اخترنا لكم

ممدوح المهيني: 5 تطبيقات أسهمت في تقدم الحضارة الحديثة

كيف تقدمت الحضارة الحديثة عن غيرها من الحضارات القديمة التي سادت ثم بادت؟!

للإجابة عن هذا السؤال المهم نُشِرت كتب وبحوث، تحاول أن تكشف السر، وتقدم وصفات للآخرين لكي يلحقوا بها. المؤرخ الشهير، نيل فيرغسون، قدّم وصفةً سهلةً وبطريقة عصرية، حيث قال في إحدى مقابلاته إن هناك 5 تطبيقات حمَّلتها الحضارة الحديثة المنطلقة من أوروبا قبل البقية أسهمت في ازدهارها وتقدمها. إذا أراد الآخرون أن يلحقوا بها عليهم أن يحمِّلوا بعضها، ولكن في عقولهم وليس بهواتفهم الذكية.

أول هذه التطبيقات: هو الثورة العلمية، أو لنقل التفكير العلمي. سبقت أوروبا أمماً كثيرة في تبني التفكير العلمي، حتى لم يعد هناك منافس لنيوتن وغاليليو في عصرهما. العلم نقل العالم من «المرحلة السحرية الخرافية»، حيث لم يكن الإنسان مسيطراً على حياته إلى «المرحلة العقلانية»، التي جعلت الإنسان يثق بنفسه وقدراته ويملك الجرأة ليس فقط لتفسير الفضاء، ولكن لغزوه. بعد أن كان هامشياً والأشياء تحدث له من دون سيطرة منه، أصبح هو محور الكون والمتحكم بمصيره. لقرون طويلة كان الإنسان يدور في دائرة مغلقة مظلمة، تعيده كل مرة إلى النقطة نفسها. يسافر على البغال، ويشرب المياه المتسخة، ويموت من أتفه الأمراض. تبني التفكير العلمي غيَّر كل شيء. تخيلْ لو أن الثورة العلمية لم تتحقق! لكنا الآن نعاني من سوء التغذية، ولا نعرف لماذا يدور حولنا القمر، ولقضى علينا وباء «كوفيد»، الذي تمت محاصرته بوقت قياسي. ونعتقد بأن الأرض مسطحة نخشى الاقتراب من حوافها الحادة حتى لا نسقط في الفراغ. استطاعت الحضارة الحديثة أن تسبق الجميع في العلم، وهذا ما جعلها تتقدم وتزدهر في خط متصاعد.

التطبيق الثاني: هو الثورة الطبية. وهذه مرتبطة بالتفكير العلمي. منذ اكتشف الغرب أسباب أمراض، مثل: الكوليرا والطاعون وكيفية معالجتهما، وذلك في نهاية القرن التاسع عشر، وحقق ثورةً كبيرةً أطالت عمر الإنسان. الأمراض ليست لعنات، بل يمكن أن تكافَح بالدواء وتعالَج بعد أن كانت معدلات الأعمار في الأربعينات امتدت لتصل السبعينات، ومن المؤكد أن تواصل الثورة الطبية تقدمها لتعيش أجيال قادمة إلى ما بعد الـ100 بكامل صحتها. من دون الدواء من المتوقع أننا لن نكون على قيد الحياة هذه اللحظات؛ لأن الأوبئة ستكون قد فتكت بأجدادنا في سنوات شبابهم.

التطبيق الثالث: المنافسة الاقتصادية أو الرأسمالية. أوروبا، لأسباب اجتماعية داخلية، منها التنافس الداخلي بين النبلاء والساسة ما شكَّل حالة من التوازن القوي، الذي فتح المجال لتشكُل مناخ من الحرية الاقتصادية. ولأسباب جغرافية، حيث تخترق الأنهار أوروبا، وأصبح من الصعب أن يكتسح جيش كامل المناطق على عكس الصين المنبسطة جغرافياً. شجَّع اختلاف التضاريس نشوء دويلات وممالك من الممكن أن تقوى سياسياً وتزدهر اقتصادياً من خلال التجارة من دون أن تتعرض للاختناق. ولهذا يقال إن الليبرالية سبقت الديمقراطية في أوروبا، وهي السبب الأساسي الذي مهَّد الطريق لتأسيس ديمقراطية صحية استمرت حتى هذا اليوم. فكِّر بالحرية السياسية والثورة العلمية والصناعية وستكون بعدها الرأسمالية نتيجة متوقعة. ولهذا بدأت في أوروبا وليس في أي مكان آخر. ومن هنا نفهم لماذا نبع شعور المواطنة من تلك البقعة تحديداً، لأنها نشأت بسبب المُلاك والنبلاء الباحثين عن تمثيل عادل لهم، وتشكَّل بعدها العقد الاجتماعي، وما يتضمن من حقوق وواجبات، ولأنهم يبحثون عمّن يحمي حقوقهم الاقتصادية ومن دون خوف على استثماراتهم، لهذا أصروا على وجود حكم القانون الذي تطور بعد ذلك. الرأسمالية وحكم القانون وأسس المواطنة كلها اجتمعت هناك وشكّلت خميرة حضارية متميزة أنتجت كعكة الحضارة الحديثة التي نعرفها اليوم.

التطبيق الرابع: هو نشوء المجتمع الاستهلاكي، وذلك مع بداية صناعة النسيج. هذه الثورة جعلت الإنسان يشعر بأن طقم ملابس واحد غير كافٍ، وهو بحاجة دائماً إلى التبضّع والشراء، وهذا يعني ازدهار السوق. تطور هذا الأمر وأصبح الاستهلاك مسألة أساسية في حياتنا من السيارات حتى الآيفونات. سواء أحببت أم لا تحب أنت كائن استهلاكي، حتى أولئك الرهبان في جبال التبت لا يمكن أن يخرجوا عن هذا الواقع. وبسبب هذا تشكّل مفهوم المال ليكون هو المحور الذي تدور حوله الحياة. لا يوجد موظف واحد في العالم يقبل أن تحول راتبه الشهري إلى مواعظ أخلاقية أو أغنيات رومانسية. يريد مالاً آخر الشهر، لكي يصرفه وهكذا أصبحت الحياة.

التطبيق الخامس: قيم العمل القوية والراسخة في المذهب البروتستانتي، وتحديداً في نسخته الكالفينية. الكد والعمل ومراكمة الثروة من علامات الرضا على العباد، وليس سخطها كما كانت تعظ العقيدة الكاثوليكية، التي فضّلت العالم الآخر على الحياة الدنيا. العمل يعني الإنتاج، والإنتاج يعني النجاح والتطور. وبسبب تقديس ثقافة العمل ازدهرت في أوروبا الغربية الساعات الصغيرة للمرة الأولى في التاريخ. معرفة الوقت مهمة للانضباط والالتزام. اليوم له معنى اقتصادي، وليس فقط أن شمساً تغيب اليوم وتشرق غداً.

كل هذه التطبيقات أسهمت بتطور الحضارة الحديثة التي نعرفها اليوم، وهي تطبيقات لم تكن كلها موجودة سابقاً. كم سيكون جميلاً لو كان بإمكاننا الذهاب لـ«App Store»، وتحميلها في لحظات.

***

د. ممدوح المهيني

نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الجمعة - 26 رَمضان 1445 هـ - 5 أبريل 2024 م

 

في المثقف اليوم