بطابع الموجود، والواقع الفعلي، إننا نحقق خلال ممارستنا للعلم الطبيعي أفعالاً فكرية منتظمة منطقياً - تجريبياً، أفعالاً تكون فيها هذه المعطيات معطاة، وتكون مأخوذة كحقائق محددة، بمقتضى الفكر، وفيها كذلك على أساس مثل هذه الأشياء المفارقة التي جربت وحددت مباشرةً نستنتج أشياء مفارقة جديدة، أما في الموقف الظاهرياتي، فإننا نعطّل بمقتضى الكلية المبدئية تحقيق مثل هذه الأوضاع الفكرية، أعني أن ما تحقق نضعه بين قوسين، فلا ندخل هذه الأوضاع في البحوث الجديدة وبدلاً من أن نعيش فيها وأن نحققها بمنطق الموقف الساذج نجري عليها أفعال التفكر الموجهة إليها، فندركها هي ذاتها بصفتها الوجود المطلق الذي هي إياه. والآن نحن نعيش بإطلاق في مثل هذه الأفعال التي هي من الدرجة الثانية، والتي يكون معطاها المجال اللامتناهي للتجربة المطلقة - مجال الظاهراتية الأساسي».

يتجلى منهجه الظاهراتي بالآتي: «إننا لا نقصد أبداً أن نكتفي بمجرد الألفاظ، أعني بمجرد فهم رمزي للألفاظ كما هو الحال بادئ الأمر في تأملاتنا في معنى القوانين الموضوعة في المنطق المحض، إن غرضنا هو العودة إلى الأشياء نفسها، فنحن نقصد أن نرفع البداهة، وأن ما يُعطى ها هنا ضمن تجريدٍ بالفعل، إنما هو حقاً وفعلاً، ما تريده الدلالات اللفظية حين تعبّر عن القانون، وأن نستثير الاستعداد فينا إلى الإمساك بناصية الدلالات في هويتها القارة عند التمرس بالمعرفة بمواجهتها، بالحدس الذي يقبل أن يُعاد توليده… إن كل حدسٍ مُعطى أصلي هو مصدر شرعي للمعرفة، وكل ما يعطى إلينا في الحدس على نحوٍ أصلي بفعليته المتجسدة ينبغي أن يتلقى فقط كما أعطي، ولكن دون أن يزيد على الحدود التي أعطي حينها في نطاقها، يتعين أن ندرك أن نظرية ما ليس لها أن تستمد حقيقتها من غير المعطيات الأصلية، كل منطوق يقتصر على إضفاء العبارة على هذه المعطيات بواسطة مجرد التفسير بالدلالات التي هي مضافة إليها، هو - إذاً - بالفعل بدء مطلق مدعو بالمعنى الخاص للكلمة أن يكون أساساً ومبدأً».

الدافع الرئيس لهوسرل: «لا يتأتّى من الفلسفات وإنما من الأشياء والمشكلات. إن الفلسفة إنما هي في ماهيتها علم البدايات الحقيقية، أو علم الأصول».

ولذلك يصرّح في كتابه المؤسس: «مباحث منطقية - مقدمات في المنطق المحض» على انتقاله من «صوري الحساب» و«صوري المنطق» لأسئلةٍ أكثر أساسية، بصدد ماهية صورة المعرفة بافتراقها عن مادة المعرفة، وعن معنى الفرق بين التعيينات والحقائق والقوانين الصورية (المحض) منها والمادية، و«حتى يكون ثمة علم، يجب أن يكون ثمة وحدة معينة في تعالق التعليلات، ووحدة معينة في تراتبها».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن الاتحاد الاماراتية في يوم: 13 ديسمبر 2022

 

في المثقف اليوم