اخترنا لكم

هل الأخلاق تورَث؟

تصبح هوية ملامحك واضحةً لدى الآخرين ما إن يتعرفوا على أحد أفراد عائلتك ليبدأ التشبيه والتقريب، فتصل مسامعك عبارات من قبيل: «لديك عينا أمك»، و«أنت تمشي كوالدك تماماً».. إلخ. فهل نحمل بداخل أجسادنا تشابهات أخرى تتعدى الجسد لتشمل سيمفونية إرث الروح أو النفس؟

لطالما تردد على أسماعنا هذا المثل «فرخ البط عوام»، للتعبير عن الصفات التي يرثها الإنسان من أحد والديه، إذ جاءت مناسبة هذا المثل الشعبي من بطة تركت بيضتين قبل وفاتها، وأكملت مهمتها في الرقود عليهما دجاجةٌ كانت تنتظر فقس الفراخ، ثم دارت الأيام واقتربت العائلة من بركة ماء، فاكتفى الجميع بالوقوف إلى جانبها، ما عدا البطتان اللتان قفزتا دون سابق تدريب وشرعتا في السباحة، فقيل فيهما: «فرخ البط عوّام». وبتكبير هذه الصورة على المجتمع الإنساني، فهل كلنا يعوم على شاكلة والديه؟

لقد أوردَ العلمُ الحديثُ العديدَ من الإشارات لتأثير العامل الوراثي في سلوك الإنسان واختياراته، وذلك يكون صحيحاً إذا ما وضعنا مختلف مفاهيم الأخلاق وما يسمى بأعمال القلوب، ومجموع الطباع النفسية والعقلية، في سلة جامعة دون التفريق بينها، وهو أمر بعيد عن الدقة، فالعامل الوراثي قد يتسرب للأبناء في الجانب البدني الفسيولوجي، لكن يصعب أن يكون محرك السلوك الأساسي والتوجه الفكري النابع من الإرادة الحرة.

ولعل ما ورد في القصص القرآني يوضِّح أن هذه الأمثال وما على شاكلتها قد يصح من باب المصادفة أو الاكتساب السلوكي من البيئة التربوية لا أكثر، فهذا نبي الله نوح عليه السلام، لم تكن لصفاته وأخلاقه ونبوته دور في تقرير مصير ابنه الذي غرق بالطوفان مع الكافرين. فتحديد الصفات السلوكية والأخلاقية لا يتلاقى والتناغمية الحاصلة في الجينات وشيفرتها الوراثية (DNA). ولو كان غير ذلك لوجدنا كل بني آدم (عليه السلام) مثله تماماً. والشاهد في هذا الموضع ما للوالدين من صلة حقيقية في توريث الأخلاق، ولكن بكيفية سلوكية معاشة (التربية)، بدلالة قوله تعالى في سورة مريم: «يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا»، أي لم يعرف عنهما الفجور ولم تترعرعي في بيئة سيئة، وهنا استنكار قومها من هكذا فعل (كما ظنوا) في نشأتها النفسية المنعكسة على السلوك. وبذا يكون القياس على أخلاق البيئة المحيطة كعامل توريث سلوكي وقيمي، ومع ذلك يبقى للفرد حيز الفعل والإرادة المنوطة وما يناط بها من مسؤولية أخلاقية. ولذا يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: «وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

وحول حرية الإنسان أو تقييده تناقشت الفلسفات الإنسانية كثيراً، ويبقى في الأخير أن الإنسان مخلوق مولود على الفطرة، حر الاختيار، متأثر بحزمة الاستعدادات الذهنية والفكرية والبدنية. وكما يقول الراغب الأصفهاني، فإن: «الإنسان يرث من أبويه آثار ما هما عليه من جميل السيرة والخلق وقبيحهما، كما يرث مشابهتَهُما في خلقهما، ولهذا قال الله تعالى: (وكان أبوهما صالحاً). وعلى نحوه روي أنه قال في التوراة: إِني إذا رضيتُ باركتُ، وإِن بركتي لتبلغ البطن السابع، وإذا سَخِطْتُ لعنتُ، وإِن لعنتي لتبلغ البطن السابع.. تنبيهاً على أن الخير والشر الذي يكسبه الإنسان ويتخلق به يبقى أثرُه موروثاً إلى البطن السابع». وفي ذلك تنبيه قوي لما قد يترتب على توارث الأثر الأخلاقي والسلوكي.

إن تأمل هذه المحطات الساعية لفهم الصورة السلوكية، يثبت أننا لا نطيق ازدياد التأثير الاكتسابي على الفطري حتى يحيد به لمناطق قيمية مبهمة، مبتورة الأصل وفاقدة الوصل.. ولذا فلا بد من التشبث بالفهم الثقافي الأخلاقي للسلوك الإنساني.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الامارتية ليوم: 15 فبراير 2023

في المثقف اليوم