اخترنا لكم

هل نُسقط لأجل عيون الإلحاد أهم قواعد منهج العلم التجريبي؟!

العلم التجريبي الحديث هو المنهج العلمي المتبع اليوم للتحقق من صحة فرضية ما، فإما أن يثبتها فتغدو حقيقة علمية أو ينفي صحتها فتصبح معلومة خاطئة.

التولد التلقائي الفرضية القديمة والجديدة

ظهرت فكرة التولد الذاتي قديما عند الفلاسفة اليونان، فكانوا يعتبرون أن اليرقات التي تظهر على اللحم المتعفن دليلا على التولد والنشوء الذاتي للكائنات الحية من مادة غير حية. لكن في عام 1668 قام فرانسيسكو ريدي بتجربة تحت شروط صارمة أثبت من خلالها أن اليرقات ظهرت على اللحم المتفسخ لأن الذباب وضع بيوضه عليه.

لتأتي بعدها تجربة باستور عام 1859 التي حسمت الخلاف حول مسألة التولد الذاتي (التي افترضت أن سبب تعكر مرق اللحم المعقم والمعرض للهواء بعد فترة هو تولد كائنات دقيقة ذاتيا من المرق نفسه) فقام باستور بغلي مرق لحم في حوجلة لها رقبة طويلة محنية للأسفل كالبجعة كي يمنع الجزيئات الساقطة الموجودة في الهواء من الوصول إلى المرق بينما تسمح بالتدفق الحر للهواء.

وكانت النتيجة أن بقي المرق في الحوجلة (القارورة الغليظة الأسفل أو الصغيرة الواسعة الرأس) بدون تعكر بالمقارنة مع حوجلة أخرى عادية تسمح بوصول الجزيئات الساقطة في الهواء للمرق واستنتج بذلك أن الكائنات التي نمت إنما هي أحياء دقيقة مصدرها الهواء ولم يكن تولدا ذاتيا.

فرضيات النشوء الذاتي والتلقائي القديمة قد عفى عليها الزمن، وحولها العلم التجريبي من فرضية إلى خرافة. لكن مع بداية القرن الماضي عادت فرضية التولد التلقائي (Abiogenesis) من جديد لتفسر ظهور الخلايا الأولى التي كانت برأيهم بذرة الحياة بكافة أشكالها على الأرض، فظهرت فرضية الحساء البدائي (Primordial soup) في عام 1936، تشير هذه الفرضية إلى أن الخلايا الحية الأولى نشأت في حساء بدائي يحوي مزيجا من الجزيئات العضوية.

في عام 1986 طُرحت فرضية (RNA world) التي ترى أن الحياة على الأرض قد بدأت بجزيئات RNA ذاتية التكاثر التي أدت في النهاية إلى ظهور الخلايا الأولى، ولكن مصدر RNA نفسه بقي لغزا، وفي عام 2003 طرح فكرة أن الخلايا الأولى نشأت من أغشية دهنية غلفت جزيئات عضوية بسيطة ووفرت بيئة مستقرة للتفاعلات الكيميائية العشوائية، ومنذ بضعة أعوام اقترحت فرضية التركيب (Composome)، وما زالت الفرضيات تتوإلى إلى الآن لتفسر أصل الحياة على الأرض.

إن القاسم المشترك بين هذه الفرضيات هو أن الخلايا الأولى ظهرت تلقائيا عن طريق التفاعل العشوائي للجزيئات البسيطة، واستمر التفاعل والاتحاد العشوائي لها عبر ملايين السنين لتشكيل جزيئات عضوية أكثر تعقيدا تستطيع حمل المعلومات ولها القدرة على نسخ نفسها، ثم أحيطت بغلاف خاص بها يفصلها عن الوسط المحيط واكتسبت القدرة على التكاثر وإنتاج الطاقة اللازمة لها، وهكذا ظهرت الخلية الأولى على الأرض.

منهج العلم التجريبي الحديث وشرط القابلية للتكرار

إن العلم التجريبي الحديث حال دون وصول فرضيات التولد التلقائي إلى مستوى الحقيقة العلمية. لأن إحدى القواعد الأساسية التي يفرضها العلم التجريبي هو أن تكون التجربة قابلة للتكرار، فعندما تعاد التجربة بنفس الشروط والظروف يجب أن نحصل على نتائج مماثلة، لم يكن بإمكان منظري التولد التلقائي تكرار هذه التجربة، ولم يستطع العلماء في المختبر تحت ظروف مختلفة إلى الآن أن ينتجوا خلية حية، ولم يتمكنوا عن طريق الخلط العشوائي لمزيج الجزيئات البسيطة (الكربون والهيدروجين والنتروجين والأكسجين…) من تصنيع شريط واحد من DNA يحمل معلومات لشفرة بروتين، ولا حتى إنتاج بروتين وظيفي من البروتينات الموجودة في أبسط الخلايا.

تعلل منظري فرضية التوالد الذاتي أن شرط تكرار التجربة الذي يفرضه المنهج العلمي الحديث غير قابل للتطبيق بسبب عامل الزمن، فهم يتحدثون عن مصادفة نتجت بعد تفاعل عشوائي استغرق حدوثه ملايين السنين، وهذا لا يمكن تطبيقه بالمختبر لأنه يحتاج إلى زمن هو أطول من عمر البشرية كلها. وعليه لكي تصبح فرضية التولد التلقائي حقيقة علمية لا بد من إسقاط إحدى أهم القواعد الأساسية التي قام عليها منهج العلم التجريبي الحديث ألا وهي شرط تكرار التجربة.

الاحتمال والمصادفة العشوائية

إنه لمن الغريب الاعتقاد بأن الأمر يماثل رمي أحجار النرد ثم تكرار التجربة عشوائيا ملايين المرات. لو أردنا تصنيع حاسوب أو هاتف نقال كالذي بين أيدينا اليوم فهل نحقق الهدف بوضع مزيج من العناصر البسيطة (كربون، هيدروجين، نتروجين، حديد، نحاس وليثيوم…) ثم نحدث تصادما عشوائيا بين تلك العناصر في ظروف مختلفة ثم ننتظر في نهاية الأمر لتنتج لنا المصادفة العشوائية حاسوبا يحتوي على معالج وذاكرة رئيسية (RAM) وشاشة وبطارية بالإضافة إلى برامج تشغيل Windows وحزمة Microsoft Office.

كيف لنا أن نقنع العقل العلمي البحت بأن الزمن كان هو العامل الأساسي وأنه في الأشهر والسنوات الأولى من التصادم العشوائي لن نرى شيئا ولكن بعد مرور ملايين السنين لا بد أن ينشأ هذا الحاسوب المنشود، ولكن عمر البشرية لا يكفي لإحداث هذه التجربة لذا عليك أن تسلم بها فقط.

لو أن واحدا من منظري هذه الفرضيات ذهب ليشتري جهازا ما فإن أول ما يسأل عنه هو ما الشركة المصنعة؟ فهل يخطر بباله ولو للحظة أو يقبل أن يجيبه البائع بأن المصادفة العشوائية هي التي أنتجته ولا يوجد له شركة مصنعة.

إن البيولوجيا الجزيئية بينت أن أبسط الخلايا الموجودة على الأرض هي أكثر تعقيدا من أي حاسوب، وتحتوي مادة وراثية تشفر لمئات البروتينات التي تفاعل مع بعضها البعض لتتمكن الخلية من الحياة والتكاثر. المصادفة العشوائية والاحتمالات لن تتمكن أبدا من إنتاج خلية حية، وعامل الزمن لا يمكن أن يلعب أي دور في ذلك، لذا قام بعض منظري فرضية التولد التلقائي بالقول إن ظهور الخلية الأولى لم يكن على الأرض بل في مكان آخر من هذا الكون الفسيح، ثم انتقل إلى الأرض عبر النيازك من خلال عملية تُعرف باسم (Panspermia)، ولكن هذه الفرضية لا تقدم حلا للمشكلة بل تنقلها إلى مكان آخر.

رغم ذلك تعد فرضية التولد التلقائي من أكثر الفرضيات رواجا ومع كل أسف تُدرج في الكتب المدرسية على أنها حقيقة علمية، مع أن العلم التجريبي الحديث ما زال يحول دون وصولها إلى مرتبة الحقيقة العلمية.

***

يونس حصرية

دكتوراه في العلوم الطبية البيطرية، مقيم في ألمانيا

عن مدونات الجزيرة ليوم: 22/2/2023

................

المراجع

"The Origin of Life" by Leslie E. Orgel.

"The Emergence of Life: From Chemical Origins to Synthetic Biology" by Pier Luigi Luisi.

 

 

في المثقف اليوم