حوارات عامة

حوار مع المفكر والشاعر د. حسين الهنداوي

2314 حسين الهنداويعندما يمتزج الشعر بالفلسفة حتما ستكون الحصيلة نوع خاص من السمو في المعاني والتنوع في الاغراض الشعرية والتعمق في الذات والمحيط .وحتما ستكون الفلسفة معيارا حاكما في فهم مايصوغه من درر.. بعيدا عن السياسة وكل تعقيداتها ومتطلبات الانتخابات وصراعاتها.. التقينا اليوم الاستاذ الدكتور حسين الهنداوي مستشار رئيس الوزراء لشؤون الانتخابات وحاورناه حول منجزه الادبي والفكري.. ففي البداية نرحب به ضيفا عزيزا على صحيفتنا . ونحب ان نعرّف القرّاء الكرام بضيفنا الكريم.

- اسم الشهرة: الدكتور حسين الهنداوي

- الاسم الكامل: عبد الحسين يعقوب عزيز الهنداوي

- مكان وتاريخ الولادة: (الهندية - العراق 1947)

- البلد الأصلي: (العراق)

- التخصص الجامعي: الفلسفة الحديثة.

- اللغات: العربية والفرنسية والإنكليزية وبعض الكردية..

- التحصيل الأكاديمي:

دكتوراه بدرجة شرف في الفلسفة الحديثة (باشراف البروفيسور جاك دونت)، فرنسا، جامعة بواتيه،1987.

ماستر في الفلسفة الحديثة، فرنسا، جامعة بواتيه، 1982.

دبلوم في اللغة الفرنسية، جامعة بواتيه، فرنسا، 1977

بكالوريوس في الفلسفة، كلية الآداب، جامعة بغداد، 1970.

اكمل دراسته الابتدائية في الهندية (طويريج) والاعدادية والجامعية في بغداد.

شاعر وكاتب عراقي،

التخصص الأدبي: شاعر ومفكر.

المؤلفات المنشورة

“هيغل والاسلام”، (باللغة الفرنسية)، منشورات دار (Orients Éditions) باريس 2021. 320 صفحة. وهذا الكتاب اول دراسة اكاديمية موثقة حول منظور الفيلسوف الألماني الشهير هيغل عن الاسلام كما عن الاصول الاسلامية لبعض الافكار الهيغلية الاساسية.

“التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل” (الساقي، بيروت 1996). طبعة ثانية قيد النشر

“هيغل والفلسفة الهيغلية” (الكنوز الادبية، بيروت 2004).

“على ضفاف الفلسفة”- (بيت الحكمة، بغداد 2005).

“اخاديد” (مجموعة شعرية، منشورات عراق للابداع، اربيل 2012).

“محمد مكية والعمران المعاصر” (دار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012).

“فلاسفة التنوير والاسلام“: فولتير، جيبون، مونتسكيو، روسو، هيردر، غوته، هيغل، ونابليون..” (منشورات دار المدى، بيروت 2014)

“الهندية طويريج، بيتنا وبستان بابل” (منشورات دار المدى، بيروت 2015)

“استبداد شرقي ام استبداد في الشرق؟” (منشورات دار المدى، بيروت 2016)،

و”لبنان 1991، رحلة في كوكب ممزق“، (منشورات دار المدى، بيروت 2018)،

“الفلسفة البابلية“، (منشورات دار المدى، بيروت 2019)،

“مظفر النواب، تأملات وذكريات“،(منشورات دار المدى، بيروت 2021) قيد النشر.

“ولادة الكون لدى طائفة “اهل الحق” او العليّلاّهيّة” (تأليف محمد مكري) ترجمة عن الفرنسية، (أصوات- 1994) لندن، المملكة المتحدة.

كتب قيد الصدور بالعربية: “في الفكر الفلسفي العراقي المعاصر“، “دولة اللادولة في الفكر الحديث“، “في نقد العقل الامريكي“، “المفكر البابلي بيروسا”، “علي الوردي والمنهج الجدلي”.

له عشرات المقالات والمحاضرات والمقابلات الفلسفية والادبية والصحفية منشور معظمها في دوريات ومجلات رئيسية اهمها “الاغتراب الادبي” و”نزوى” وصحيفة “الحياة” و”دراسات شرقية” و”الصباح” و”الصباح الجديد” والحكمة” “اضافة الى مجلة “أصوات” التي اسسها مع ادباء وفنانين عراقيين آخرين في فرنسا عام 1976. كما ترجمت له عشرات المقالات الى لغات اجنبية ابرزها الانكليزية ونشرت في عدد من ابرز الصحف الامريكية من بينها (الناشيونال انترست) و(الناشيونال رفيو) والواشنطن تايمز والعديد غيرها.

الجوائز التي رشح لها:

الجائزة السنوية لعامي 2001 و2002 المخصصة لأفضل مقال لصحفي اجنبي مقيم في المملكة المتحدة.

الاتحادات الأدبية والفكرية المشارك فيها:

1- مؤسسة (عراق للإبداع)، رئيس المؤسسة منذ 2005 ولحد الآن،

2- الجمعية الفلسفية العراقية في الخارج، عضو مؤسس.

3- نقابة الصحفيين البريطانية. عضو دائم.

4- جمعية الصحفيين الاجانب في بريطانيا. عضو 1997-2002.

اهم الخبرات والمواقع المهنية:

مستشار دولي أقدم لدى الامم المتحدة واليونسكو بين 2008و2015، واول رئيس للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق بين 2004 و2007، ورئيس تحرير القسم العربي لوكالة يونايتدبرس العالمية للانباء(UPI) لتسع سنوات بين 1995 و2004، وعضو بعثة منظمة الامم المتحدة لحقوق الانسان الى هايتي بين 1993 و1995. ومبعوث منظمة العفو الدولية الى لبنان واليمن بين 1991 و1993، ثم عضو وفدها الى اليمن خلال الحرب الداخلية في 1994، وقبلها مؤسس القسم العربي في جامعة بواتيه الفرنسية والمحاضر الاساسي فيه بين 1982 و1985، وكاتب في ابرز الصحف العربية (الحياة، السفير، المدى، القدس العربي..) منذ 1980 الى الآن.

نشاط سياسي:

مستقل سياسيا منذ خروجه من العراق في منتصف السبعينات. انتقل مع عائلته من الهندية الى بغداد في نهاية 1960. واشتغل منذ نهاية 1962 عامل في مطبعة الهلال ثم في مطبعة ثنيان ببغداد، عمل بعدها مراجعا لغويا في مجلة “العاملون في النفط” حيث نشر عددا من القصائد والمقالات الادبية بموازاة النشر في عدد من الصحف العراقية. بعد ايام من تخرجه من جامعة بغداد عام 1970، اعتقل من قبل اجهزة السلطة البعثية في 10/5/1971، وتعرض للتعذيب اثناء التحقيق. وقد اضطر بعد اطلاق سراحه، الى الهرب من بغداد والتخفي داخل العراق لنحو اربع سنوات ملتحقا بالحركة الثورية العراقية المعارضة قبل ان يتسلل الى سوريا ثم الى لبنان في 1975، ومنه لاجئا سياسيا الى فرنسا حيث درس اللغة الفرنسية واشتغل عاملا في الزراعة والبناء ثم مترجما ثم مدرسا في جامعة بواتيه الفرنسية بعد اكمال الماجستير والدكتوراه فيها كما اسس القسم العربي لكلية الآداب في الجامعة نفسها والموجود لحد الآن وعمل فيه لسنوات قبل ان ينتقل عام 1990 الى العمل الصحفي اولا ثم مستشارا دوليا لحقوق الانسان لدى منظمة العفو الدولية وبعدها مستشارا لدى الامم المتحدة منذ 1993 في هايتي وجمهورية الدومينيكان قبل ان ينتقل الى منصب رئيس تحرير القسم العربي في وكالة انباء عالمية لثمان سنوات انتهت بعودته الى العراق بعد سقوط النظام السابق واختياره من قبل الامم المتحدة للاشرف على انشاء مفوضية الانتخابات في العراق ورئاستها لسنوات، واخيرا عودته مستشارا دوليا اقدما لدى الامم المتحدة من جديد.

2314 حسين الهنداوي

س: عند قراءة سيرتك الذاتية المشرقة، ألا ترى أنك تحبس قدراتك بجلوسك في هذا الموقع، أي كمستشار رئيس الوزراء للانتخابات؟ وهل يستحق منصبكم الحالي كل هذه التضحية؟

- هذا السؤال يطرح دائماً لا سيما من الأصدقاء والمعارف. وقد طرحته انا نفسي مرارا. حتى رئيس الجمهورية سألني هذا السؤال المحرج قبل أسابيع: “مكانك ليس هنا! ألا ترى معي بانك تضيع وقتك في مهنة الانتخابات..” قال لي د. برهم صالح بمودة عالية امام مشاركين في اجتماع بمكتبه بينما كان يقلب صفحات كتاب لي عن “الفلسفة البابلية” اهديته نسخة منه آنذاك. وهو على حق بلا ريب. ولكن، ومع اعتزازي البالغ بهذا التثمين، لا اعتقد بان حسم الاختيار بين الفلسفة والحياة العملية سهل او ممكن كمجرد خيار شخصي لا سيما في بلد كالعراق حيث على الكاتب ان ينخرط في شلال الحياة بما فيه من تناقضات واخطار اذا قرر مقاومة العزلة ورفض التحول الى مجرد متقاعد او مجرد مثقف يعد أوراقه الأخيرة وهو في طريقه الى الانقراض. وفي كل الأحوال، لا اترك فرصة سانحة دون ان اوظف فيها الطاقة المعرفية التي امتلكها سواء في كتابة نص او في نشاط جامعي او في فعاليات حيوية لمنتديات فكرية او أدبية في العراق او مع الجاليات المغتربة. وعلى العموم، ان أي منصب لا يستحق التضحية ولا قيمة له امام جلال الشعر او الفلسفة ومهما كان.

س: هل تسمح لك مهماتك الوظيفية في الانتخابات بامتلاك الوقت والتركيز اللازم لمواصلة الاهتمام بالفلسفة والادب؟

- يعتمد الامر على مواسم العمل والاولويات والظروف. لكن على العموم لدي دائما الوقت اللازم لمتابعة اهتمامات الفكر والكتابة. انا موظف انتخابات دولي منذ عقود. وهي عمل يدوي او عضلي اذا جاز القول ولا تحتاج الى طاقة ذهنية كبيرة على عكس الكتابة الأدبية والفلسفية. لكنني لست موظفا عاديا. فهنالك في عملي بالانتخابات العراقية لا سيما المقبلة عوامل جذب وتحديات فكرية وسياسية تغرينا بالعمل من اجلها ولو جزئيا. فمن جهة هناك قناعة بامكان تقديم خدمة ولو بسيطة من خلال المساهمة في دعم اجراء انتخابات مبكرة وعادلة وحرة ونزيهة. بالتأكيد لا توجد ضمانات كافية كما ان هناك كثيرون لا يؤمنون بواقعية هذا المشروع. الا انه لا خيار لنا سوى المحاولة وتصحيح المحاولة وكل التجارب العالمية في دول العالم النامي مرت بهذا الطريق الوعر ونجحت غالبا. العامل الآخر هو انني امتلكت معرفة تقنية وسياسية مطلوب مني توظيفها اليوم. ولا ضير ان يلتقي هذا مع طموحنا طموح اغلبية العراقيين باجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة.

س: هل سيتمكن العراق من انجاز هذه المهمة؟

- العراق وطن حقيقي فضلا عن انه يمتلك ما لا يمتلكه غيره في المنطقة من طاقات بشرية وطبيعية وحتى روحية تجعله قادرا على تجاوز حالة الرجل المريض التي يعانيها حاليا الى حالة القوة الإنسانية البناءة وحتى القيادية. بلا شك، هناك اليوم صراع ينبغي الانتصار فيه، ومعركة ينبغي الفوز بها. نعم يمكننا اجراء انتخابات ديمقراطية نظيفة وعادلة اذا وفرنا الشروط اللازمة لها وقدمنا كل الدعم للمفوضية لتمكينها من تحقيق النجاح في تعميم الاعتماد على النظام البايومتري حصرا في كل مراحل العملية الانتخابية الى جانب توفير المراقبة الوطنية والدولية الفعلية وقيام الدولة بتوفير بيئة آمنة وحرة للانتخابات عبر كافة الإجراءات الممكنة وحظر السلاح المنفلت والمال السياسي المنفلت ورفض التدخلات الخارجية والداخلية المسيئة لنزاهة العملية الانتخابية فضلا عن تفعيل تنفيذ العقوبات القانونية على كافة الجرائم الانتخابية وتشديدها دون اغفال لزوم قيام القوى الجديدة والشابة بتنظيم نفسها ومضاعفة استعدادها لضمان تحقيق فوز حقيقي ولو نسبي في الانتخابات.

س: كيف ستسمح له الحيتان التي تحيط به بتحقيق هذا الهدف؟

- إرادة الشعب يجب ان تحترم باعتباره مصدر السلطات والانتخابات لن يكون لها أي معنى اذا لم تكن حرة ونزيهة. بلا شك هناك عقبات وصعوبات وحيتان لكن العراق بحاجة مصيرية الى التغيير والخروج من حالة الخطر التي يمر بها الآن وعلى الجميع الاستجابة لإرادة الناس بحياة كريمة اقتصادية وسياسية أيضا لا سيما واننا امام مجتمع كبير قوامه حوالي اربعين مليون نسمة في بلد عريق بالحضارة والثقافة والثقة بالنفس لكنه يعاني في نفس الوقت من مرارة الفشل ومن معاناة كبيرة جدا وعميقة. وانا اعتقد ان هذه الوضعية لا يمكن ان تستمر طويلا. فحتى من وجهة نظر فلسفية لا يمكن لها ان تستمر كونها غير عقلانية وخرجت من كل الاطر تقريبا. على العكس اعتقد ان القوى القديمة خسرت المعركة مع الشعب أصلا وهي تدرك ذلك كما تدرك انها فقدت السيطرة على مقاليد الامور رغم كل المظاهر ولذلك فهي تحاول الان ان تتكيف مع الحقائق الجديدة.

س: الا تعتقد بانك تتبنى نظرة متفائلة جدا؟

- قد يكون ذلك وهو ضروري. هناك اليوم قوى قديمة تلفظ انفاسها ولكنها ما زالت تقاوم. هناك تقييمات مختلفة وهذا صحيح. البعض وصفها بانها أصبحت نمورا من ورق فيما يرى أخرون ان اوراقها انكشفت واسلحتها باتت قديمة لكنها ما زالت نمورا. انا اعتقد ان هذه القوى استهلكت نفسها ولم يعد لديها ما تقدمه للمواطن. الا ان غياب البديل الجديد هو المعضلة الأساسية الآن. ومن وجهة نظر ديالكتيكية أرى ان هناك امل قوي بتغيرات إيجابية كبيرة في العراق خلال السنوات المقبلة ولدي الثقة الكاملة بأن الوضع لا يمكن ان يستمر على هذه الصورة بعد الآن ولذلك اشعر ان هناك مجال لدي لتقديم عمل مفيد من خلال الانتخابات وهذا يتيح لي التواصل مع الناس.

س: لماذا اخترت الفلسفة هل كانت طموحك الشخصي ام فرضتها عليك رغبات القبول المركزي؟

- فرضتها رغبات القبول المركزي الجامعي بالفعل. فعند التقديم الى جامعة بغداد في العام الدراسي 1966 -1967، اردت الالتحاق بقسم اللغة العربية بكلية التربية لأنني كنت اطمح ان احصل على وظيفة مدرس بعد التخرج، وكانت وظيفة تضمنها الدولة لخريجيها دون الكليات الأدبية الأخرى. لكن الحظ لم يحالف حفنة طلاب حفاة كنت احدهم، اذ رمونا وملفاتنا في لحظة حرجة اسرعت اثرها الى كلية الآداب لأجد ان كافة الأقسام “البرجوازية” قد أغلقت أبوابها ولم يعد امامي سوى اقسام الاجتماع والصحافة والاثار والفلسفة فتشبثت بهذا الأخير رغم تحذيرات كثيرين من التورط باختيار هذا القسم “التعبان” بنظرهم. واتذكر عندما دخلت الى الصف الأول في قسم الفلسفة اننا كنا ستة عشر طالبا مبعثرين في القاعة لا يعرف احدنا الآخر كما لو انهم جميعا جاءوا الى قسم الفلسفة مرغمين هم ايضا وربما بنفس الطريقة التي اوصلتني اليهم لكننا سرعان ما بنينا علاقات تعاون طيبة.

س: لو عاد بك الزمان، وأعطيت لكِ فرصة ثانية للاختيار، هل كنتَ ستختار قسما آخرا غير الفلسفة؟

- لن يعود الزمان الى الوراء طبعا. لكن اذا خيرت من جديد افتراضا لأخترت قسم الفلسفة دون تردد. فقد صرت افضله على كافة الأقسام الأخرى في كلية الآداب والتربية أيضا مع احترامي لهما. لكنها كانت مسيرة طويلة وعسيرة قبل الوصول الى هذا الاستنتاج. وللحقيقة كنا محظوظين ان نعاصر تلك الحياة الجامعية الجميلة في كليات جامعة بغداد في منتصف الستينات وقبل الانقلاب البعثي في تموز 1968 الذي كانت اعتداءات جلاوزته على الهيئات التدريسية والطالبات والطلاب كارثة على المستوى العلمي ما تزال الجامعات العراقية تدفع ثمنها الى الآن. فقبل ذلك الانقلاب كان الكليات زاهرة بالأنشطة الثقافية والعلمية ولا سيما كلية الآداب التي اشتهرت بمهرجانها الشعري السنوي الذي تنافس فيه شعراء الكلية وكنت المضطهد دائما بينهم نظرا الى انني من قسم الفلسفة بينما كانت اللجنة التحكيمية متكونة من أساتذة اللغة العربية المنحازين الى تلاميذهم بشكل فاضح غالبا. اما قسم الفلسفة فقد اشتهر بنخبة من الأساتذة لعلهم الأفضل في كل تاريخ القسم ما منح تلك الفترة تسمية “الفترة الذهبية” لتدريس الفلسفة في العراق وكان ابرزهم المفكرون الراحلون مصطفى كامل الشيبي وحسام الالوسي وياسين خليل ومدني صالح كما تميز القسم بجريدة جدارية باسم (الفكر الجديد) كانت تستقطب الطالبات والطلاب وكنا نحررها كاملة واتذكر انني نشرت فيها أولى كتاباتي وقصائدي.

س: قال تعالى (يُؤْتِى ٱلْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ. وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا..) سورة البقرة الآية 269.. ومعنى كلمة فلسفة هو حب الحكمة. وهذا يجعل من الفلاسفة اشخاصا حكماء ومفكرين والاهم من ذلك رساليين أي بمعنى اصحاب رسالات.. فهل انت كذلك .؟ وماهي رسالة حسين الهنداوي؟

- انا لا زلت تلميذا بسيطا ونقطة صغيرة في بحر الفلسفة المترامي. الفلسفة نور عظيم. وحب الفلسفة نعمة بكل المعاني. وهذا ما صرت اتيقن منه يوما بعد آخر. وهذه هي الرسالة. وهي موجودة تلقائيا وربما فطريا لدي الا ان تجلياتها تسمو وتتجدد يوما بعد يوم. ولم يكن هناك تخطيط لها ولم يكن هناك مشروع. خلال فترة الدراسة الجامعية في بغداد كانت هناك نبتة بالفعل لكنها ذبلت بفعل طغيان الشعر على معظم الاهتمام والعنفوان، ثم اهملت تماما ونسيت لصالح هموم السياسة والأيديولوجيا وكذلك الشعر الذي ظل يقاوم. لكن الفلسفة عادت بشكل اقوى من أي وقت مضى بعد الانتقال الى فرنسا والعودة الى الدراسة الاكاديمية وخاصة الفلسفية في جامعة بواتيه حيث مركز دراسات هيغل وماركس الذي انشأه وظل يديره استاذنا الراحل البروفيسور جاك دونت عالم الفلسفة الفرنسي العالمي الأهمية في دراسة الفلسفة الهيغلية. وهكذا ومع مرور الزمن والتجربة صارت الرسالة هي جعل الفلسفة تلعب دورا اساسيا في خدمة ثقافتنا الوطنية قدر المستطاع.

س: هل تواكب الثقافة العرقية تيارات الفلسفة العالمية المعاصرة في نظرك وكيف تدعم ذلك؟

- اعتقد ان الثقافة العرقية الراهنة بين انشط الثقافات العربية في مجال التفاعل الحيوي والبناء مع تيارات الفلسفة العالمية المعاصرة. وهذا ليس جديدا وان كان يتم بشكل عفوي وغير منهجي في الغالب. لكنني أرى ضرورة العمل أيضا على تأصيل العلاقة بين الفلسفة وثقافتنا التاريخية على أساس علمي لأن الثقافة ومنها الفلسفة هي البعد الأساسي في الهوية الوطنية العراقية وهو ما يميزها ويغنيها منذ البداية وعلينا مواصلة تغذيته وفق شعار (زرعوا فأكلنا..) وتعميق النزعة الإنسانية العالمية فيها ومن هنا تعاملي مع الفلسفة البابلية كالأصل البعيد للعقلانية الكونية الحديثة واعتقد اننا كلما توغلنا اكثر في البحث كلما اكتشفنا مناطق خصبة جديدة في الثقافة العراقية الاصلية وايضا في الفلسفة، وهذا ما حاولت تأكيده في كتابي عن الفلسفة البابلية غبر تقديم دلائل مؤكدة تقريبا على ان كلمة فلسفة اصلها بابلي ومعناها “حب الحكمة” أيضا وهذه الاطروحة أصبحت متداولة جدا حاليا حتى خارج العالم العربي. ونفس الشيء حول موضوع الدولة الذي نعمل على تعميق الحوار الفلسفي حوله في سلسلة مقالات عن نظرية الدولة ما بين هيغل وابن خلدون كشفنا فيها عن عمق فكرنا الفلسفي السابق واصالة اطروحاته في بناء الدولة وهيكليتها وشكل الدول وهذا الحوار مطلوب الآن في التعامل مع النظريات الفلسفية حول الدولة سواء كانت اسلامية كالتي يمثلها ابن خلدون او غربية كالتي يمثلها هيغل او غيرها.

س: اين تكمن قوة فكرة الدولة لدى هيغل في رأيكم؟

- تكمن في التأكيد على ان الدولة هي العقلاني والمطلق والثابت الذي تبلغ فيه الحرية سموها الاقصى. لكن للوصول الى الدولة التي يجد فيها الفرد نفسه حراً تماماً يتوجب على الانسان تطوير عدة اشكال من الدول، بموجب عدة مبادئ وعبر عدة حقب تاريخية ابتداء من اللحظة التي يبدأ فيها قطيعته مع حالته البدائية على المستوى الحضاري العقلاني. أي ان الدولة هي الاساس والاطار التي تنمو به الحضارة ككل بما فيه الفن وضروبه المختلفة مثل الشعر والموسيقى والعمارة والمسرح وكل الامور الاخرى وايضا بالنسبة للفلسفة نفسها والتيارات الفلسفية، تحتاج الى هذا الاطار الذي يحميها وايضا يوفر لها الحريات الأساسية. وبالنسبة للفكر الهيغلي ان الدين هو مصدر الدولة، وان شكل العلاقة بين الله والانسان في أي دين هو الذي يخلق شكل الدولة وهذا ينطبق حتى على ابسط اشكال الدول. فحتى في دولة الطبيعة في افريقيا مثلا هناك علاقة روحية تشعر بها الإنسان بسموه.

اما سر صمود الفلسفة الهيغلية فتلخصه ببساطة جملة واحدة وهي: لا يمكن ان تكون هيغليا بعد هيغل. أي أن الهيغلية مفهوم متحرك كالحياة. لان الديالكتيك يغذي بل يفرض ديمومة الصراع والفكر المتجدد وانا اعتقد ان اهم ما تعلمته من الفلسفة هو لا دوغمائية ولا عقائد جامدة بعد اليوم. أي انه ليس هناك حي الا هذا الصراع الذي يبدو بمثابة ينبوع الحياة المتجدد والمستمر والذي نحاول ان نكون جزءا منه لكن الجزء الحي في نفس الوقت وليس فقط مجرد تكرار باهت او تكرار ميكانيكي لما يحدث. وهذا التكرار نجده في الايديولوجيات والشعارات، وانا خلال تجربتي في العمل السياسي او الحزبي وجدت نفسي اصطدم غالبا مع المسؤولين الحزبيين وخاصة هؤلاء الذين نطلق عليهم (الأيديولوجيين) اذ غالبا ما يكون هؤلاء اكثر قمعا حتى من شرطة القمع كما لو أن الأيديولوجي يشعر الرغبة بالانتقام كلما شعر بالهزيمة الفكرية او كلما شعر بلزوم التخلي عن فكرة لديه.

س: بعد كل هذه الدراسة والبحوث التي اطلعنا على الجزء اليسير منها فوجدناها غنية بالمعرفة والحكمة وخصوصا في مجال بناء الدولة هل كانت لكم رؤية في هذا المجال منفصلة عما يطرح الان؟ وهل آمن بكم احد؟

- الفكرة الجوهرية هي رفض الاستبداد بكل اشكاله لأن الاستبداد قد يبني أقوى بلاطٍ او سلطة قمعية لكنه لا يستطيع ان يبني الدولة لا سيما دولة الحقوق التي نطمح الى بنائها وهي نقيض الاستبداد بالطبع. نعرف جيدا وهذا ما ركزنا عليه بالتفصيل في كتاب (استبداد شرقي ام استبداد في الشرق) ان القوى الاستعمارية الاجنبية اتهمت كل الدول الشرقية والإسلامية على مر التاريخ بالطغيان والاستبداد لتبرير احتلالها لبلداننا. الا ان كل هذا وغيره لا ينبغي ان ينسينا حقيقة ان تاريخ الدولة في الشرق لم يكن الا سلسلة لا تنقطع من الأنظمة الاستبدادية وغالباً البشعة. ومن هنا استنتاجنا المعروف بحقيقة ان هناك استبداد في الشرق والغرب على حد سواء وهو ما يؤكده التاريخ السياسي الغربي، حتى الثورة الفرنسية على الأقل، حيث توالت على الحكم سلسلة من الانظمة الاستبدادية والمطلقة غالباً الأمر الذي يعني ان من الخطأ القول بوجود علاقة قدرية بين الاسلام والطغيان أو بين الشرق والعبودية تماماً كما انه محض وهم القول بوجود علاقة قدرية بين الغرب والحرية أو بين المسيحية والديموقراطية.

س: طبيعي هذه حاجة الانسان الى دين تفرض عليه هذه الحالة اذا لم يجد الله ليعبده تجده يضع حجارة ليعبدها ولكن دعنا نناقش بناء الدولة في الفكر الاسلامي ..هل حدد الدين الاسلامي شكل الدولة او نوع الاقتصاد؟

- في كل الاديان هناك موقفان او تياران يمكن ان نطلق عليهما يساري ويميني، المحافظ والمنفتح وهذا يشمل الإسلام الذي يركز على فكرة العدالة والمساواة دون ترويج نموذج محدد او ثابت لشكل الدولة. على المستوى العملي، واذا استثنينا الفترة الراشدية، فان كل السلطات المنتسبة الى الإسلام بدءا من السلطة الاموية حتى السلطة العثمانية هي أنظمة قمعية لا علاقة لها بمفاهيم العدالة والمساواة وغيرها التي دعا لها الإسلام. وهذه العلاقة البعيدة عن مفاهيم الإسلام وحتى المضادة له هي ما تستند اليه بعض الجماعات المتطرفة والارهابية بزعم التفسير الاصولي للنص وامثال هذه الجماعات الأصولية الاعتباطية وجد بشكل مبكر في الواقع ونعرف الاعتداءات التي تعرض لها مفكرو المعتزلة في بغداد وغيرها من قبل الجماعات الأصولية المتطرفة لمجرد انهم سعوا الى التأويل على أسس عقلية دعا اليها القرآن الكريم ذاته وفي اطار المحافظة على الاصول الاساسية وخاصة التوحيد والعدل وغيرها من مسائل أساسية ترسم العلاقة بين الله والانسان وبين المجتمع والافراد وانعكاس ذلك في الدولة سواء كانت اسلامية او غير اسلامية، وانا اعتقد من الضروري جدا الآن العودة الى احياء وتطوير الأفكار والجوانب العملية غير المكتشفة لحد الان في فكرنا حول الدولة وعبرالعمل على عزها دون السقوط في حبال المصلحية النفعية او التعصب او الابتعاد عن جوهر مبادئ العدالة والمساواة والتضامن والتسامح التي يبشر بها الدين نفسه.

س: معروف عن المؤسسة الدينية بكل اشكالها ايمانها بالنظم الثيوقراطية وهذا يتعارض مع اراء المفكرين والفلاسفة والحكماء وغالبا ما تكون نهاية الفلاسفة على يد رجال المؤسسة الدينية على مر العصور.. هل عانيت من هذا الموضوع وما هو موقف المؤسسة الدينية مما تطرحه من افكار تنويرية؟ ام انت متصالح معها فيما تطرحه من افكار في بناء الدولة؟

- هذا سؤال مهم جدا لكن الامر لا يخص هذا الدين او ذاك او هذه المؤسسة الدينية ام غيرها خاصة وان الأديان والقادة الروحانيون الحقيقيون يؤكدون جميعا الآن على العدالة والمساواة والحقوق الفردية وحرية المعتقد وحتى حقوق الانسان. المواجهة بين المفكر والمؤسسات الدينية ليست حتمية كما كان الامر في الماضي لكنها ستكون مواجهة عبثية لمن يصر عليها وضارة بالجميع. مشكلة المفكر الحقيقية هي مع السلطة السياسية وليس الدينية في الواقع. وعلى اية حال فان قدر المفكر ان يمشي بين ألغام ليس له يد في صنعها. كل مؤسسة تعتبر نفسها عليا تنظر الى المثقف بارتياب وهذه بديهية. حتى في الأحزاب الأكثر أيديولوجية وديمقراطية في العالم لا سيما الثالث هناك مواجهة ما لا مفر منها تنتظرك.

في بداية حياتي السياسية والفكرية وعندما كنت في حركة يسارية جيفارية الهوى واجهتنا هذه الحقيقة بشكل صادم. الصدام مع القيادة العليا كان قدرا تتفاقم خطورته مع الأيام في تجربة قاسية جدا لنحو ثلاث سنوات ونصف في أعالي جبال تكاد تلامس السماء لم يكن يهم الزعيم خلالها الا تكريس سلطته العليا وعصمته. لكن مع ذلك كانت تجربة عظيمة في جوانب عديدة منها لا سيما في هدفها النبيل بالخلاص من النظام البعثي الفاشي الذي عاث في الأرض فسادا ما بعده فساد. ان تجربة حركة الكفاح المسلح التي شهدها العراق في نهاية أعوام الستينات الماضية تحتاج الى وقفة طويلة جدا لسرد دروسها ومجرياتها التي هي صفحة نيرة من تاريخ العراق الحديث وشارك فيها عدد كبير من العراقيين المناضلين وبينهم شعراء وكتاب وعمال وفلاحون من كل انحاء البلاد. ومع ذلك كنا دائما نصطدم بالقيادة التي بدت لنا كمجرد دكتاتورية مصغرة كان علينا أحيانا ان نتجنب التصادم معها كي نواصل الحياة من جانب ونواصل عملنا الثوري ضد النظام الدموي من جانب اخر.

س: للشعر حصة ايضا في حديثنا ..كيف تمكن الشعر واقتحم عالم الفلسفة الذي تعيشه ؟ كيف كانت البدايات؟

- في البدء كان الشعر وقبل الفلسفة لدي في الواقع. فقد بدأت كتابة الشعر منذ أعوام الدراسة في المتوسطة اذ كانت اول قصيدة وتحديدا في منتصف 1963 ثم تطور الامر خلال الدراسة الإعدادية اذ كتبت قصيدة في رثاء الشاعر بدر شاكر السياب وأخرى وجدانية اردت ايصالها الى ام كلثوم كي تغنيها وكانت مستلهمة من قصيدة الاطلال وقصائد أخرى احداها عن استشهاد الامام الحسين (ع) وكنت آنذاك طالبا في الصف الرابع بثانوية الشعب بالكاظمية وكان عمري حوالي 17 عاما. وقد ساهم في بلورة قدراتي الكتابية اهتمام مدرس اللغة العربية في ثانوية الشعب آنذاك وهو الاديب والشاعر مظفر بشير وكان استاذا كريما جدا كان يحول درس المحادثة في كل يوم اربعاء الى درس لابراز مواهبنا البسيطة بالسماح لكل طالب بالقاء خاطرة او قصيدة امام التلاميذ ثم يدعو التلاميذ الى مناقشتها وهذه كانت تجربة مبكرة وجديدة ربما في ذلك الوقت. وكنت مع تلميذين او ثلاثة آخرين نتفرد في قراءة القصائد والخواطر كل أسبوع تقريبا وفي احد المرات اخذ مني الأستاذ قصيدة ونشرها في بريد القراء بجريدة البلد البغدادية وكان ذلك في حوالي عام 1965 وقد مثل منعطفا في حياتي الشعرية. وبالفعل فقد نظمت الكثير من القصائد العمودية القصيرة لأغراض شتى. وحين انتقلت الى الدراسة في كلية الاداب في صيف 1966، كانت مهاراتي الشعرية قد تبلورت بشكل افضل ما سمح لي بنشر نصوص منها في صحيفة جدارية خاصة بطلاب قسم الفلسفة توليت تحريرها وكان مما نشرته قصيدة غزلية بسيطة سرعان ما شاهدت احد الطلاب ينقلها ويرددها باعجاب اثار فرحي، وقد شجعني ذلك على مواصلة كتابة الشعر العمودي قبل ان أتقدم للمشاركة في مهرجانات كلية الآداب السنوية بانتظام ونلت عدة جوائز تشجيعية كما نشرت العديد من القصائد في الصحف والمجلات العراقية وقد جمعتها لاحقا في مجموعة شعرية باسم (رمال) اجازت وزارة الثقافة آنذاك نشرها الا انها لم تر النور ابدا. بيد انني نشرت عددا من القصائد والمقالات في مجلة (العاملون في النفط) اثارت اهتماما ومكافآت واشهرها ربما قصيدة (بيادر الصمت) التي لحنها الفنان نامق اديب.

س: ماهي حصيلة هذه الرحلة مع الشعر ؟ هل كانت غنية مثلما هي الفلسفة ام شيء عابر ؟

في عام 2013 صدرت لي مجموعة شعرية أولى بعنوان (اخاديد) وهناك مجموعة أخرى في الطريق الى النشر قريبا. وهناك قصيدة عن بغداد لحنها الموسيقار نصير شمه وانتظر ان يتم اطلاقها قريبا. وهناك عشرات القصائد الأخرى غير منشورة. الشعر في نظري اصعب واقرب الى الروح من الفلسفة برغم ان قصائدي المتأخرة اهتمت بالبعد الفلسفي بشكل خاص. منها قصيدة: الأيّامُ..

حمَلتْنا في رحمِها كالسّلاسلْ،

وأرضعتنا مرارةَ المحبّة، وهشاشة القصبْ..

الأيّامُ.. الأيّامُ..

أوصدت أبوابها بالحجارة

وأعطتنا مهبَّ الريح.. وأعطتنا..

صهيلاً لأجسادنا.. ومنافذَ.. وأوديةً سحيقة

فركضنا كالدخان الأبيض

نحو فضاءاتٍ متعالية..

ركضنا.. مطهّمين

بجنونٍ.. يقطننا.. كالنور..

س: للوطن مسكن في قلب الشاعر فهل حل هذا الوطن في قلب شاعرنا ام جرفت الغربة هوى الوطن بعيدا؟ ام مازال الوطن يسكن في قلبه ؟

 - في الثالثة والعشرين من العمر تركت بغداد فجر يوم 12/5/1971 هربا من الاعتقال بتهمة معارضة النظام البعثي وكان علي قطع المسافة طولا من بغداد الى ناحية كلالة الواقعة قرب اقصى الحدود الشمالية مع ايران. وهناك واصلت عملي مع المعارضة العراقية من اجل اسقاط النظام كما ذكرت. وفي السادسة والعشرين من العمر قطعت العراق عرضا من الحدود الإيرانية الى الحدود السورية وذلك في شهر آب من عام 1974، حيث قطعت الطريق بالسيارة لبعض الوقت مرة ثم على ظهر بغل لفترات او سيرا على الاقدام في الغالب اذ كان علي التسلل الى الأراضي السورية هربا من الجيش العراقي الذي كان يتقدم سريعا باتجاه احتلال المنطقة باسرها.

في سوريا بقيت سرا لفترة قصيرة قبل ان احصل على فرصة الذهاب الى لبنان بغرض العمل الا انني فوجئت باندلاع الحرب الاهلية اللبنانية ومن هناك ذهبت الى فرنسا بجواز قديم وذلك في العام 1975 الامر الذي سمح لي بالتسجيل في الجامعة لاستئناف دراسة الفلسفة من جديد. العراق كان معي دائماً في كل المحطات كما ان العودة الى العراق كانت هدفا معلنا بالنسبة لي ولكثير من المناضلين اليساريين. وفي فرنسا لم اتوقف يوما عن عملنا المعارض للنظام العراقي الا ان الصحافة والثقافة غدت الميدان الأساسي لنا وكانت مجلة (أصوات) التي اصدرناها في فرنسا ثم في لندن شاهدا قويا على مواصلة عملنا من اجل العراق. وفكرة العودة الى الوطن كانت تعيش معنا الى درجة رفضنا في البداية ان نطلب اللجوء السياسي والذي لم احصل عليه الا بعد مضي اثني عشر عاما كنت اعيش خلالها بصفة طالب مقيم وبدون جواز عراقي. والحقيقة لم اكن الوحيد على تلك الحال بل كان كثيرون من الوسط اليساري العراقي يحملون ذات التعلق الرومانتيكي بالعراق .

س: يعني رغم معاناتكم من قياداتكم في الحزب والدولة من ابتزاز وبقيت ثابتا على هذا الموقف من الوطن؟

- الفلسفة كانت تعطينا قوة غير طبيعية في التحرك وفي الرغبة بان تكون بعيدا عن القيود التسلطية لحزب او لفئة او لقائد مهما كان. وقد عزز هذا التوجه اننا لم نجد قائدا يمتلك قيمة فكرية او تاريخية يستحق ان تمنحه رئاسة او سلطة عليك. وبالنسبة لي كنت اشعر باسترداد حريتي كلما ابتعدت عن التنظيمات الحزبية وعملت كمعارض او مثقف مستقل بل كنت اشعر بالقدرة على خدمة عراقيتي بشكل او بآخر افضل لا سيما وان التعرف على الفلسفات والثقافات الأخرى تمنح الثقة بالنفس والثقة بان انقاذ الشعب العراقي ما عادت قضية جغرافية محددة او جماعة دينية او عرقية ولكنها ثقافية أساسا ولها امتدادات في كل الجوانب كما عززت علاقتنا الروحية بالعراق الذي لم يعد مجرد انتماء جغرافي انما صار أيضا بالنسبة لنا هوية ثقافية نحتاجها في هذا العالم الواسع. هذا قادنا أيضا الى ان نتعامل مع العراق كفكرة جميلة رحنا نستحضر ذكريات ووجوه اناسه الطيبين ومدنه الجميلة مثل طويريج وكربلاء وقد شجعني هذا التوجه على تأليف كتاب محبة عن طويريج علما بانني غادرتها يافعا فقد أصبحت هوية هي أيضا مثل العراق الذي انتماء جماليا ولذا لم يعد هناك تعصب ومصالح.

س: تدخلت الفلسفة في شتى انواع العلوم والحقول المعرفية والمعروف عن الشعر لغة تتحدث في شتى الاغراض هل كتبت في الشعر الفلسفي؟

نعم كتبت عن علاقة الشعر العراقي بالفلسفة وهناك دراسة واسعة عنوانها (بلند الحيدري واغراء الفلسفة) واخرى عن (مظفر النواب) والعشرات من الشعراء العراقيين والعرب كما كتبت عن الشعر الفلسفي عند الشاعر الكاتالاني رايمون لول وتأثره بفلسفة وحدة الوجود عند الحلاج وهناك دراسات كثيرة فضلا عن محاولات عديدة لكتابة قصائد تحوم حول الفلسفة احاول ان انشرها كلها دفعة واحدة في اقرب وقت وأنني اعتقد ان الشعر الفلسفي هو قمة الشعر كما أنه يمتلك خصوصية على صعيد المضمون وكذلك بخصوص البناء كالكثافة والقصر ضربات الموسيقى الداخلية الموازية للضربات الفكرية وهي جميعا توفر خاصية جمالية مكملة للخاصية الفلسفية.

س: هذا سؤال افتراضي وليس له على ارض الواقع من اساس : لو خير حسين الهنداوي بين الشعر والفلسفة ايهما سيختار؟ ولماذا؟

- لم ولن افضل احدهما على الآخر. ورغم ان الشعر هو البداية وهو الأخير ليس بالإمكان التخلي عن الفلسفة وخاصة في هذه المرحلة من التكوين. وكما اخبرتك، ان الفلسفة افادتني كثيرا ليس فقط علميا انما حياتيا ايضا بفضل ما كان لها دور اساسي في هويتي الانسانية. لكن من يعمل في الفلسفة عليه ان يعرف بانه لن يكون غنيا في يوم من الأيام كما اخبرنا مرة استاذنا وكان احد كبار المفكرين الفرنسيين لمته توفي قبل عشر سنوات وكتبت عنه. وانا فخور جدا بالعمل معه فقد علمني الكثير جدا. وقد علمت مؤخرا انه وضع اسمي بين افضل عشرة طلاب عملوا تحت اشرافه حيث كتب في مذكراته ان اطروحتي عن (هيغل والإسلام) بين افضل واهم عشر اطروحات اشرف عليها خلال نحو نصف قرن من عمله أستاذا للفلسفة الهيغلية.

س: انت عملت في الاعلام .ممكن تحدثنا عن تجربتك الاعلامية؟ .

- تجربتي الإعلامية والصحفية طويلة جدا في الحقيقة لأننا كمثقفين وشعراء في العراق منذ البداية لدينا تواصل مع الصحف على وجه الخصوص وانا كنت اشتغل حتى لما كنت في جامعة بغداد كنت اعمل في مطبعة ثنيان في باب المعظم كما كنت اصحح الاخبار السوفيتية واصحح مجلة (العاملون في النفط) التي كانت تصدرها شركة نفط العراق. وهي مفارقة طبعا ان تصحح في نفس الوقت آنذاك مجلة تصدرها الدولة السوفييتية وأخرى تصدرها شركة نفط امبريالية. وكانت هناك أيضا مطبوعات اخرى من مختلف التيارات كنت اصححها لكوني عاملا في تلك المطبعة الا انني تعلمت منها ومن قراءتها الكثير كما تعلمت منها أهمية النشر وبالفعل نشرت الكثير في مجلة (العاملون في النفط) وفي صحف عديدة اخرى ولم اكن تجاوزت العشرين آنذاك. وهكذا وعندما غادرت العراق للخارج كانت الصحافة المهنة الاساسية التي امامي عند البحث عن عمل وهذا ما حصل في بيروت عام 1975 حيث كتبت في مجلة الهدف الفلسطينية وكذلك في صحيفتي السفير والنهار وفي منشورات أخرى. وحينما غادرت الى فرنسا كانت مهنة الصحافة اداتي الأساسية وبفضلها عملت في عدد من المؤسسات العربية والفرنسية كما قمت مع أصدقاء باصدار مجلة اصوات في عام 1976 وعملت في دار نشر للترجمة وكنت مترجما لمدة عشر سنوات من الفرنسية الى العربية وقد ترجمت نصوصا كثيرة من بينها دراسة مهمة عنوانها “ولادة الكون عند طائفة حركة اهل الحق العليلاهية) فضلا عن ترجمة كتاب (هيغل والفلسفة الهيغلية) من تأليف استاذي البروفيسور الفرنسي الراحل جاك دونت وهو كتاب مهم اذ يعد مرجعا أساسيا في موضوعه وهو مترجم الى عدة لغات أيضا.

ختاما ولعل اللقاء يتجدد معكم دكتور نتمنى ان نكون قد سلطنا الضوء على جوانب ثقافية مهمة في حياة الدكتور حسين الهنداوي وعلى منجزة الثقافي والادبي ...شكرا لسعة صدركم ولقبول دعوتنا .

 

اجرى الحوار: طارق الكناني

 

في المثقف اليوم