حوارات عامة

حوار مع: الناقد المغربي حميد لحمداني

2251 حميد لحميداني 1- الأدب يَحتفظُ بسلطته التأثيرية وقدرته على خِدمة الثقافة

- ليس هناك ضرورة للاهتمام بالأدب الرقمي

يعد الناقد المغربي حميد لحمداني أحد أبرز الوجوه النقديّة في المغرب لما قدّمه من جهود ثريّة في مجال الإبداع والنقد ونقد النقد، فقد صدرت له روايتان هما "دهاليز الحبس القديم"1979، و"رحلة خارج الطريق السيّار" 2000 . وفي النقد أصدر أعمالًا مهمة منها "من أجل تحليل سوسيوبنائي للرواية"، "في التنظير والممارسة، دراسات في الرواية المغربية"، "كتابة المرأة من المونولوج إلى الحوار"، "الواقعي والخيالي في الشعر العربي القديم". وفي مجال نقد النقد صدر له "سحر الموضوع"، "النقد النفسي المعاصر.. تطبيقاته في مجال السرد" وغير ذلك من الأعمال والترجمات.

حنان عقيل* لك كتابات في الإبداع كما في النقد، فقد صدرت لك روايتان: "دهاليز الحبس القديم"1979، و"رحلة خارج الطريق السيّار" 2000 هذا بالإضافة لأعمالك النقديّة الثريّة.. هل من الممكن القول إن الإبداع هو الذي قادك إلى دراسة النقد في البداية؟ وهل من سؤال مُلِّح فرض نفسه عليك في كتابتك الإبداعية؟

- لا أظن أن الأمر بهذه الصورة تماما، فاهتمامي بالنقد كان اختيارا أكاديميا بالدرجة الأولى وميولا إلى تنمية معرفتي بالمناهج النقدية التي كانت وضعيتُها في السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي لا تزال يلفها بعضُ الغموض. وكان السؤال عن ما هي أصلح المناهج لدراسة الأدب يكاد يكون محوريا و مُحيِّرا في نفس الوقت. هذا بالذات ما قادني في المقام الأول إلى الاهتمام بالنقد الأدبي وبعد ذلك بدأتُ اشتغل في حقل نقد النقد وهو مجال معرفة المعرفة.

وأرى أن العلاقة بين تخصصي النقدي وإبداعاتي السردية برزت لاحقا إلى حد ما في روايتي رحلة خارج الطريق السيار. فقد أفادني النقد البنيوي المتخصص في معالجة الحيل السردية وفي بلورة بعض إمكانياتي الإبداعية وتطويرها. وتجلى ذلك في هذه الرواية بالذات التي نالت جائزة الرواية العربية من عمالة عمان الكبرى بالأردن سنة 2002 وأشارت لجنة التحكيم وبعض النقاد الذين قاموا بتحليلها إلى الجانب التحديثي للبنية الروائية فيها، وخاصة مظهر التقطيع الزمني والتشطير السردي، وتعدد زوايا النظر إلى جانب حضور البعد الترميزي .. الخ.

أما السؤال الملح الذي فرض نفسَه دلاليا في هذا النص المتأخر في الصدور، فهو متعلق بمدى قدرة المجتمعات العربية على الالتحاق بركب التقدم الحضاري بالنظر إلى ما هي عليه من وضعية مضطربة ومن تأخر في مجالات متعددة ، وفيما يخص الرواية الأولى وهي "دهاليز الحبس القديم" فكانت لها خصوصيتها لأنها كُتبت في مرحلة مبكرة يوم كان عمري لا يتجاوز 22 سنة واستغرقتْ الكتابةُ سنة واحدة، لذا أرى أن دواعي كتابتها كانت إلى حد ما ذاتية، وحتى لو افترضنا أن تأليفها كان تعبيرا عن ميل طبيعي إلى الحكي الروائي، فهي ذات علاقة خفية ببعض ملامح السيرة الذاتية ولكن جميع شخوصها من صياغة تخييلية، كما أنها في بنيتها العامة تبدو مُتحررة إلى حد كبير من العنصر الذاتي، وقد عالجت بشكل شبه رمزي الوضعية الاجتماعية والسياسية الحرجة في مرحلة السبعينات، وحاولت بلورة موقف انتقادي لما كان سائدا في الواقع من سلبيات وخلل في القيم. 

* تنقّلت في دراساتك النقدية بين عدد من المراحل من النقد السوسيولجي إلى النقد الأسلوبي ثم الاهتمام بنظريات التأويل وأخيرًا الجمع بين المناهج المتنوعة.. في هذا الصدد أود سؤالك حول جدوى استناد الناقد الأدبي في الوقت الراهن إلى منهج يطبقه بحذافيره على النص الأدبي.. هل يُنتج ذلك برأيك قراءات نقدية واعية ومضيئة للنص؟ وإلى أي مدى نجحت في مسألة الإفادة من مناهج شتى في قراءة النصوص الأدبية؟

2251 حميد لحميداني 2- جميع المناهج النقدية الأدبية لا تخرج عن غايات ثلاث بخصوص دراسة النصوص الأدبية:

أ - فإذا تم تركيز التحليل النقدي على البنيات الشكلية لمحاولة إثبات القيمة الفنية والجمالية أو توصيف التركيب النصي من خلال علاماته الخاصة، أو دراسة المضامين النصية وتركيباتها، فإننا نقول عندئذ بأن المنهج إما أن يكون بلاغيا أو فنيا أو شكلانيا أو بنيويا أو سيميائيا، فكل هذه المناهج تُعالج النصوص الأدبية من حيث طبيعتُها التأليفية ومحتوياتُها الدلالية المتفاعلة نصيا مع بعضها البعض. وأفرق هنا بين المحتوى الذي ينتمي إلى البنية الدلالية النصية وبين ما يسمى " المعانى " التي يجتهد القراء والنقاد في بنائها حسب طبيعة فهمهم أو تأويلاتهم، وهذا يشير الى تدخل ما في النص من الخارج بواسطة التأويل.   

ب - حين يركز التحليل النقدي للنصوص الأدبية على تحديد المؤثرات الذاتية والنفسية، سواء كان ذلك متعلقا بعلامات حضور المؤلفين في نصوصهم أو دراسة الخلفيات النفسية لشخصيات تمثيلية ،كما هو الحال في شخصيات الروايات أو مُمثلي المسرحية، يكون المنهج القائم بهذه المهام إما نفسيا أو نفسانيا.

ج - وعندما يتجه الاشتغال النقدي نحو تفسير المحتويات والأحداث النصية تاريخيا أو اجتماعيا أو سياسيا فستكون الممارسة النقدية تتجاوز النص الأدبي لربط النصوص بالمسارات التاريخية أو أحدات وتطورات اجتماعية أو مواقف سياسية. ويكون المنهج هنا إما تاريخا أو اجتماعيا. ونعتقد أن ما يُدعى عادة بالمناهج التأويلية لها ارتباط وثيق بالنوعين (ب، ج) المشار إليهما. 

لكل هذا نرى أن الاتجاهات النقدية المشار إليها ليس من اليسير استيعابُها ولا التفوق في تطبيقها إذا لم تكن لمن يقوم بتحليل النصوص معرفةٌ منهجية تؤهله للقيام بهذه المهمة. ومعظم المعارف التي مَكَّنَتِ النقاد من هذا التأهيل مُستمدة كما رأينا من مجموعة من العلوم الإنسانية وهي : المنطق واللسانيات وعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس، وبعضها له سند فلسفي.

وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه المناهج تم دمجُها ضمنيا في نطاق السميائيات المعاصرة المعتمِدة على أرضية لسانية تقتضي الرجوع الدائم في كل اجتهاد تحليلي للنصوص أو أي تأويل لمعطياتها، إلى ضرورة إثبات ذلك عيانيا من خلال العلامات اللسانية الشكلية ووحدات المحتوى الدلالية. لذا نرى أن استخدام المناهج في تحليل الأدب هو عمل مُستنير ومعرفي، بعيدٌ عن الإسقاطات الذاتية أو الميل مع الأهواء والتسيُّب في التحليل.

كما أنه إذا جعلنا الأذواق الذاتية كافية لمعالجة النصوص الأدبية سيَعتبِرُ كلُّ قارئ عادي نفسَه في مستوى كل من كابد المحن في تحصيل المعارف المنهجية. وهذا عين الدعوة إلى " الشعبوية " في التفكير والسلوك والتي تعتمد مبدأ أن " غير العارف مُساو للعارف في المؤهلات، إن لم يتم الادعاء بأنه متفوقٌ عليه، وهذه بلية لا تَسود عادة إلا في المراحل التاريخية التي تَظهر فيها علامات الانحدار الحضاري لدى شَعبٍ ما.

ليس المُهم في دراسة الأدب أن نقول هذا النص رائع أو غير مَسبوق، بل ينبغي إثبات ذلك بالتحليل والمعاينة. وليس من السهل أن نقول مثلا بأن مدلول هذه الحكاية هو كذا أو كذا ولكن أن نُثبت بالمعاينة والإقناع الحِجاجي والمنطقي أو الترجيحي بأن هذا النص يوجهنا نحو هذا التأويل أو ذاك الفهم. هذا هو جوابي على قولكِ ما جَدوى أن يَستخدِم الناقدُ اليومَ مَنهجا مُحددا لدراسة العمل الأدبي؟ لذا أقول بأن جدوى ذلك كما رأينا هي أن يُقرِّب الناقدُ للقراء فهما أو تأويلا مُبرَّراً ومُعززا بالحجاج والمنطق والمعاينة النصية المُتشابِكة، وأن يجعلنا نقتنع بأن العمل المدروس يُضاهِي في قيمته التعبيرية والمدلولية ما هو موجود من النصوص سلفا.

ولا يكون ذلك في نظري مُنحصرا بالضرورة في تطبيق مَنهج مُحدد بحذافيره كما جاء في سؤالكِ، فالمعارف المنهجية متداخلة ومُتطورة على الدوام في هذا الاتجاه، وإمكانياتُ الدمج بينها مُثبتةٌ سيميائيا، كما أشرتُ سابقا. لا نجد خارج هذا الإطار المعرفي إلا معالم نقض المعرفة والارتجال والادعاء والغموض والأحكام العامة، وأحيانا المبالغة والتيهان في البحث عن الأنساق المضمرة، وهذا مِمَّا يُسهِّل تَعمُّد تَبخيس جهود النقاد الذين نذروا حياتهم لاكتساب المعارف المنهجية.

ما شرحتُه حتى الآن يُبين نظير ما سلكتُه في أعمالي النقدية الأدبية الخاصة فشِعارها التطوير الدائم للمناهج، وإحداث إمكانيات مُستمرة لــ " تفاعلٍ سيميائي" بينها. وهذا يناقض ما يُدعى بــ " بالنقد التكاملي" الذي يقوم على أساسٍ تلفيقي كما هو معلوم. أما إحداث التفاعل بين بعض المناهج أثناء التحليل فيكون مشروطا قبل الشروع في ممارسة تحليل الأعمال الأدبية باستيعاب الناقد للمعارف المتعددة، التاريخية والسوسيولوجية والنفسية والبنيوية والسيمولوجية...وهذه بالتأكيد مُهمَّةٌ صعبة لا تقوم إلا على غزارة الطلاع والتحصيل.       

* هل يمكن القول إن المناهج الأدبية مترابطة بوشائج لا يمكن فصلها أو إهمال جزء منها، لا سيما المناهج البنيوية وما بعدها. بمعنى آخر، هل من الممكن أن ينجح الناقد الذي يدرس منهجًا واحدًا ويطبقه ولا يمتلك سوى معرفة ضئيلة بالمناهج السابقة أو التالية له.. ما الإشكالية التي قد تواجهه في تلك الحالة؟

- في الإجابة عن السؤال السابق حاولتُ إثباتَ أن المناهج ظهرت مُوزَّعة على تَخصصات مُحددة، كل واحد منها يهتم بجانب من الظاهرة الأدبية، لكن الظاهرة الأدبية هي بنية واحدة تجتمع فيها كل اهتمامات المناهج، لذا فمن الطبيعي إذا ما تخصص ناقد ما مثلا في النقد النفساني الفرويدي، فإنه غالبا ما يكون شحيح المردودية في تحليل الجانبين البنيوي والاجتماعي في النص الأدبي، لأن تركيزه سينصب على الأبعاد النفسية والنفسانية، سواء كان ذلك من خلال استحضار شخصية المؤلف، إذا كان النص المدروس شعريا أو من خلال كشف المشاكل والعقد النفسية للشخصيات المُتَخيَّلة إذا ما كان ما كان النص الخاضع للتحليل سرديا. غير أننا وجدنا بعض النقاد في العالم العربي حاولوا التركيب بين بعض المناهج لضمان استيعاب ظواهر متعججة في النص الأدبي، وتجربة الناقد جورج طرابيشي بارزة في التركيب التفاعلي بين المنهج النفساني والاجتماعي. وقد أثمر مجهودُه في دراسة الرواية على الخصوص نتائج مُمَيَّزة.

على أنه بالرغم من ذلك، فالتخصص في النقد والتركيز على جانب مُحدد قد يقود إلى اكتشاف مُعطيات جديدة، كما حصل مثلا مع الأبحاث والتحليلات التي أنجزها الشكلانيون والبنائيون. وقيمة الأبحاث النقدية على العموم، لا تقاس فقط بمسألة تخصص النقد في منهج واحد أو تركيبه التفاعلي مع مناهج أخرى، وإنما  بمهارات الناقد التحليلية وما يُسنِدُها من معارف واسعة النطاق وموثوق بها، أما المعارف الضئيلة فلا تكون لها في أغلب الأحيان مردوديات تحليلية ملموسة النتائج.         

* اعتبرت في كتابك "سحر الموضوع" أن النقد الموضوعاتي بدرجة ما شكّل نواة للنقد الثقافي.. كيف تنظر إلى فكرة استبدال النقد الثقافي بالنقد الأدبي؟ وإلى أي مدى يُمكن أن يُقدم ذلك قراءة واعية وفارقة للنصوص الأدبية؟

- نعم أشرتُ إلى هذا فعلا في كتابي: " سحر الموضوع "، لأنني عندما دَرستُ النقد الموضوعاتي وأصولَه المعرفية في هذا الكتاب تبين لي أنه في عمقه ليس منهجا مُحددا، فمبادئه شديدةُ العمومية، لأنه يلتقط في تحليلاته كل الموضوعات والثيمات، كما أنه مُنفلت العقال في تجواله عبر النصوص وخارج النصوص على السواء مُجمِّعا، في غير نظام مُحدد، كلَّ إمكانيات المناهج الأخرى بما في ذلك ما هو خارج عن المناهج كالتذوق والمهارات الذاتية. ومبدأه الأساسي هو الحرية التامة في الحركة من النص إلى المعارف المختلفة.

هذه الخصائص تلتقي مع النقد الثقافي الذي يَعتبر النص الأدبي مجرد ذريعة لاكتشاف أنساق خارج نصية مُتحكِّمة في الإنسان. والفارق الأساسي بينهما هو أن النقد الموضوعاتي يحترم أدبية الأدب ودور الأدب الفاعل في حياة المبدعين والمجتمع على السواء، على عكس النقد الثقافي الذي لا يهتم بالأدب في حد ذاته، وأحيانا لا يكن له تقديرا، وإنما ينظر إليه كظاهرة ليس لها من وظيفة إبداعية ودلالية ذات قيمة سوى ما تكون دالة عليه من أنساق رمزية تتحكم في المبدع وغيره من أفراد المجتمع، وهذا ما يجعلُ النقد الثقافي منشغلا بالبحث عن علامات تلك الأنساق الخارجية أكثر مما يَعتبر الأدب إبداعا متعدد الوظائف الإيجابية بالنسبة للمبدعين والقراء على السواء. وأنا أتحدث هنا فقط عن الاتجاه الغالب في النقد الثقافي.          

* في إطار متابعتك لما كُتب عربيًا في مجال النقد الثقافي على مستوى التنظير والتطبيق.. ما أوجه التميز وكذلك الخلل فيما قُدم في هذا المضمار؟ وكيف يمكن تجاوز مشكلاته؟

2251 حميد لحميداني 3- من الضروري القول بأن الأدب في معظم الأبحاث الغربية والدراسات العربية المُنتمية إلى النقد الثقافي تَعتبِرُ الأدبَ ظاهرة "شاذة " يُجرِّبها الأدباء على أساس أنهم يبدعون شيئا مفيدا لهم ولمجتمعاتهم، ولكن واقع الحال أنهم من وجهة المنظرين للنقد الثقافي والتفكيكيين أيضا إنما هم ضحايا غير واعين بأنهم يعززون الأنساق الفكرية والثقافية التي تكون عادة مُدعَّمة من قبل مراكز سلطوية في المجتمع.

ونرى أن مثل هذا التصور ليس جديدا على كل حال، فهو مشروح في الكلاسيكيات الثقافية للمناهج السوسيولوجية الجدلية، لكن برغم إثباتها ارتباط الأدب بالايديولوجيات والسلط فإنها أكدت من جهة ثانية، وهذا هو المهم، أن الأدب يَحتفظُ بسلطته التأثيرية وقدرته على خِدمة الثقافة التي يُعبر عنها والتي تتفاوت قيمها بين شريحة اجتماعية أو أخرى، بمعنى أن الأدب في المجتمع ليس خاضعا في كليته لسلطة واحدة بحيث لا يكون له أيُّ دور ايجابي في انتقاد الواقع. وهذا على عكس تصور النقد الثقافي الذي ينظر إلى السلطة كنسق واحد في أي واقع اجتماعي على أنها ذات هيمنة تامة على الكل، ولا يفلت من إخضاعها أي نتاج أدبي مهما كانت قيمته الإبداعية ومهما كان لديه من أفكار وانتقادات جريئة وتحليلات جديدة.

ونرى أن واقع الحال يخالف هذا التصور، فحينما تُصادَرُ بعضُ الأعمال الأدبية، على سبيل المثال، بحجة أنها تمثل تشويشا على هيمنة النسق المهيمن فهذا يعني أن النسق لا يتحكم في جميع الأعمال الأدبية، ويترتب عن ذلك أن للأدب سُلطتَه الخاصة التي تنجح أحيانا في الانفلات من تحكم الأنساق الرمزية، وهذا ما لا يعترف به بعضُ النقاد الثقافيين بسبب أن لهم منظورا واحدا عاما ومُطلقا، كما أنهم يستبعدون حوارَية وجدلية الأفكار التي تُساهم في إثرائها الأعمالُ الأدبية ويكون لها دور في انتقاد سلطة أو تعزيز أخرى . وأعتقد أن مشكلة منظور النقد الثقافي عسيرة التجاوز إذا لم " يَعترف " نُقاده بأن للأدب دورا فَعالا في حياة الإنسان ومساهمةً مؤثرة في تطوير المُجتمعات إلى ما هو أفضل.                  

* كتبت العديد من الأعمال في مجال نقد النقد متعرضًا للحديث عن التطبيقات النقدية لعدد من المناهج مثل البنيوية والموضوعاتية والنقد التاريخي والنفساني. أود سؤالك حول رؤيتك لواقع نقد النقد في عالمنا العربي.. إلى أي مدى يحظى هذا المجال بدراسات جادة ومؤثرة؟ وما الذي يُكسبه أهمية أساسية في تطوير الدراسات النقدية؟

- أشرتُ سابقا إلى أن نقد النقد هو مَجالٌ ثري، لأنه ينتمي إلى الحقل الابستيمولوجي (أي مجال معرفة المعرفة) وهذا مَعناه أَنه يمثل معرفة تبحث في الكيفيات التي يَبني ِبِها نقادُ الأدب مَعارفهم  في تبني المناهج وتحليل النماذج النصية. وناقدُ النقد من هذا الموقع يبوء نفسَه ما يشبه منزلة " عارف العارفين في الحقل النقدي" على أن بلوغ هذه المنزلة ليس بالأمر البسيط، فالمفروض أن تكون معارفه أوسع نطاقا وأكثر تدقيقا، لأنه مُلزم بأن يتبحر في استيعاب جميع المناهج الأدبية وأصولها المعرفية والفلسفية، وأن تكون مصادره أصلية في معظمها وأن يُلِمَّ بتاريخ تطور المناهج النقدية قديمها وحديثها، كما أن معرفته ببعض اللغات ستُعَدُّ سندا أساسيا في تقريب المعارف الغيرية.

وإلى جانب كل هذا من الضروري أن يخضع إنجازُه في نقد النقد إلى منهجية عامة، لها ارتباط بالمبادئ التي تُدرس بها مُختلف العلوم الإنسانية، ومنها التَّجرد من التحيز، بمعنى ألا يتبنى ناقد النقد أي منهج من المناهج المدروسة، فخلاف ذلك يلغي الحياد المعرفي. هذا فضلا عن ضرورة استحضار الضوابط المنطقية والتحليلية والاستنتاجات التمييزية بين المنهاج من حيث وضوح التصور النقدي وفعاليته وغاياته من تحليل النص الأدبي، وهل هناك فعالية منتجة في معالجة واستيعاب البنيات النصية واستنطاقها وكشف ما هو متوار من مدلولاتها الاحتمالية.. الخ .       

* هل من نقاد عرب في الوقت الراهن ترى أن تجاربهم النقدية أصيلة وقادرة على تجذير اتجاه نقدي يُفيد من الجهود النقدية العربية القديمة فضلًا عن التشبع والفهم الجيد للأدوات المنهجية الغربية؟

- هذا سؤال يكاد يَطْلبُ ضمنيا في هذا الحوار تعيين أسماء نُقاد الأدب المُمَيَزين، بعيدا عن الإثباتات الملموسة التي لا يتم تفعيلها كما أسلفتُ إلا من خلال دراسات عملية تحليلية في مجال نقد النقد. وعلى كل حال يمكن أخذُ فكرة عن جملة من رواد النقد الأدبي من البلدان العربية في عدد من كتبنا التي عالجَتْ واقع النقد العربي من خلال تحليل بعض النماذج  خلال فترة طويلة نسبيا من تاريخ النقد الأدبي العربي الحديث، وقد ساعدنا  ذلك، إلى حد ما، في الكشف عن المجهودات الأساسية عند جملة من النقاد مع التمييز بينهم، لذا نحيل القراء على  كُتبنا التالية: " بنية النص الأدبي "  و" النقد النفسي الأدبي المعاصر"، و" النقد الروائي والاديولوجيا " و" سحر الموضوع" ليتعرف على كثير من الأسماء.

أما في الفترة الحالية فنرى مجموعة واسعة من النقاد العرب والمغاربة، من ثلاثة أجيال، يواكبون باقتدار مُعظَم الإنجازاتِ المتطورة في النقد الأدبي وخاصة في مُستجدات التحليل النفسي والنفساني والمعالجة الشكلانية والبنيوية وتطبيقات نظرية التلقي وكذا التحليل السيميائي للأدب. هذا دون ننسى كثيرا من المجهودات التي اهتمت بإعادة تأهيل تصورات النقد العربي البلاغي القديم مع إخضاع النصوص الأديية العربية القديمة والحديثة على السواء للتحليل بالمناهج الغربية. وعلى العموم نرى أن الكتب والمجلات الصادرة في العالم العربي في هذه الحقبة الحالية ناطقةٌ بأسماء المُساهمين في هذا العطاء النقدي المُميَّز بما فيه من محاولات جادة لاستعاب المناهج والنظريات والنقدية وتطويعها لتحليل النتاجات الأدبية العربية.

* كيف يمكن للنقد الأدبي في الوقت الراهن أن يتغلب على العديد من التحديات مثل: ظهور أشكال جديدة من الكتابة الأدبية الرقمية، النقد الأدبي الجماهيري ممثلًا في مواقع تقييم الكتب والبوكتيوب، بزوغ نجم النقد الثقافي مع عدم ثبات أقدامه بشكل مؤثر؟ 

- ليس هناك ضرورة مُلحَّة، في اعتقادي، تجعلُ النقد الأدبي الأكاديمي والمتخصص ينشغلان بما سمَّيتِه التَّغلُّب على العديد من التحديات المتعلقة بالكتابة الأدبية الرقمية والنقد الجماهري ثم ما أُفضِّل تسميتَه بظاهرة الكُـتــْيـُوبيَّة، وأصل التسمية اللاتيني المتداول هو booktUb، وأعزو ذلك إلى ما يلي: لم تُبرهن الكتابةُ الرقمية حتى الآن مُمَثَّلةً بنموذجها المشهور في العالم العربي وهو : رواية " شات " لمؤلفها الأردني محمد سناجلة.. أقول لم تبرهن هذه الكتابة الرقمية عن قدرتها على الاستمرارية أو إغراء مؤلفين آخرين باحتذائها لتحقيق تراكم يؤسس لنوع أدبي راسخ الحضور.

 ولعل سبب هذا التعثر راجعٌ إلى الاعتماد على آلية النص التشعبي  hypertexteالتي لا تقف عند استخدام اللغة بل تتعدى ذلك إلى الصورة والحركة والصوت والحوار والتنقل افتراضيا عبر المواقع التواصلية، فضلا عن أن المُغامرة التأليفية في هذا النمط الرقمي تقتضي امتلاك معارف أخرى متعددة غير الموهبة الأدبية، مثل البرمجة والإخراج الالكتروني والشبه سينمائي، مع توفر خبرات دقيقة في الصوت والصورة والإضاءة. كما نرى أنه حتى الآن لم يتم في العالم العربي رصدُ ناشرين مُشجِّعين، يتبنون نشر الكتابات الرقمية التشعبية. ورغم أن هذه الظاهرة " الإبداعية " خلقَت في بداية ظهورها اهتماما من قبل بعض المتتبعين والنقاد، فإننا نرى الآن أن الحماس في هذا الاتجاه قد خبا بشكل ملحوظ.

أما عن النقد " الجماهري "، فإسمه دالٌّ عليه، فهو نقدٌ عام مفتوح للجميع ومرتبط بمواقع التواصل الاجتماعي، كما أنه في جميع الأحوال يتشبث بالتحرر من أي ضوابط. ومع أننا لا ننفي كليا بأن بعض الآراء والصيغ النقدية الواردة فيه قد تكون دالة على ذكاء في الملاحظة والتقدير لأعمال أدبية يدور حولها النقاش، لكن هذه الآراء تكون غارقة وسط حوارات غير مُنظَّمة وتدخلات كثيرة خارجة عن الموضوع أو غير مُلتزمة بالشروط المعرفية، وأحيانا نراها تخرج عن نطاق اللياقة وربما تقع بكلامها في محذورات قانونية وأخلاقية. وهذا لا يؤسس مشروعا لتطوير النقد الأدبي بالشكل المطلوب.أما الظاهرة النقدية الكُتْــيُوبيَّة، فهي مجال يَميل إلى الدردشة المُنظمة حول الكتب تكون مفتوحة بالطبع لمشاركة المتخصصين وغيرهم، ويمكن اعتبارها أحيانا آراء شخصية سريعة أو انطباعية عن الكتب المقروءة أكثر مما هي تحاليل دقيقة أو مُوثَّقة عن تلك الأعمال.

ويبقى أن ما قد يشغل اهتمام وبال النقاد الأكاديميين والمتخصصين هو ما يُسمى بالنقد الثقافي الذي أشرتُ سابقا إلى طبيعته وأهدافه الأساسية، فكثير من المنشغلين به لهم فعلا بعض المعارف التي يدافعون بها عن تصوراتهم التي يكون هدفُها الأساسي هو إخراج النقد الأكاديمي والمتخصص من دائرة الاهتمام والأهمية، مع أنهما يجعلان الأدب في نطاق ما هو ايجابي باعتباره نتاجا له قيمة مُزدوجة، جمالية ومدلولية ذات علاقة حميمية بواقع الإنسان وأحلامه القادرة على مواجهة متاعب الحياة والبحث عن سبل التغلب عليها.

النقد الثقافي في معظم اتجاهاته لا يرى في الاهتمام بالأدب حاجة مرتبطة بوجود الإنسان وصيرورته بل يعتبره إنتاجا يُبَرهَنُ من خلال بنياته ومدلولاته على أن الإنسان خاضعٌ لأنساق اجتماعية تهيمن عليه وتتحكم فيه وأن فائدة الأدب الوحيدة عند التحليل هي أنه يسمح لنا بالكشف عن تلك الأنساق. هذا التصور الغالب في النقد الثقافي غايته الأساسية هي سحب البساط من تحت أقدام النقاد والأدباء على السواء، لذا يحق لهؤلاء أن يشعروا فعلا بالقلق على انشغالاتهم الهادفة.

على أنه من حسن الحظ أن الأدباء لم ينصرفوا أبدا عن خوض غمار تجاربهم الأدبية، لأنها مرتبطة بكينوناتهم وأحلامهم في تجاوز عقبات وأحزان الحياة ومواجهتها بصلابة ، كما أن النقد المؤسَّس على القيمة الإيجابية للأدب لا يزال يجد في النتاجات الأدبية بجمالياتها وأفكارها البناءة المُشاكسة لما هو مهيمن، ذريعة مشروعة لمزيد من الاهتمام بها وبوظائفها المتعلقة بتحسين الوجود الإنساني وتجاز كل ما يعرقل مساره نحو الأفضل. ولعل هذا بالذات هو ما جعلكِ الفاضلة حنان تقولين ضمن سؤالك الأخير هذا، بأن النقد الثقافي بِسبب عدم ثبات أقدامه لم يعد مُؤثرا ،كما كان عليه الأمر سابقا عند بزوغ نجمه. وهذا بالفعل ما هو حاصل في وقتنا الحاضر، فقد واصل النقد الأدبي أيضا حضوره الراسخ في أحتضان الأدب بشتى تجلياته الإبداعية والدلالية.  

 

حاورته: حنان عقيل

 

في المثقف اليوم