اخترنا لكم

علي العميم: تاريخ خاطئ لتعبيرَي السلفية والرجعية

في فقرة أخرى من كتابه «اليوم والغد»، كان عنوانها «الرابطة الدينية حماقة»، قال سلامة موسى: «إذا كانت الرابطة الشرقية سخافة؛ لأنها تقوم على أصل كاذب، فإن الرابطة الدينية وقاحة، فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا، وقد كان مصطفى كامل لجهله بروح الزمن يخبرنا، ولا يزال فلول المحررين من (المؤيد) و(الحزب الوطني)، يخبروننا - نحن المصريين - عن الإسلام في الصين تحت عنوان (أخبار العالم الإسلامي). وقد شبعت تركيا من الجامعة الإسلامية ونفضتها عن نفسها وتخلصت منها، لا لأنها أضاعت دينها ولم تعد تؤمن به، بل لأنها لم تعد تؤمن بفائدة الجامعة الإسلامية بعد أن خبرتها في الحرب الكبرى، فوجدتها قصبة مرضوضة لا تغني ولا تنفع». 

مصر كان يتنازعها تياران: تيار الجامعة الإسلامية أو الاتجاه العثماني، وتيار القومية المصرية. والتيار الأول أقدم من التيار الثاني. وكان التنازع بينهما حول هوية مصر: هل هي هوية مصرية عثمانية، أم هوية وطنية قومية مصرية؟

التيار الأول يختلط الدين فيه بالعلمانية، والتيار الثاني لا يخلط بين الدين والدولة الوطنية التي تقوم على أساس علماني. كما أن «الرابطة الشرقية» تختلط الدعوة الدينية فيها بالدعوة العلمانية.

محمود شاكر قدّم «الرابطة الشرقية» و«الرابطة الدينية» في كلام سلامة في إطار الإسلام وحده، وفي مقالاته مناط حديثنا كان يقدم سلامة ولويس عوض - بتضليل وافتراء - بوصفهما عميلين للاستعمار الغربي والتبشير المسيحي الغربي. ولوضع كلام سلامة موسى، المنتمي لتيار القومية المصرية، في سياقه الموضوعي سأورد ما أخلّ شاكر به من كلامه.

يقول سلامة موسى: «إننا في الجامعة الإسلامية نتأخر عن الزمن الحاضر بنحو ألف سنة، فقد كانت لأوروبا جامعة مسيحية هي أصل الحروب الصليبية، وقد أسفت أوروبا على ارتباطها بهذه الجامعة، ولم تعد إليها بعد أن خسرت فيها الأموال والأرواح». موقفه الرافض - وهو المسيحي - للجامعة المسيحية أو الرابطة المسيحية، لم يستحضره شاكر في اقتباسه منه، لغرض طائفي إسلامي.

يقول ماهر شفيق فريد - وهو يتحدث عن لويس عوض - في كتابه «دراسات نقدية»: «وهو لميوله الموسوعية، يخرج عن مجال تخصصه، كما في كتابه عن (رسالة الغفران)، حيث ارتكب بضعة أخطاء، من أطرفها قراءة (تغصّ بالصليان)، وهو نبات صحراوي، على أنها (تغصّ بالصلبان). ما جر عليه سفر (أباطيل وأسمار) الضخم لمؤلفه العلامة محمد محمد شاكر. ولا أستطيع أن أشاطر يحيى حقي وزكي نجيب محمود وشكري عياد وعبد العزيز الدسوقي والحسّاني عبد الله إعجابهم بهذا الأخير، وهو سفر يختلط فيه العلم الغزير بالسباب الغزير».

استناداً إلى وصف ماهر شفيق فريد الصحيح لكتاب «أباطيل وأسمار»، وباستخدام ألفاظه التي استعملها في هذا الوصف، أقول: إن نقد شاكر في بعض مقالات كتابه «أباطيل وأسمار» لسلامة موسى، لم يكن فيه علم غزير، بل سباب غزير.

قد يظن البعض أن في حديثه عن تاريخ تعبيرَي «السلفية» و«الرجعية» في مصر، في القرن الماضي إلى عام 1943، علماً دقيقاً، لأنه حديث يأتي من معاينة ومن معاصرة. وبخلاف ما يظنون، فإن في حديثه عن التعبير الأول، خلطاً وتخليطاً بتعمّد، للتحريض الديني الإسلامي على سلامة موسى، إذ إنه محيط باللغة العربية، وملّم بعلم العقيدة وعلم الحديث، وهو ذو توجه سلفي منذ نشأته الأولى.

وفي حديثه عن التعبير الثاني، جهل كثير.

كما أن في حديثه عن هذين التعبيرين، تحاملاً طائفياً على المسيحيين الشوام المتمصرين، ممثلين بأصحاب الصحف والمجلات في مصر، وعلى الأقباط، ممثلين بسلامة موسى ولويس عوض، وسامي داود.

يقول شاكر: «فمن معسكر الصراع بين الحضارة الغازية، وبين الحضارة الإسلامية أو بقاياها يومئذ، ظهرت كلمة (السلفيين) مقرونة بتبغيضها إلى العامة، وتصويرها في صور منكرة تكرهها النفوس. ثم بدأت الكلمة تدخل في محيط الصراع الاجتماعي، فمن أول ما أذكر من ذلك أن المسمى سلامة موسى، صنيعة المبشّر ويلككوكس، كان أكثر الناس استعمالاً للفظ (السلفيين) للدلالة على التأخر والتشدد والتخلف».

ويقول: «بعد قليل رأينا لفظ (الرجعيين) يحل محل (السلفيين) فجأة، وهو لفظ سهل على لسان العامة وغير العامة، وإذا بنا نراه مستعملاً على ألسنة ضرب من الكتّاب أمثال سلامة موسى من صبيان التبشير وسفهائه الذين يسافهون عنه، وعلى ألسنة أصحاب الصحف من نصارى لبنان المقيمين في مصر، والمستولين (!) على صحافتها كلها يومئذ. ثم لم نلبث إلا قليلاً حتى رأينا هذا اللفظ ينتقل للدلالة على الحياة الإسلامية كلها، واشتق له مصدر هو (الرجعية)، يستعمله الكتّاب إذا أرادوا التورية عن الإسلام، تهرباً، من أن تنالهم تهمة الطعن في دين الدولة... وظل هذا هو معنى (رجعي) إلى نحو سنة 1943، حين بدأت الحركة الشيوعية في الظهور، فاستخدمت اللفظ للدلالة على الأنظمة التي كانت تقاومها، لما فيها من الفساد والتعفَّن، وإن كان اللفظ عندهم أيضاً كان دالاً على مثل ما كان يدل عليه عند أعوان الاستعمار والتبشير بالحضارة المسيحية الوثنية الغربية».

وكان قد قال في مبتدأ حديثه هذا: «فقد بدا لي أن أعود إلى لفظ سلف في مقالتي الماضية، وهو اللفظ الذي استخدمه أجاكس عوض، واستخدمه المسمى سامي داود، وكلاهما يضمر في هذا اللفظ معنى بعينه، إذ جعل العموم تورية عن الخصوص، وكلاهما سيئ المقصد في هذه التورية».

صحيح أن سلامة موسى كان أكثر المثقفين من أبناء جيله، استعمالاً للفظ «السلفيين»، للدلالة على التأخر والتشدد والتخلف، لكن غير صحيح أن لفظ «الرجعيين» حل محل لفظ «السلفيين» عنده. فهو ظل يستعمل هذين اللفظين بمعنى مترادف.

سلامة موسى يستعمل لفظ سلفية بالمعنى اللغوي العام، وليس بالمعنى الديني الإسلامي الخاص، مفهوماً وجماعة.

فالسلفية في استعمالاته تترادف مع القديم ومع التليد ومع الكلاسيكية في المصطلح الغربي التي يترجمها إلى «التليدية»، ومع الاتجاه إلى الماضي في اللغة والأدب والثقافة والسياسة والحياة والدين.

سلامة موسى استعمل لفظ سلفية مقروناً بجماعة دينية مسلمة مرة واحدة، وذلك في كتابه «تربية سلامة موسى» الصادر عام 1947.

يقول في هذا الكتاب: «ما زلنا نعيش في أسر التاريخ بأدب أغلبه سلفي، نفكر بمزاج سلفي، في لهجة سلفية. وأدبنا هو أبعد الآداب عن روسو، بل لقد أصبحت حركاتنا الاجتماعية سلفية أيضاً، كما نرى في حركة الإخوان المسلمين». وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم 28 – 5 – 2023م

في المثقف اليوم