اخترنا لكم

الوعي والنسق

يقول المثقب العبدي:

وما أدري إذا يممت أمراً/ أريد الخير أيهما يليني

هل الخير الذي أنا أبتغيه/ أم الشر الذي هو يبتغيني

وفي البيتين مجاهدةٌ متصلةٌ بين حال الوعي بالخير وبين الوقوع في الشر، وكأني بالشاعر يصف حال البشر مع النسق الذي ينتاب سلوكهم ويدير تصرفاتهم حتى لتجد أشدهم وعياً وانفتاحاً في فكره وثقافته ينقلب من دون إدراك منه إلى مستبدٍ ومنحاز وربما عنصري وإقصائي، يحدث هذا وقت الامتحان الدقيق وغير المتوقع كأن يقع في حال استفزاز أو حال مواجهة، حيث يغيب العقل الحاكم ويتحول الحليم إلى جاهل، وللحلم أوقات وللجهل مثلها، كما يقول الشريف الرضي، وهذه هي المنازعة بين خير نريده وشر يريدنا، ويفوز الشر في كثير من الأمور، كما حدث للحارث ابن عبادة الذي سعى للصلح بين المتحاربين وقدم ابنه فديةً للمصالحة وكانت الأمور ستسير بخير لولا ما فعله المهلهل، إذ قتل ابن الحارث وقال له بؤ بشسع نعل كليب مما حول الولد لفديةٍ لنعل كليب وليس فديةً للصلح وإنهاء الحرب، وهنا صرخ الحارث:

لم أكن من جناتها علم الله/ وإني بحرها اليوم صالي

وطلب فرسه النعامة ودخل معها في الحرب والغارات بسبب كلمة فجرت غضبه وحولته من حليم عاقل إلى محارب يشارك في سعير الحرب، وقد كانت نيته إطفاء الحرب بين الأهل.

وهذه قصة صارخة الدلالة عن مفعول النسق في الذهنيات البشرية ومقدرته على اختراق الوعي البشري وتحويله من مسار متعقل إلى مسار طائش فاقدٍ للبصيرة.

وهذا في مصطلح النقد الثقافي هو ما نسميه بالعمى الثقافي حين تكون النسقية المتشيطنة هي الموجهة للتصرفات فيغيب العقل والوعي والحكمة، وتحل أوقات الجهل كما في بيت الشريف، ولا أحد من البشر يسلم من هذه التقلبات بين خير وشر أو لنقل بين الوعي والنسق تماماً كحال الجسد بين الصحة والفيروس، في مغالبة متصلة بين الطرفين، وفي القصص الكبرى للأمم سنرى أن لحظات النسق هي العامل المشترك في صناعة الحروب والفتن والانفصالات في العلاقات والصداقات، وكذلك في المواقف والرؤى، ومنها يأتي تبرير العنف، وكأن العنف هو دفاع عن السلام، أو أن السلام لا يتم إلا عبر العنف، وتكشف عن ذلك محاولة الحارث الذي نوى السلام، فتحول لمحارب مع المحاربين ولم يك من جُنات هذا العنف غير أن العنف طحنه حتى جعله يشهر سيفه، ويتحول من حكيم إلى جذاذ رؤوس.

***

د. عبدالله الغذامي

عن الاتحاد الامارتية في يوم: 25 مارس 2023 02:23

في المثقف اليوم