حوارات عامة

د. علي رسول الربيعي يحاور د. محمد عبده أبو العلا

أدناه حوار أجراه الأستاذ الدكتور علي رسول الربيعي مع الأستاذ الدكتور محمد عبده أبو العلا، حول كتابه:  مقالات في الثقافة السياسية.

س1: بالنسبة لكتابك الأخير الذي يحمل عنوان مقالات في الثقافة السياسية، ما نوعية القارئ الذي تخاطبه في هذا الكتاب؟

ج1: الحقيقة أنني أحاول دوما أنْ أكتب بطريقة يفهمها الجميع وتؤثر في وجدان الجميع مهما كانت صعوبة أو عُمق الفكرة التي أتناولها أو أطرحها. وهذه الطريقة اتِّبعها حتى في كتابة المقالات والدراسات الأكاديمية المتخصصة، وهي بكل تأكيد طريقة شاقة، لكنني أذكِّر نفسي دوما بأن الفكر لا تكون له قيمة، وبالتالي لا يعيش ولا ينتشر، إلا بقَدْر اتساع قاعدة مَنْ يحملون هذا الفكر أو يؤمنون به. باختصار، إنني أبذل ما في وسعي لكي أصل من خلال كتاباتي إلى عقول، بل وقلوب،  القاعدة  العريضة من القرَّاء، سواء من المتخصصين، أو المثقفين، أو القارئ العادي.3504 سؤال الدولة والعدل ابو العلا

س2: ما أهمية هذا الكتاب في هذا التوقيت؟

ج2: أزعم أنَّ هذا الكتاب له أهمية كبيرة في هذا التوقيت الذي يعجًّ بالأحداث السياسية والعسكرية المتلاحقة، سواء على الصعيد المحلي، أو الاقليمي، أو الدولي، والتي كان آخرها الغزو الروسي لأوكرانيا. لقد أصبج الناس منشغلين بالسياسة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس في ديسمبر 2010، وهذا الكتاب، في جانب منه، محاولة لتعريف الناس بحقيقة ما جرى، فضلا طبعا عن حقيقة بعض الأحداث المهمة الأخرى التي جرت قبل هذا التاريخ، سواء في الماضي البعيد أو القريب. هذا طبعا فيما يتعلق بالجانب العملي من الكتاب، أما بالنسبة للجانب النظري، فيشتمل الكتاب أيضا على جُملة من الرؤى والنظريات الفلسفية التي تدور حول أهم وأبرز القيم السياسية التي يحتاجها ليس المثقفون والمتخصصون فحسب، بل وعامة المواطنين أيضا باعتبارهم فاعلين سياسيين بالضرورة.

س3: ماذا تقصد بمفهوم الثقافة الساسية؟

3505 مقالات في الثقافة السياسية ابوالعلاج3: بادئ ذي بَدء، الثقافة السياسية بطبيعتها ثقافة عامة من ناحيتين مترابطتين: أولا، لابد أنْ يتحصل عليها جميع المواطنين باعتبارهم فاعلين سياسيين، أو يُفترض أنهم كذلك في الدول التي تحترم مواطنيها وليس في الدول يحكمها لصوص. ثانيا، هي ثقافة تتعلق بالأمور التي تمسّ من قريب أو بعيد الشأن العام. وعلى هذا، تمثِّل الثقافة السياسية بالنسبة للمواطنين حقا من حقوق المواطنة قبل أنْ تكون حقا من الحقوق الثقافية والاجتماعية. والثقافة السياسية من هذا المنظور لا تتوفَّر إلا في ظل إتاحة ما أسماه يورغن هابرمس ’’المجال العام‘‘ Public Sphere، أيْ في ظل فضاء ديمقراطي يُسمح فيه للناس بحرية التجمُّع وحرية النقاش والتعبير.

في هذا السياق، يمكن تعريف الثقافة السياسية بأنها جُملة القيم والأفكار أو الآراء السياسية العامة التي يحتاجها الناس بوصفهم أعضاء أو شركاء في مجتمع ما يتقاسمون فيه مصيرا مشترك. والثقافة السياسية بهذا المعنى تجمع بين البُعد المحلي والبُعد العالمي، وذلك على اعتبار أنَّ أي مواطن هو عضو في مجتمع محلي وفي الوقت ذاته عضو في مجتمع عالمي.

ومن الجدير بالذكر هنا أنَّ الثقافة السياسية تشتمل على ما أسماه جون رولز ’’الأفكار الحدسية‘‘، وهي عبارة عن بعض الأفكار السياسية التي تكون محلّ اتفاق جميع المواطنين بحكم العقلانية المشتركة بينهم (أو ما يسمِّيه رولز ’’العقل العام‘‘ Public Reason). ومن أهم هذه الأفكار:

- المجتمع نظام من التعاون الاجتماعي المنصف.

- المواطنون المنخرطون في التعاون الاجتماعي يمثلون أشخاصا أحرار ومتساوين.

- المجتمع المنظم تنظيما جيدا يتم تنظيم شؤونه وفق تصور سياسي معيَّن للعدل.

وهكذا، بحسب رولز، تمثِّل الثقافة السياسية، بما تشتمل عليه من أفكار حدسية تلقى قبول جميع المواطنين العقلانيين، شرطا ضروريا لقيام المجتمعات الليبرالية الديمقراطية.3506 الحرية والمساواة ابوالعلا

س4: إذا كان لا يمكن التنكُّر لاتصال الديني بالسياسي في تجربة الحُكم التاريخية للأمة الإسلامية وإنْ كان اتصال وظيفي كما وصفتْ، هل يمكن أنْ تبقى هذه الصلة في الحاضر بشكل وظيفي آخر، أيْ أنْ تكون الشريعة الإسلامية موجِّها ومرشدا قيميًا للسياسة؟

ج4: نعم دكتور على، بكل تأكيد. بشكل عام، من جانبي أرفض أيّ حُكم سياسي باسم الإله أو باسم الله سبحانه وتعالى، سواء في الإسلام، أو المسيحية، أو اليهودية. ليس هذا فحسب، بل أرفض أيضا إضفاء أية صِبغة دينية على أية ممارسة سياسية كما هو الحال في إيران والكيان الصهيوني المحتل. فتوابع الحُكم باسم الدين وخيمة للغاية، فهذا معناه عدم مساءلة الحاكم عما يفعل على اعتبار أنَّ قراراته وسياسته تمثِّل تعبيرا صادقا عن إرادة الإله؛ وهذا من وجهة نظري يُعَدّ اجتراءً على الله وأُلوهيته، من ناحية، واستخفافا بعقول الناس وكرامتها، من ناحية أخرى.

الواقع أنَّ التجربة التاريخية الإسلامية والنصوص الدينية ذاتها يشهدان بل ويؤكدان على أنَّ الحاكم بشر، يُخطئ ويصيب وقد ينحرف في قرارته وسياساته، ومن ثم تجب مساءلته ومحاسبته، بل والثورة ضده أو قتاله إذا استلزم الأمر.

لكن رفضي للحُكم باسم الدين، لا يعني تأييدي لاستبعاد الدين عن السياسة والحياة العامة، حيث أنَّ للدين بشكل عام، والدين الإسلامي بشكل خاص، بُعدا أخلاقيا يتضح جليا من خلال التأكيد على قيم أخلاقية عامة هي في الواقع قيم أو مُثل سياسية تطمح  إليها كافة المجتمعات الإنسانية، وبالتالي لا سبيل إلى تحقيق التقدَّم والرخاء، وبالتالي الاستقرار، للمجتمعات بدونها، وعلى رأس هذه القيم العدل، والحرية، واحترام الكرامة الإنسانية.

فإذا كان الإسلام لم يُحدِّد نظاما أو شكلا معيَّنا للحُكم أو آلية معيَّنة لاختيار الحاكم وما إلى ذلك، إلا أنه حدَّد مقاصد سياسية عُليا يجب على ولي الأمر أن يتوخَّاها، وإلا سقطت شرعيته.

وهكذا، يمكن للدين الإسلامي، من خلال بُعده الأخلاقي المعياري، أنْ يكون ’’موجَّها ومرشدا قيميا للسياسة‘‘ على حدّ تعبير حضرتك.3507 محمد عبده ابوالعلا

س5: ما موقفك من العلمانية أجمالا، اذا كنت لاتؤيد حُكم سياسي باسم الإسلام لأنه يؤدي الى الاستبداد، كما وصفت في دراسة سابقة،  ويبدو أنك لا تؤيد الحُكم السياسي الليبرالي، إذ أنك مهتم في النظر في حدود الليبرالية أيضًا ، فمن حقنا أنْ نسأل: أيّ حُكم تراه مناسبا في الدولة العربية الحديثة؟

ج5: في الواقع هناك علمانيات وليس علمانية واحدة، ويظهر ذلك بالنظر إلى التطبيقات المختلفة للعلمانية في عالمنا المعاصر. على سبيل المثال، تختلف العلمانية في أميركا عن العلمانية في انجلترا، وكلتاهما تختلفان عن العلمانية في فرنسا، فضلا طبعا عن العلمانية في تركيا التي تختلف عن هذه العلمانيات الثلاثة.

فالعلمانيات بشكل عام تتراوح بين العلمانية المرنة المجردة من الأيديولوجيا والعلمانية الصلبة التي تفصل تماما بين الدين والمجتمع، وبالتالي تُنكر أية أهمية للدين في الحياة العامة كما هو الحال في فرنسا. وأنا من جانبي ضد الصِّيغة الصَّلبة أو المتطرفة للعلمانية وأميل في المقابل للصيغ المرنة التي تعترف بالتدين وطقوسه كجانب مهم لا يمكن إنكاره من جوانب الحياة الاجتماعية. فالدين من وجهة نظري هو أهم تجلي من تجليات الرُّوح التي تشكِّل جزءا لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية.

والعلمانية المرنة أو المحايدة لا تتعارض مع الإسلام، بل يدعمها الإسلام من خلال العديد من النصوص التي تؤكد مرارا وتكرارا على احترام حرية الاعتقاد، وضرورة إعمال العقل في التفكُّر والتدبُّر، فضلا عن أهمية، بل وضرورة، الأخذ بالأسباب المادية في الدنيا.

أما بالنسبة لقولك أنه يبدو أنني لا أؤيد الحُكم السياسي الليبرالي، فهذا طبعا غير صحيح، فأنا من أشد المؤيدين للحُكم الليبرالي ودولته المدنية العلمانية.

س6: هل فعلا هناك حاجة في هذا السياق التاريخي السياسي- الاجتماعي المشخص سواء على مستوى المجتمع المصري أو مجتمعات الدول العربية الى تحجيم ووضع الحدود لليبرالية السياسية (فكريا واجتماعيًا) بينما يتفشى فيها ايديلوجيات قروسطية الرؤية والتوجه والخطاب؟

في رأيي الشخصي، أنَّ الليبرالية الحقيقية التي تحترم فعلا الديمقراطية وتحترم فعلا حرية وكرامة الإنسان لا تعادي الدين والمتديين بأي حال من الأحوال. فالحرية لا تتجزأ، ولا يجب أنْ تتجزأ، وبالتالي يجب تطبيقها بالمعنى العام والشامل من دون استثتاء لأية صورة من صورها، بما في ذلك حرية الضمير، أيْ حرية الاعتقاد الديني. فضلا عن ذلك، فإن الدعوة الليبرالية إلى الحرية الفردية يجب أنْ تبتعد تماما عن فكرة استئصال كافة الحدود أو القيود. فالحرية بدون حدود تصبح خطرا يهدد الجميع من دون استثناء، فهناك حدود أخلاقية وإلهية وطبيعية يجب احترامها من أجل الحفاظ على الحرية الفردية ذاتها. ففي رأيي أنَّ الحرية المطلقة تؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض الحرية ذاتها. 

***

حاوره: الدكتور علي رسول الربيعي

 

في المثقف اليوم