اخترنا لكم

الأخلاق الجاهزة: هل يستطيع الناشطون الثقافيون العرب قول الحقيقة؟

ارتبط مفهوم «المثقف» وهو مفهوم إشكالي وغامض عموماً، بكثير من التصورات الرومانسية، عن دور اجتماعي وفكري وسياسي يشير إلى ضمير أو أمانة فكرية ما. وابتداء من ثمانينيات القرن الماضي على الأقل اتخذت تلك «الأمانة» شكلاً أكثر أخلاقية، إذ بات من المستهجن أن يعبّر «المثقف» عن أمة أو طبقة أو جماعة معينة، لما في ذلك من شبهات قومية وعنصرية وفئوية، لم تعد مقبولة، أو ارتباط بأيديولوجيات باتت تُعتبر متحجّرة. صارت مهمة المثقف ليست أقل من «قول الحقيقة» بوصفه فرداً مستقلاً وحرّاً، ويا حبذا أن تكون «السلطة» هي الطرف المُخاطب بتلك «الحقيقة». المفهوم الغامض صار ثلاثة: المثقف والحقيقة والسلطة.

بالعودة إلى إدوارد سعيد، وهو مبتكر عبارة «قول الحقيقة للسلطة» نجد في الفصل الخامس من كتابه «المثقف والسلطة» المعنون بتلك العبارة، كثيراً من السرد الذاتي والمفاهيم غير المضبوطة، إلا أنه يمكن استخلاص بعض الأفكار الأساسية من النص، منها أن القيم الكونية عن الحقيقة عبّرت في كثير من الأحيان عن نزعة للسيطرة والهيمنة، غربية غالباً، إلا أن هذا كان قبل بروز حركات التحرر الوطني ومثقفيها، الذين وسّعوا القيم الكونية، وأضافوا لها أصوات الشعوب المستعمرة والملوّنة، واليوم وقّعت الدول كلها على شرعة حقوق الإنسان، وغيرها من الاتفاقات التي تصون حقوق النساء والأطفال والعمال واللاجئين، وبالتالي على المثقف أن يتخلّص من تقوقعه على ثقافته وأمته، وأن يوفّق بين الحقائق التي ورثها عنهما، وإدراك اختلاف بقية الثقافات والأمم؛ ومن ثم معالجة ما يتوفّر له من بيانات ومعلومات، رغم نقصها، لإظهار الانتهاكات والمظالم والعدوان ضد البشر، حتى لو كا لانت دولته من ارتكبها، ويعرضها باعتبارها حلقات في سلسلة تاريخية متصلة؛ وبالتالي يجب أن يتخذ المثقف دور الخبير أو تقني المعرفة المحترف، العامل في مؤسسة سلطوية ما، بل المفكر المستقل القادر على قول الحقيقة.

قد يكون هذا سرداً جيداً لأستاذ أمريكي من أصول عربية في حقبة ما بعد حرب الخليج الثانية، إلا أنه يُظهر «المثقف» أشبه بـ»روح حرة» غير مرتبطة إلا بضمير غير مفهوم الجذر والمنشأ، ما يسبغ عليه صفة «رسولية» إلى حد كبير، دون أن يوضح الكيفية التي سيستطيع بها الرسل الكونيون من المثقفين البقاء قابضين على جمر الحقيقة؛ وكذلك المصدر الذي يستقون منه كل ذلك الضمير الحي. في كل الأحوال بات السرد السعيدي قديماً بعض الشيء، رغم تأثيره وحضوره، وأمسى نموذج «المثقف» عموماً منتمياً لبلاغة غير مستحبّة في أيامنا، فيما ظهر نموذج جديد يمكن تسميته «الناشط الثقافي» القابض بدوره على جمر الحقيقة، إلا أنه لا يبذل جهداً نظرياً كبيراً، حتى بالمفهوم السعيدي، لأن الحقيقة «المستندة إلى البيانات» تبدو شديدة السهولة والوضوح في أيامنا. فهل يقول ذلك الناشط «الحقيقة»؟ ومن أين سيأتي بها حقاً ليرفعها في وجه «السلطة»؟

السعيدية الجديدة

يقوم السرد السعيدي عن «الحقيقة» على نوع من الجدل بين الانتماء المحلي والعالمية، فالمثقف عندما يكون جزءاً من حركة تحرر، نضال طبقي، دفاع عن هوية مهمشة ما، يجب أن لا يقتصر على توضيح معاناة الفئة التي ينتمي إليها، بل يربطها بمعاناة جميع البشر، وهكذا نصل إلى كونية مغايرة لكونية الاستعمار، التي لم تر أن الشعوب الخاضعة تمتلك الأهلية التي تخوّلها الحصول على حقوق متساوية. يمكن القول إن هذا التصوّر بات شبه بديهي نظرياً في عالمنا المعاصر، فعمليات «الربط» بين أشكال المعاناة والمظالم كافة، التي يتعرّض لها البشر، تمّت على يد كثير من المفكرين والحركات الاجتماعية، بل باتت لها مؤسساتها القوية، التي تدعم نشاط أي مجموعة مضطهدة، تريد ربط مظلمتها بحقوق كونية. إلا أن نموذج المثقف الفرد، الذي يرفض أن يقيّد ضميره بمؤسسة أو جماعة أو أمة، قد أدى إلى بعض الاختلال في الطرف الأول من المعادلة السعيدية، وهو «الانتماء» وهذا لا يعني أن المثقفين صاروا أقلّ ميلاً لإظهار هوياتهم، بل ربما يكون العكس صحيحاً، وإنما أن ارتباطهم بحقائق وحقوق كونية، باتت معروفة ومحددة بشكل مسبق وجاهز، جعلهم أقل اهتماماً بفهم واقعهم المحلي، مكتفين بإسقاط «الحقيقة» عليه، وبالتالي فإن ما خسروه أساساً هو السياسة، أي فهم توازن القوى، والتركيبات المعقدة للبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي يُخاض ضمنها الصراع الاجتماعي في بلدانهم.

انبنى سرد إدوارد سعيد حول «المثقف» على نوع من النقد لمفهوم «المثقف العضوي» للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، أي المثقف المرتبط بفئة أو طبقة اجتماعية، ويصوغ لها تصورها عن الذات والعالم، في إطار حركة الصراع الطبقي والأيديولوجي الذي تخوضه.

تأثّر المثقفين بتيارات ثقافية وسياسية خارجية ليس أمراً جديداً بالتأكيد، بل ربما كانت الثقافات الإنسانية عبارة عن عمليات ترجمة وتبيئة للمؤثرات الخارجية، وجدل معها، يؤدي إلى تركيبات وتحويرات مبتكرة، إلا أننا، وربما للمرة الأولى منذ نشأة الحيّز العام الحديث، نتعرّف على نمط من النشاط الثقافي، يعتبر أن مهمته الوحيدة هي «التوعية» بالمعنى الناشطي، أي نقل معرفة بحقوق كونية، غير مكتسبة نتيجة فعل سياسي، وإنما متعالية بوصفها آخر ما توصّل إليه «العالم» الذي يعني بالطبع المؤسسات الحقوقية والثقافية الغربية. لا يحتاج «المثقّف» هنا إلى الجدل أو التهجين أو التحوير، فـالحق بيّن ومعروف، ولهذا يصبح «ناشطاً ثقافيا» فهو لا يبذل مجهوداً فكرياً مرتبطاً بحالات سياسية واجتماعية متعيّنة، بل يقوم بمجرد نشاط، يبحث عن داعم، لإيصال «التوعية» إلى مستحقيها.

قد تكون لهذا نتائج مأساوية في دول قمعية مثل الدول العربية، ومنها التنكيل بالناشطين واعتقالهم وقتلهم، لكن اللافت أن الانفصال عن السياسة يجعل الناشطين غير معنيين أصلاً بالبحث عن قوة اجتماعية، أو جماعة سياسية يستندون إليها، قادرة على ضمان أمنهم بالحد الأدنى، ويكتفون بالاستنجاد بالضغط الدولي لتخفيف معاناة زملائهم الأكثر شهرة، والأوسع علاقات. هم جاؤوا بقيمهم من «العالم» وعلى «العالم» أن يحميهم، وإلا سيكون قد خذلهم.

تلك هي النسخة المعاصرة من «قول الحقيقة للسلطة» لكن هل هي حقيقة فعلاً؟

اقتصاد الحقيقة

يبدو أن الدخول إلى الكونية له متطلباته، وأولها أن يثبت الناشط الثقافي اضطهاده، وحرمانه من الحقوق المُعترف بها عالمياً. لا يكفي هنا الموقف أو الرأي، وإنما نمط جديد من «الانتماء» إشكالي جداً، فهو ليس انتماءً موجّهاً نحو الداخل، أي التعقيدات الفعلية للوجود الاجتماعي لجماعة أو هوية ما؛ وإنما نحو الخارج، أي لـ»العالم» الذي «يُمكِّن» بناء على إبراز عناصر ورموز وبيانات معيّنة، يمكن ترجمتها بوصفها انتماءً مضطهداً. لا يشبه هذا أي مفهوم فلسفي معروف عن الحقيقة، فالناشط الثقافي «يبدو» ولا «يكون» بمعنى أن نشاطه الأساسي هو استعراض كل ما يلزم لتأكيد أحقيته بنيل الاعتراف ومن ثمّ الدعم، وليس التعاطي الفعلي مع ما يمكنه استخلاصه وفهمه من عناصر عالمه، ومن ثم التفاعل معه على أساس موقف ما، قابل للمساءلة الاجتماعية والفكرية.

يتعامل الناشط الثقافي مع «أخلاق جاهزة» أي مجموعة تعاليم معممة عالمياً عبر مؤسسات قوية، يمكن اعتبار غض النظر عن موقعها السياسي والأيديولوجي نوعاً من الظلامية، لأنه يقوم على التجهيل بعوامل مادية أساسية فاعلة في الواقع المعاصر. ويمكن القول إن تداول تلك الأخلاق يتم ضمن اقتصاد معيّن للحقيقة، مرتبط بتوزيع للقوة والمنافع المادية والرأسمال الرمزي بين الفئات الأقدر على الاستفادة من العولمة المعاصرة، وما تعمّمه من أيديولوجيات «كونية».

من جديد، ومثل كل العصور السالفة، يخبئ النموذج الرسولي لـ»المثقف» كثيراً من علاقات القوة والهيمنة. ماذا تبقّى إذن من «صورة المثقف» في عصرنا؟

المثقف العامل

انبنى سرد إدوارد سعيد حول «المثقف» على نوع من النقد لمفهوم «المثقف العضوي» للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، أي المثقف المرتبط بفئة أو طبقة اجتماعية، ويصوغ لها تصورها عن الذات والعالم، في إطار حركة الصراع الطبقي والأيديولوجي الذي تخوضه. وإذا كان هذا المفهوم قد عفى عليه الزمن، مع تغير أشكال الإنتاج والتكوينات الطبقية، فإن نموذج المثقف الفرد، الكوني والرسولي، العائد لإدوارد سعيد، تجاوزه الزمن أيضاً، بعد أن تقادمت كونية العولمة نفسها، بكل ما أنجبته من «ناشطين». ربما كان على «المثقف» الحالي أن يكون أكثر تواضعاً بكثير، فهو ليس طليعة طبقة ستقود التاريخ، ولا فرداً يستبطن بذاته الضمير الإنساني، بل مجرد عامل، بين عمّال كثيرين، في مجال إنتاج «غير مادي» صار متداخلاً في كل فروع الإنتاج والاقتصاد المعاصرة. لقد بات «في» الطبقة، وليس جزءاً من «إنتلجنسيا» تكون مع الطبقة أو على رأسها؛ أصبح «كونياً» رغماً عنه، بكل ما تحويه هذه الكونية من تناقضات واستغلال ونفاق.

فئة العمال الثقافيين هذه لا تختلف شيئاً عن بقية العمّال في المجال العاطفي والرمزي والتواصلي. هؤلاء كلهم جزء من طبقة، تمّت فردنة المنتمين إليها، ولا تعي ذاتها وحقوقها، وربما من هنا يجب الانطلاق في البحث عن دور المثقف/العامل.

***

محمد سامي الكيال - كاتب سوري

عن القدس العربي في يوم: الجمعة: 24 مارس / 2023

في المثقف اليوم