حوارات عامة

الشاعر العراقي نبيل ياسين:

حنان عقيلنبيل ياسينالشاعر يتمرّد باسم الصامتين ولا يمكن له أن يكون شاعرا سياسيا ويكتفي بذلك

ترتحل تجربة الشاعر العراقي نبيل ياسين الشعريّة ما بين فضاءات عدّة، من الخاص إلى العام، ومن السياسي إلى الجمالي والكوني.. تجربة ثريّة بدأت منذ أكثر من أربعة عقود وقد أثمرت العديد من الدواوين التي جمعها الشاعر في مجموعة أعماله الكاملة، ورصد تفاصيل ميلادها في سيرته الشعريّة والذاتيّة “أوجاع الوردة”.

عقود طويلة قضاها الشاعر العراقي نبيل ياسين متنقلا ما بين المنافي، إلا أن شعره ظل قابعا هناك في العراق، ظل طيلة مسيرته الشعرية قابضا عليه في قصائده خشية أن يفلت منه وتهمله ذاكرته، إلى أن جاءت الفرصة ليعود إليه عام 2007 بعد ثمانية وعشرين عاما من المنفى. كان ما سجّله في ذاكرته عن بلده قد اندثر ولم يعد له وجود، وجد أنه قد انتقل من منفاه إلى منفى آخر إلا أنه ظل مُتمسكا بألا تلفظ ذاكرته الوطن. كتب: "هذا العراق، عراقي الشخصي، لا ملك عليه، ولا رئيس سواي، أعطيه أغنيتي ومنفايٓ الكبيرٓ، وأصطفيه خليلٓ أيامي، وما ملكت يداي".

إلى نص الحوار:

- في "أوجاع الوردة" سيرتك الشعرية والذاتية، نلحظ مزجك ما بين فصول حياتك وعملك السياسي والشعري وفيها توضح ظروف ميلاد قصائدك وخروجها إلى النور.. كيف تشكّلت فكرة هذا الكتاب لديك؟ وماذا كان الدافع وراءه؟

- أوجاع الوردة، سيرة لمنابع ومصادر قصائدي وأفكاري، كل قصيدة تتدفق من مواد، المدينة،البيت، الطبيعة، التاريخ، الأسطورة، المرأة وغير ذلك من مواد تخلق الشعر، ولذلك فإن أوجاع الوردة هي الوعي واللا وعي، المحسوس واللا محسوس الذي يحول الكلام إلى شعر.

الشعر فيض، وهذا الفيض ينبع من الموجودات، من النهر الذي يخترق المدينة معطيا لها السحر في الليل حيث كل الحيوات والكائنات تحت سطحه في المياه المتلألئة بفعل مصابيح الجسر، حتى الجنيات اللواتي يسبحن ثم يخرجن إلى سطح الماء ليمشطن شعرهن الأسود بأمشاط خشبية، الأبواب، والشبابيك والشرفات التي تمد القصائد بالصور والأشكال والإلهامات المتحركة، الأشجار والطيور والطفولة والأزقة، الناس والأشياء، كل ذلك مصادر ومنابع للشعر، للسحر الذي يمارسه الشعر.

هكذا تكونت أوجاع الوردة لتكون تأويلا، تأويلا روحيا لما هو مادي وموجود ليكون روحيا وعاطفيا في الشعر. هناك أيضا حياة العراق اليومية، المؤسسة على الحضارة والتاريخ القديم والحديث، الحياة بعد ثورات الطلبة في فرنسا وأوروبا، الحياة بعد موت جيفارا، الحياة بعد العواصف والاضطرابات التي جعلت من الثورة والوجودية أحد العناوين الجديدة للحداثة، الحداثة التي مضت بها الفلسفة الحديثة على يد فوكو وألتوسير وغيرهما إلى تأسيس مفاهيم جديدة عن الدولة والإنسان، والعدالة والحرية والأخلاق.

ربما كان الدافع وراء كتابة أوجاع الوردة هو استرجاع الألم الذي كان يتدفق أثناء كتابة كل قصيدة، الألم المشارك مع كل عنصر مادي من عناصر الحياة، الميلاد والموت، الألم واللذة، المدينة والطبيعة، الروح وما بعد الطبيعة، الاستماع مجددا إلى أبواق وصيحات قبائل الستينيات الشعرية وهي تخفق برايات العالم الخارج من السجون والهزائم إلى ماراثون جديد للوصول إلى الحياة.

كنت أحمل رأسي على كتفي قلقا مهتزا في لجة الفيض المتسع من الشعر والأسطورة والأدعية والمناجاة صارخا:

هاكموا رأسي خذوه

واصلبوه

هائما في شوارع بغداد وأزقتها وفي دروبها وسككها القديمة أنشد الشعر المتدفق من الينابيع

وأركب مهرة الاحلام من بلد ٍ الى بلد ِ

وفي رأسي قصائدُ من شجونٍ بعد لم تلدِ

كنت أمشي وأنثر الشعر على الطرقات مغنيا قصائد (البكاء على مسلة الأحزان) واحدة بعد الأخرى وهي تفيض مع الفيض الشعري المتدفق من شعراء كنت أقرأهم دون أن أعير اهتماما بمكانهم.

صعد الشهداء من التاريخ ودخلوا سحر اندفاعي اللا متناهي مثل سهم مارق بسرعة الضوء، صعد إلى قصائدي، صوفيون وصعاليك وثوار، صالح بن عبد القدوس، البشار،الحلاج.

إنني الشاعر يامولاي

ضلعي ريشةٌ، وجبيني الورقة

وأنا الحلاج يامولاي

والحلاج في كل العصور

عالق بالمشنقة

١٩٦٩

- ما مدى انطباق هذه المقولة للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي على لحظات ميلاد القصيدة عندك: "الشاعر يبدأ غالبًا من القصد، ثم لا يلبث أن تسحبه تداعياته إلى المعنى أو المعاني التي طالما حبسها في قمقمه الخاص الذي هو لا وعيه، فإن هو قارب اللغة التي هي فضاء الجماعة المشترك انطلقت معانيه الحبيسة ترفرف في هذا الفضاء بالرغم منه"؟

- الشعر هو اللا وعي الناتج عن الوعي، كل ما قبل كتابة الشعر هو وعي ومادة، محسوس ومرئي، معاش ومجرب، ولكن ما إن تبدأ كتابة الشعر حتى تذوب كل تلك المحسوسات والمجربات والمرئيات والموجودات وتنحل مثل قطرات الندى وتتحول إلى شعر، ينتهي دورها حالما تبدأ الكتابة، تتحول إلى مصادر وليس إلى أصل. الشعر لا تصنعه القراءات فحسب، فهذه القراءات تشبه تعلم اللغة في الطفولة، فبعد ذلك لا يعود تعلم اللغة ذا شأن وإنما كيف تكتب وتفكر وتقرأ.

أؤمن بأن الشعر إلهام كما أقر بذلك أرسطو، وأوافق ارشيبالد ماكليش في أن الشعر تجربة، وأوافق كوكتو بأنه ضرورة، وأوافق على التعريف العربي الشائع بأنه الكلام الموزون المقفى، وأوافق أبا هلال العسكري بأنه صناعة وأوافق الجاحظ بأنه التقاط الساقط وتحويله إلى ذهب، ولكن كل ذلك يرتبط بزمكان الشاعر ورؤيته وقدرته على ممارسة السحر والعيش في فيض يختص به وحده.

ليس هناك وعي لحظة كتابة الشعر، الوعي بالحياة والعالم والتاريخ والفلسفة والميلاد والرحيل، والإقامة والمنفى وعي ما قبل البدء بالكتابة، استعدادات ومؤن ووسائط لكتابة القصيدة، لا وعي لحظة الكتابة، جربت أن أكون واعيا لدى كتابة القصيدة، فلم أستطع الرحيل في طريق القصيدة فأهملت كل لحظة واعية، لأن ما يأتي من هذا الوعي ليس سوى تصميم سيئ وهندسة عشوائية مشوهة، فلنقبل بما قاله أرسطو عن الإلهام في الشعر، أيا كانت صورة هذا الإلهام وتأويله.

حين منعت وزارة الثقافة ديواني الشعراء يهجون الملوك عام ١٩٧٤ كان الأمر طبيعيا، أنت تهجو سلطة تريد أن تجيز هجاءك، كان (الخبير) شاعرا بلا وعي قبل القصيدة وبوعي كامل ومضلل لحظة الكتابة، إنه شاعر عقائدي يملك فرن صمون إلى جانب كونه موظفا في الوزارة، لا يعرف معنى التمرد ولا معنى الفوضى ولا معنى العبور في هذا العالم، إنه يأخذ وظيفته كأحد الرجال الضفادع لحراسة العالم السفلي الذي تحكمه آلهة الجحيم ارشكيجال أخت عشتار آلهة الحب والجنس.

- هل يمكن القول إن تجربتك السياسية كانت رافدًا رئيسيًا في اختياراتك وكتاباتك الشعريّة ولولاها ما كتبت كثير من القصائد؟ وما هو الحد الذي تراه فاصلا وواجبًا بين الهم الشعري والهم السياسي؟

- ليس لي تجربة سياسة بالمعنى الحزبي والأيديولوجي. كنت دائما أصرح بأننا مثقفون تنويريون في بلدان يمارس فيها السياسيون أدوراهم الظلامية في السلطة وخارجها، لذلك وقعت علينا مهمة التنوير الفكري والسياسي. الغريب أن كل الذين يروجون عني تهمة العمل بالسياسة هم أدباء حزبيون ملتزمون بالعقائد الديماغوجية الشمولية الإقصائية.

مع هذا مَنْ من الشعراء نجا من ثورية الستينيات والسبعينيات؟ كانت كل قضايا ما أسميناه حركة التحرر الوطني مشتعلة ويتصاعد دخانها من فلسطين إلى فيتنام ومن نيكاراغوا إلى أنغولا. ألم يكن أكثر الشعراء العالميين حضورا لدينا هم نيرودا وأراغون وأيلوار وناظم حكمت. الشعر مقيم والسياسة مترحلة، لا يمكن لشاعر أن يكون شاعرا سياسيا ويكتفي بذلك. حتى نزار قباني، شاعر المرأة كما أشتهر عنه كتب القصائد السياسية التي يحفظها العرب أكثر من بقية قصائده.

نعم، ما عشناه من تقلبات سياسية: ثورات، انقلابات، انتفاضات، ديكتاتوريات، استبداد، سجون، أفكار، عقائد، لم تحصن أي شاعر عربي من تحويل هذه التقلبات إلى مادة شعرية، إلى مصدر وينبوع، حتى في استعارة الأقنعة من التاريخ. فالشعر جزء حيوي من الصراع في الحياة. والشعر إنساني بقدر ما هو نتاج المرحلة التي يعيشها الشاعر. وحين دخلت الفلسفة في شعري تبدلت القصيدة لتكون أكثر كونية وأكثر عمقا في الرؤية،هذا إذا كان من حقي أن أتحدث عن شعري.

- كيف تنظر إلى ديوانك الأول "البكاء على مسلة الأحزان" الآن بعد عقود من كتابة الشعر خصوصًا وأن أعمالك الأخيرة جنحت نحو قصيدة النثر؟ وهل يمكن الحديث عن تطورات وتغيرات كبيرة في نصوصك الشعرية ظهرت بمرور الزمن واتساع التجربة؟

- البكاء على مسلة الأحزان كان فيضا من فوضى الاإقامة في الشعر يوميا. لا أتذكر أن يوما مر، قبل صدور الديوان، دون أن يكون يوما شعريا، قراءة وكتابة وإلقاء، كانت الكليات العراقية، بما فيها كليات الطب والهندسة تقيم احتفالات شعرية، كنا ندعى إلى قراءة الشعر، وكم مرة وجدنا أنفسنا على سبيل المثال، أنا ولميعة عباس عمارة وعبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ وآخرون، ندعى لمهرجانات الجامعة لنقرأ شعرا.

في عام ١٩٦٩ دخل علينا، بينما كنا على المسرح في قاعة الحصري في كلية الآداب، والشاعر حميد الخاقاني يلقي قصيدته، شعراء مؤتمر الأدباء فكان ممن دخل أدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي الذي شاركنا نحن شعراء الجامعة آنذاك وقرأ قصيدة كما شاركنا يوسف الصائغ فقرأ قصيدة أيضا بينما كان هناك عشرات الشعراء العرب يسمعون.

كانت الجامعة آنذاك مسرحا للحياة الشعرية وميدانا للإنتاج الثقافي. وكانت نازك الملائكة وعاتكة الخزرجي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر وإبراهيم السامرائي، وهم شعراء وأدباء وأساتذة معروفون، في تلك المرحلة والآن أيضا، هم من يشرف على مهرجان كلية الآداب بحيث صار يثير شهية شعراء من خارج الجامعة للمشاركة، كما كان الشعراء العرب يتوافدون على بغداد والبصرة والموصل. كنا نلتقي محمود درويش ونزار قباني ومحمد الفيتوري وعبد الله البردوني وغيرهم في مهرجانات المربد في البصرة وابي تمام في الموصل في مطلع السبعينيات إضافة إلى الشعراء العراقيين، الجواهري والبياتي وبلند الحيدري وآخرين قبل أن تتحزب الحياة الثقافية وتنحط الثقافة وتتحول إلى أيديولوجيا ودعاية سياسية

في "البكاء على مسلة الأحزان" كانت هوامش لأغلب القصائد التي استعارت أقنعة الحلاج، وصالح بن عبد القدوس، وبشار، وغيرهم من الشخصيات التي واجهت مصائر ثوراتها وقناعاتها، وكانت تلك الهوامش معتمدة على مصادر ومراجع الشعر والتاريخ والسير، وربما كانت تلك التجربة أول تجربة في استخدام المراجع للقصيدة.

لكن ما هي أهمية ذلك الديوان في حياتي الشعرية؟ إنه الأهم رغم أنه لم يعد سوى التجربة الأولى، حيث الثورية الشعرية والغنائية العالية والاحتجاج والتمرد والرفض والصراخ بصوت عال ضد فقدان الحرية وضد غياب العدالة. إنه فتح طريقا طويلا جدا وصعبا جدا للسير في الحياة المضطربة التي صعدت مع قصيدة الشعراء يهجون الملوك التي نشرت في مجلة مواقف عام ١٩٧٢ التي كانت ممنوعة في العراق، ومع قصيدة الاخوة ياسين (١٩٧٤)، وكلا القصيدتين تحولتا إلى عناوين لمجموعتين شعريتين.

- ما الأبعاد التي يضيفها توظيف الأسطورة على شعرك؟ وهل تمثلها يتم بقصدية أم أنها تسعى إليك أثناء الكتابة؟

- لكن ما هي الأسطورة؟ هل هي طفولة البشرية؟ غالبا ما أشبه الأسطورة بأفلام ديزني الكارتونية، ففيها يحدث ما لا يمكن أن يحدث في الواقع، ولو لم تنشأ الاساطير ما كنا استطعنا الحياة بدونها، ليس لأنها تصنع مخيلتنا فحسب، ولكن لأنها بالضبط الحياة الأخرى التي كان علينا أن نحياها مع من عاش فيها آنذاك. الأسطورة السومرية أو البابلية، أي الأسطورة الرافدينية ليست فقط مهد البشرية الثقافي والحضاري وإنما هي قدرة الانسان على خلق عالم آخر كما يريده هو لا كما تريده الآلهة فقط.

تجلت الأسطورة في شعري، خاصة في ديواني (صهيل في غرفة) الذي صدر عن الهيئة العامة للكتاب في القاهرة عام ٢٠٠٢، باعتبارها مادة حياتية وليست إعادة إنتاج لها، فالحياة في الأسطورة هي الحياة في الفيض البشري الذي تجلى وفاض في مواجهة العالم غير المفهوم وغير المحتمل.

الأسطورة مصدر حالها حال المصادر الاخرى للشعر. وهي حيوية لدي ربما أكثر من غيرها. ففي قصيدة "بلاد الرافدين" المنشورة في كراس عام ١٩٩٥ بعنوان مناحة على بلاد الرافدين، يمكن القول إن جزءًا كبيرا منها كان إعادة إنتاج لأساطير بلاد الرافدين. فالمرأة في مطلع القصيدة إلى نهايتها هي امرأة عراقية تتغير بتغير الآلهة من سومر إلى نفر إلى الوركاء إلى أريدو، لكنها في نهاية الأمر، امرأة من هذا الزمن، خرجت عبر أزمان طويلة جدا من المآسي والحروب والموت والحزن والبلاء، مرت عبر العصور والحقب الزمنية لتكون في نفس المكان، مكان السحر والفيض، مكان الولادة والخصب من إينانا إلى عشتار إلى كل إمرأة عراقية يخرج ابنها من رحمها ليذهب مباشرة إلى الحرب ويسقط هناك.

كيف يمكن لي، على المستوي الفردي، أن لا أرى الاشياء كما رآها الشاعر الرافديني من قبل وطاف بها في العالمين، العلوي والسفلي، ليفهمني معنى السحر والخلق. خلق عالم نصفه إله ونصفه بشر ليمزج الحياة الأرضية بالحياة السماوية. والآن علينا التفكير بجدية في قدرة إنسان دويلات المدن في سومر ونفّر والوركاء ولكش وأريدو وغيرها أن تخلق عالمين متصارعين في الفضاء بين الأرض والسماء لتشكل من هذا الصراع قدرة البقاء والعيش على الأرض.

- ما الذي يُمثله الزمان في شعرك؟

- هذا موضوع أساسي في الشعر. عام ١٩٩٨ كانت لي أمسية شعرية في مدينة لايبزغ الألمانية. بعد القراءة كانت هناك أسئلة. طرح الشاعر السوري المقيم في المانيا عادل قرشولي سؤالا عن الزمان في شعري. كان السؤال يستدعي السؤال عن المكان أيضا. وكانت ملاحظته مهمة بالنسبة لي خاصة مع غياب النقاد وتراجع النقد. في شعري يرتبط الزمان عادة بالمكان. إنه زمكان يملأ فضاءات كثير من قصائدي. الزمن يتجمد ويتحول إلى جسور كما في مقطع

جسور الرصافة والكرخ أزمنة جامدة

وبغداد آخر أمكنة الله حين تقوم القيامة

ويعلو الضجيج

وفي قصيدة نزهة :

والجسورُ زمان تجمد في لحظة ٍ

في قصيدة (الاخوة ياسين.. مرة ثانية) يبدو الزمن متوحدا مع المكان:

في الطريق ِ إلى قبر ياسين، َ

أوقفني الزمنُ المتمد عند الضفاف

الزمانُ قصيرٌ

وأنا أهرم في وحدتي

وتكتهل الروحُ في ورطتي

وأنا والطريقُ إلى العائلة

كلانا وحيد

وكلانا انتهى عند وحدتِهِ

واتحدنا معاً وانتهى في خطاي

- ما أهمية القارئ بالنسبة لك في أثناء كتابتك للقصيدة؟

لا تفكير في لحظة الكتابة الشعرية، التفكير قبل القصيدة لخلق الرؤية الشعرية، لكن أثناء الكتابة هناك رؤيا وليس رؤية. بالنسبة لي،كما قلت، الوعي يتحول إلى اللا وعي لحظة الكتابة. حين اعود لقراءة بعض قصائدي بعد سنوات، اتساءل كيف كتبت حقا هذا الذي كتبته؟ وحينئذ اكون متأكدا انني لم اع ماكتبت، كما لو انه كتب نفسه بنفسه،كما لو انه عمل خارج وعيي وادراكي

حينذاك لا أكون الشاعر وإنما المتلقي الذي ربما لم أفكر به أو فكرت به باعتباره جزء من اللاوعي، ففي نهاية المطاف تتوجه القصيدة لقاريء، ولابدأن يكون التفكير في القاريء جزء من خلق الرؤية الشعرية ليغيب معها حين تغيب وتتحول إلى رؤيا، تبدأ ملحمة كلكامش ببيت ماوراء طبيعي، إلهي غيبي :

هو الذى رأى كلّ شيءٍ

فغني بذكره بابلادي

ربما يختصر هذا المعنى تحول الرؤية المحدودة إلى رؤيا شاسعة تعبر حدود العالم المرئي. اليوم يقل الشعر ولكن مصادره تتسع. لذلك يصبح اكثر صعوبة رغم هذا الكم الهائل من الكتابة، النمطية، التي يقلد بعضها بعضا وكأنها قالب، قالب لصب اللغة فيه، تماما كطين في قالب لإنتاج طابوقة، هذا وعي زائف عن الشعر مهما كثر الكلام عن الحداثة. وماهي الحداثة وماهي ما بعد الحداثة؟ ليس هناك مجانية في تناول المصطلحات كما في بلداننا. واذا مضينا مع ماكس فيبر لنزع السحر عن العالم حي نتحدث عن الحداثة والعلمانية فاننا سنكون قد مارسنا الضحك على انفسنا وعرضناها للسخرية اذا اعتبرنا ما نكتبه من شعر اليوم هو البرهان الوحيد على (حداثتنا) فيما نغرق حتى أعناقنا في قداسة سحرية تمتد من السياسة حتى نمط العيش المغلق، إذ تحدد القداسة حتى طريقة دخولنا إلى الحمام.

- بدا منذ ديوانك الأول "البكاء على مسلة الأحزان" ثم "الشعراء يهجون الملوك" الذي منع من النشر لفترة، وكأنك الشعر نفسه مادة مشغولة من مواد مختلة تختلط فيها الاحلام والاوهام، الميثولوجي بالواقعي، الطبيعي والماوراء الطبيعة، السحر والالم، الميلاد والرحيل، الوطن والنتفى،المرأة والالهات القديمات قررت أن تكتب شعرًا ينتهج التمرد (إنني الشاعر يا مولاي/ ضلعي ريشة وجبيني الورقة/ وأنا الحلاج/ والحلاج في كل العصور عالق بالمشنقة).. هل كان الشعر وسيلتك للتمرد والرفض حينما بدأت كتابته؟

- نعم، الشعر وكل الفنون الجميلة، التي تشتغل في البحث عن الجمال والمعنى الجميل للعالم،هي وسائل للتمرد على ماهو قبيح في هذا العالم. لماذا تنتمي العدالة إلى الجمال؟ لانها تزيل قبح الظلم. ولماذا تنتمي الاخلاق إلى الجمال؟ لانها تزيل قبح الفساد. ولماذا تنتمي الحرية إلى الجمال؟ لانها تزيل قبح الاستبداد

الشعر محاججة، بكل ما تتضمنه من اختلاف وبرهان ونتيجة. ولذلك يكون الشعر تحديا للتحديات الشمولية القبيحة التي تطرد الجماليات من موقعها لتستولي عليه، التمرد في الشعر هو تمرد في الحياة، لا يمكن أن يكون التمرد في الشعر منفصلا عن التمرد في الحياة، أو أن يكون التمرد من الأغراض الشعرية كما كان في القديم، الهجاء أو المديح، النسيب أو الحماسة، التمرد على النمط يعني رفض القاعدة السائدة وهي قاعدة القبول بالأمر الواقع، وهو واقع غير إنساني، لذلك فإن الشاعر يتمرد باسم الصامتين.

- سنوات من الاغتراب والإقامة ما بين المنافي ولم تغادر العراق ذاكرتك وشعرك.. ما السبب؟ هل المنفى يُرسخ صورة الوطن ويُكثف الأحزان على فراقه؟ أم أن ذاكرتك هي التي لا تزال عالقة هناك في العراق؟

- قبل أن أعود إلى العراق لاول مرة عام ٢٠٠٧ بعد ثماني وعشرين سنة في المتفى، كنت اعيد تشكيل العراق في الشعر، من الذاكرة. وحين عدت من العراق سألني مذيع البي بي سي عن نهاية المنفى،فقلت له انني ذهبت إلى العراق من المنفى وعدت إلى لندن من المنفى، فالعراق تحول إلى منفى ثان. دافعت عن بقاء العراق فيّٓ، في قلبي،في وجداني، وفي ذاكرتي، دافعت عنه ككيان وجودي لايتحطم، وقد عانيت كثيرا حتى انني كتبت

هذا العراق،عراقي الشخصي

لاملك عليه

ولا رئيس سواي

اطيه اغنيتي ومنفايٓ الكبيرٓ

واصطفيه خليلٓ أيامي

وماملكت يداي

كم هو صادم أن يكون شعرك قد فقد الامل بسحره، وكم هو فاجع أن يكون الوطن حطاما على الارض وحلما في ذاكرتك؟ ما أزال منفيا. المنفي هو ذلك الانسان الذي ينتظر العودة إلى وطنه. المنفى يعيد بناء الوطن البعيد. والوطن في الذاكرة يقاوم معاول المنفى. تلعب اللغة دورا عميقا ضد المنفى فيما يلعب المنفى دورا تخريبيا ضد اللغة.

 لم يكن سهلاأن يكون المنفى تنقلا مستمرا، فهذا هو معناه الجوهري لغويا وحياتيا. المنفى يجعل الانسان أرقّ كلما فكر بالوطن الذي يصبح امتن واقوى. ليس للمنفى سوى قاعدة واحدة يقوم عليها، إنه يعمل عليها يوميا، وهي أنه يلقيك في صراع مع فقدان الذاكرة عن الوطن، المنفى عالم مغلق ينهي انفتاح الوطن. واقامتي في المنفى كانت جهدا يوميا لكي لا يقتلعني المنفى من وطني.

قاومت من أجل البقاء في الجماليات مقاومة عنيفة للمنفى رغم أنها صامتة في أغلب الاحيان تتجلى في الشعر. المنفى يريد من المنفيّ أن يبقى وحيدا لكي يبتلعه، يأخذ منه القارب الوحيد الذي يبحر فيه المنفيّ وهو ذاكرته. وربما ليس غريبا أن يكون لي أربع أو خمس قصائد بعنوان البيت، يتكرر العنوان دون وعي.

في قصيدة "حدثني يا أبتي" التي كتبتها عام ١٩٩٧ ونشرت في الحياة آنذاك، فوجئت وتفاجأت بانبثاق كل التفاصيل الصغيرة التي شكلت موضوع القصيدة وصياغتها. نعم،فوجئت بها لأني لم أكن أفكر بأن كل تلك التفاصيل كانت في ذاكرتي منذ الطفولة حتى وطأت قدماي أرض المنفى، للمفارقة فإن أول كائن أزعجني وأزعج ابني الصغير في المنفى كان كلب سائقة التاكسي الذي ظل ينبح في وجوهنا طوال الطريق، ومنذ ذلك الوقت، وبعد ثمانية وثلاثين عاما، ما زال ذلك الكلب ينبح في وجهي.

 

حاورته: حنان عقيل

 

 

في المثقف اليوم