اخترنا لكم

محمد الحرز: مفردة الحرية.. المسار والتحولات

كيفية طرح القضايا والمسائل الفكرية والاجتماعية والدينية في الشأن العام والدلالات والمعاني التي يتم من خلالها تداول هذه القضايا تختلف من عصر إلى آخر.

لكن قد تكون هذه القضايا إذا ما تم النظر إليها دون تمعّن أو تدقيق هي هي لم تتغير ولم يطلها التحول، سواء على مستوى الدلالة والاجتماع أو المصطلح أو المفهوم.

أليس على سبيل المثال طرح قضايا الحريات في المجتمعات العربية الإسلامية لم تتزحزح قيد أنملة من سياقها العام الذي وضعت فيه: الحرية مقابل الاستبداد. وذلك منذ شيوع ثقافة التحرر من الاستعمار، وشيوع التحرر من الجهل والالتحاق بركب الحضارة؟! لكن المثال هذا لا يصدق سوى على التاريخ العربي الإسلامي لأسباب كثيرة، لا يسع المجال لذكرها هنا ويمكن أن نشير إلى عنوانها العام وهو فقدان العالم العربي الإسلامي طيلة قرون عديدة بوصلته إلى بناء حضارة عالمية جعلت منه عطالة تامة في الفكر والسياسة والاجتماع والاقتصاد، بينما لو تتبعنا مسار هذه القضايا في الحريات على سبيل المثال في التاريخ الأوروبي لرأينا التحولات بائنة وواضحة لا على مستوى المفهوم وتجدده ولا مستوى الرؤية الاجتماعية فقط، وإنما أيضًا على مستوى المعارف والمناهج التي تثيرها هذه الدلالة أو تلك لمفهوم الحريات، فمنذ كشر الصراع الديني عن أنيابه في أوروبا استخدمت مفردة الحرية للتعبير عن حرية المعتقد وتفرق الاستخدام تاليا بين المدونات الفلسفية والمدونات السياسية، وتلونت دلالتها تبعا للمدونة نفسها، لقد ساهمت فلاسفة الأنوار في تطوير هذا المفهوم كما كان (سبينوزا) دافع قبلهم عن حرية الرأي في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) إلى أن وصلنا إلى مطالع القرن العشرين ورأينا تشكل نص الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في إعلانه المشهور في الأمم المتحدة في ديسمبر 1948، هذا المسار في تحولات المفردة في أوروبا لم يكن بسيطا ولم يكن سهلا أيضا. لكن المغذي الأكبر لحراك هذه المفردة هو المناخ العام الذي امتلأ بفكرة الحرية في كل المجالات من الأدب إلى السياسة والفكر والفلسفة والدين والاجتماع، وقد تولدت على إثرها مفاهيم عديدة كالفردانية والعلمانية.. إلخ، لكن السؤال الذي أريد أن أختم بإجابته هذا المقال هو: كيف يمكن الدفاع عن الحريات في عصر السوشيال ميديا إذا ما أدركنا أن الوسائل والتقنيات في هذا الفضاء أعطت الإنسان المزيد من الحريات التي لم يكن يحلم بها يوما ما، وبالخصوص في التعبير عن كل ما يخطر في باله من كلام وسلوك وفعل؟ لو أخذنا تطبيقا واحدا من هذا الفضاء، وليكن على سبيل المثال (التك توك) فأنت أمام واقع افتراضي من أهم سماته أنه لا سمات له، فضاء هلامي لا حدود له ولا حواجز، يختلط فيه السلوك البشري الثقافي بالطبيعي، وبالتالي لا أحد يصغي إلى أحد آخر، الكل يريد الكلام، الكل يريد أن يكون وسط الصورة، هناك قصص واقعية تروى، هناك مواقف حقيقية وأخرى تمثيلية، هناك خبرات حياتية في جميع المجالات، هناك أنماط من السلوك تنتقل بسرعة البرق بين مستخدمي هذا التطبيق، هذه الجردة البسيطة يخرج المراقب منها بانطباع أننا أمام فضاء يمارس فيه الإنسان سلوكا لفظيا وبدنيا يمكن وصفه ظاهريا باسم الحرية لكن جوهره لا يرتبط بالمفردة ذاتها التي جاءت تعبيرا عن حاجات أساسية ناضل الإنسان وضحى لأجل التحرر منها، ومن ثم أعطاها الدلالة المعروفة، وإنما يرتبط بشيء آخر، يمكن تسميته ثقافة الترفيه والتسلية كون تقنيات التواصل الاجتماعي ليست الخيار الوحيد للمدافعين عن الحريات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يوجد نظام مؤسسي يدمج هذه التقنيات في فضاء اجتماعي عمومي واقعي، صحيح فضاء هذا التطبيق وغيره من التطبيقات له تأثيره على المجال العام لكنه غير فاعل في القضايا الكبرى التي كانت الحرية اللاعب الأساسي فيها.

 ***

محمد الحرز

عن صحيفة اليوم السعودية، في يوم:2023/04/06

 

في المثقف اليوم