اخترنا لكم

الهوسُ الجميل

يستعرض الكاتب العربي المصري المعروف أنيس منصور في كتاب طريف له عنوانه 55" مشكلة حب"، معاناة امرأة جراء محبة زوجها للكتب، ويورد في استعراضه قول المرأة إن زوجها ملأ البيت/ بيتهما المشترك، بالكتب وإنه يصرف معظم راتبه في شراء الكتب التي لا يقرأها، وتطلب تلك المرأة من منصور أن يرشدها إلى الحل. تذكرت هذه المشكلة وأنا أطلع على تفاصيل الببلومانيا أو هوس اقتناء الكتب، الذي أصيب به الكثيرون من المثقفين ومحبي الثقافة، منذ أزمان بعيدة ارتبطت بظهور الكتاب وبلغت إحدى ذراها العالية، كما تذكر مصادر متوفرة، بعد انتصار الثورة الفرنسية، وللحقيقة نقول إنه يمكن اعتبار هذا الهوس ظاهرة عالمية وإنه يوجد هناك الكثيرون من المهووسين بالكتاب وعوالمه الخاصة المبهرة .. لأصحابها خاصة.

فيما يلي أورد بعضًا من المعلومات وهي كثيرة عن مهووسي الكتب، المُحبين الحقيقيين للكتاب، وليس أولئك الذين تحدثت عنهم زوجة المهووس المصري، ففي أدبنا العربي القديم يظهر أبو عثمان ابن بحر الجاحظ، وهو أديب العربية الخالد وحامي حياض لغتها، واحدًا من هؤلاء المهووسين الجميلين، وورد في مصادر تحدّثت عنه وروت أخباره حكايات غريبة لا يُستبعد أن تكون موضوعة ولكنها حافلة بالدلالات، من هذه الاخبار انه طلب من والدته وهو لما يزل في العاشرة من عمره أن تأتيه بالطعام، فاتت له والدته بكومة من الكتب وقلت له بإمكانك أن تأكل، فما كان منه إلا أن أرسل نظرة غامضة نحوها وشرع في قراءة أحد الكتب التي قدمتها إليه. وهناك خبر آخر يتعلق بالجاحظ ذاته يقول إن نهايته كانت على يد الكتب التي انهالت وتساقطت عليه في شيخوخته. أما أبو فراج الاصبهاني صاحب كتاب "الأغاني" البارز في تراثنا العربي القديم، فيقال إنه كان ينقل كتابه من مكان إلى آخر مستخدمًا اثني عشر جملًا.

في الثقافات الأجنبية الأوروبية خاصة اهتم عامة الناس وخاصتهم على حد سواء بالكتاب، وطالما تحدّث أصدقاء من بلادنا كانوا هناك عن انبهارهم بالإقبال الشعبي الشديد على الكتب، ففي كل مكان في محطة الباص وخلال تنقل الناس في وسائل المواصلات المختلفة، بإمكانك أن ترى الكثيرين وبيدهم كتاب يقرؤون فيه مقلبين صفحاته، ويبرز من هؤلاء الكثير من الكتاب والمبدعين أشير إلى عدد منهم، فقد عُرف عن الفيلسوف الألماني الشهير شوبنهور، أنه كان مُحبًا عاشقًا للكتاب، ومما ضمّنه كتابات له قام بترجمتها الكاتب المثقف المصري شفيق مقار نقرأ قوله إن امتلاك الكتاب لا يعني قراءته، بمعنى أن قراءة الكتاب شيء وامتلاكه شيء آخر. وفي هذا السياق أذكر أن الكاتب الإنجليزي كولن ولسن صاحب كتاب "اللامنتمي"، يذكر في كتابه السيَري اللافت "رحلة نحو البداية"، أنه عندما توفرت لديه الأموال أقبل على شراء الكتب واقتنائها وكأنما هو يريد أن يشفي غليل حرمانه السابق مما أحب ورغب في قراءته في سنواته المتشردة الفقيرة الأولى. في المقابل لكولن ولسون نقرأ ان الكاتب الارجنتيني جورج لويس بورخس، كان محبًا كبيرًا للكتاب وانه عندما زحفت العتمة نحو عينيه وحلّ به العمى كان يطلب من آخرين أن يقرؤوا له، والطريف ،ن البرتو مانغويل، صاحب الكتب العديدة عن القراءة وأهميتها في بناء شخصية الانسان السوي، كان ابرز من قرؤوا له بل كان قارئه الرسمي. ناهيك عن أنه عمل أمينا لمكتبة وقضى أفضل سنوات عمره وأيامه قريبًا من كتبه واوراقه. ويبرز في هذا السياق الكاتب الفرنسي جان جينييه الذي زار مُخيمي صبرا وشاتيلا بعد المجزرة الرهيبة فيهما وقدّم شهادة تنزف ألمًا عمّا رآه فيهما. فقد كان هذا الكاتب الشاعر مهووسًا بالكتب ويقال إنه قضى فترات لا بأس بها في السجون جراء سرقته للكتب من المتاجر والمكتبات العامة وكل مكان وصلت إليه يده.

أورد هذه المعلومات المقتضبة وهي نتف وقليل من كثير، للإشارة وليس للحصر، فمعظم الكتّاب الأوربيين كانوا مهووسين بالكتب والقراءة وما هؤلاء، اقصد من ذكرتهم الا عينات. أما في أدبنا العربي الحديث بإمكاننا أن نشير إلى الكاتب العربي المصري أيضا عباس محمود العقاد، صاحب كتاب "ساعات بين الكتب"، وإقباله الأسطوري على القراءة المتبحرة المتعمقة في مختلف المجالات والمواضيع، خاصة الفكرية والأدبية، ومما يؤثر عنه نورد قوله إنه أفضل لك أن تقرأ كتابًا جادًا ثلاث مرات من أن تقرأ ثلاثة كتب!! وفي هذا السياق يبرز اسم الكاتب المتألق توفيق الحكيم فهو يشير في كتابه "زهرة العمر"، إلى ولعه بقراءة الكتب ويضمّن كتابه هذا رواية طريفة تقول إنه استضاف في بيته صبية فرنسية إبان إقامته في فرنسا ولاحظ انها تقرأ الكتاب تلو الكتاب بسرعة ونهم، في حين أنه هو كان يقرأ بترو وأناة، رغبة في المعرفة والاستزادة منها. الشاعر عبد الرحمن صدقي وهو كاتب مجيد أيضا، وضع كتبا لافتة عن الشاعر الفرنسي البارز شارل بودلير، صاحب "ازهار الشر"، وعن الشاعر العربي الخالد الحسن بن هانئ، أبي نواس، يذكر في كتابه "من وحي المرأة"، الذي كرّسه إضافة إلى عدد آخر من كتبه للإشارة إلى زوجته الراحلة، رفيقة الكتاب والقراءة كما يصفها، يذكر أنه كلّما كان يسرح بأفكاره في عالم الرحيل والموت الذي لا بدّ منه كان يرسل نظرة آسية إلى مكتبته الخاصة العامرة بالكتب متحسرًا على ما لم يقرأه مما ضمته مكتبته من كتب. كذلك يقول الكاتب المفكر عثمان أمين في كتاب فلسفي لافت له عنوانه "الجوّانية"، ان الكتاب هو حياة وثمرة طيبة المذاق، وانه يتمنّى لو أن الوقت والعمر أتاحا له أن يقرأ أكثر وأكثر وأن يقضم من تفاحة القراءة أكثر ما يمكنه. وأشير هنا بنوع من الطرافة إلى ما يذكره الكاتب الناقد الفني جليل البنداري في كتاب له عنوانه "لقاء بهم "،عن الفنان المغني عبد الحليم حافظ فهو يذكر أنه كان لصًا محترفًا ظريفًا  للكتب، لا سيّما من الأصدقاء والاحباء الذين يقوم بزيارتهم!!

في ساحتنا العربية في البلاد، أشير الى عدد من مهووسي الكتب الذين تصادقت معهم وعايشتهم عن قرب، وهم المرحومون: نواف عبد حسن، فاروق مواسي ومحمد حمزة غنايم، فقد كان أولهم محبًا متيمًا بالكتاب، ونادرًا ما رأيته دون أن أرى كتابًا في يده أو تحت ابطه، وكان نواف يمتلك مكتبة جيدة جدًا، أما فاروق مواسي فقد امتلك مكتبة كبيرة وكان كلما حللنا زوارًا عليه فضل الجلوس فيها والحديث عما تضمنته من كتب، وأذكر بكثير من المحبة أنني كلّما كنت أذكر له كتابًا مؤثرًا مثل كتاب "الفن والمجتمع عبر التاريخ" لارنولد هاوز الذي ترجمه إلى العربية المثقف العربي المصري البارز فؤاد زكريا، أو كتاب "ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر" لعبد الغفار مكاوي، كان يتوجّه إلى أحد رفوف مكتبته ليتناول نسخته الخاصة مما أشير إليه من الكتب الفريدة في نوعها. وكان فاروق منظّمًا ومرتبًا وقد أولى الكتاب المحلي الصادر في بلادنا اهتمامًا خاصًا قلّ نظيره. أما محمد حمزه غنايم طابت ذكراه فقد كان مهووسًا بالكتاب دائم الإبحار في عوالمه.. آفاقه وأبعاده، وأذكر أنه كلّما كان يزورنا في الناصرة، كان يتوجّه إلى مكتباتها العامرة في حينها ليقتني كل ما يلفت نظره ويستحوذ على لبه من الكتب غير عابئ بتوفر المال لديه أو لا.. وقد أورث ابنه طيب غنايم هذه الخلة.

في الناصرة أشير إلى عدد ممن عاشوا هوس الكتب أحدهم انا كاتب هذه السطور ومنهم الصديقان عطا الله جبر وجميل ارشيد، بالنسبة لي أذكر أنني بعد استماعي في طفولتي المبكرة إلى عدد من الحكايات الشعبية جن جنوني فرحت أبحث عن المزيد من الحكايات والروايات في الكتب وفي كل مكان تصل إليه يدي، وأذكر بالمناسبة أن الكتب الأولى التي قراتها عادة ما كانت بلا غلاف او أوراق أولى أو أخيرة، لأنني كنت اعثر عليها في هذا الشارع او ذاك ملقاة هنا أو هناك وتنتظرني لأخذ بيها وأجلدها وأعتني بها قارئًا نهما. بعدها تعرفت إلى مكتبة مجلس عمال الناصرة على اسم فرانك سيناتر، وهناك ارتبطت بعلاقة كُتبية بالأخ جميل ارشيد، فرحنا نعبّ من عالم الكتب كما يعب الظامئ الصديّ. وأذكر هنا بكثير من الود أن جميل ارشيد كان ذواقة ذا معرفة متعمّقة بالكتاب وعوالمه الرحيبة، وكان أشبه ما يكون بطائر لا يحط الا على قمم الأشجار وأعاليها الشاهقة، أما عطا الله جبر فقد جرى وراء الكتاب طوال أيام عمره وما زال يجري بقوة مائة حصان، وأكثر. وهو يمتلك مكتبة غنية جدًا ومن الصعب عليه أن يتنازل عن كتاب منها.

الببلومانيا أو هوس الاستحواذ على الكتب، هو ظاهرة عالمية، وبإمكان الواحد منا أن يلمسها في هذا المكان أو ذاك لدى هذا الشخص المثقف أو ذاك أو حتى لدى ذاك الانسان العادي، وهو هوس جميل.. وله عاداته وطقوسه المحمودة، وبالعودة إلى تلك المرأة التي شكت زوجها لأنيس منصور فإنني أقول كان الله في عونها لا سيما وأنها لم تكن مهووسة بالكتاب وعوالمه الرحيبة.. شان زوجها اللافت الجميل.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم