حوارات عامة

حوار مع الشاعر التونسي السامق كمل العرفاوي

3594 كمال العرفاوي* الشعرَ هو الكون ذاتهُ..  وهو جوهر كل الكائنات..  والزّمن غير قادر على إلغاء لغة هي حاجة طبيعية لإستمرار التوازن..  

* الشعري في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ: اللذةُ وشحنةُ العذاب، الذاتُ والعالم، حركةُ الحياة ونضحُ المخيلة.  

* أحببت بوشكين ورامبو كما المتنبّي ومحمود درويش، فهم ومن على شاكلتهم إخوتي وأحبابي، لأنّ لهم لغة واحدة، هي لغة الفنّ والإبداع والجمال، فحياة دون فنّ خاوية أولى بالأنعام والهوام.  

الشاعر كمال العرفاوي

***

قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الحوار مع الشاعر التونسي القدير كما العرفاوي يمثّل فرصة للاقتراب من العوالم الشعرية لواحد من أصفى وأعمق الأصوات في تونس على مستوى الإبداع الشعري، وسبيلا لطرح الأسئلة العميقة للشعر بما هو تخييل ولغة وتجربة ومخزون صور وتمثيلات وجسور موصولة بين خبرات جمالية متباينة من حيث تاريخيتها وجغرافياتها.

راهن الشاعر التونس الفذ كمال العرفاوي على الاحتفاظ للقصيدة بمتعة الدهشة وتحفيز الذوات القارئة على التفاعل الإيجابي مع النص بإعتباره محصلة - زواج- سعيد بين وهج التجربة الحياتية، والإستدعاء الواعي والذكي لصور وتمثيلات تجد أساسها في الموروث الشعري العربي القديم أو التجارب الشعرية الغربية.

وهو يرى أنّ الشاعرَ الحقيقي دائم القلق، وأكثر قرباً من واقعه، وملتزم بما يدور في فلكه، يحاول دائماً أن ينبش في الأشياء، ويحفر في الأرض ويمضي حاملاً أوجاع الحياة ومرارة الواقع، ليرسم لوحةً من الكلام الشاهق، ويلُّم ما تناثر في الكوكب من رخاوة في المشهد المعاش، ويتعارك مع الكائنات ليعود لنا رافعاً تلويحة أملٍ في غبش الحياة المحاصرة بالدياجير والمواجع.

وفي حوارنا معه فإننا ندخل في المسافة بين الجمالية الفنية والفعالية الفنية التي تمتلكها جل قصائده، ونتقصى أبعاد تمسكه- أحيانا- بقصيدة النثر ومدى مشروعية- هذه الأخيرة- وهيمنتها على المشهد الشعري العربي المعاصر، ونستشرف بالتالي جدوى الكتابة في حياة المبدع.. 

- يفترض الإقتراب من تجربتك الشعرية بمختلف تجلياتها النصية صوغ سؤال البدايات. ويهمني بإعتباري ذاتا قارئة أن أسألك حديثا عن بواكير أو إرهاصات الوعي بأهمية القول الشعري: هل كان للأمر تعلق برغبة في التعبير بطريقة تتسم بالمغايرة والاختلاف؟

* سؤالك هذا أيقظ أشياء جميلة تقتنيها الذاكرة..  وأعادني إلى لقائي الأوّل بالشّعر، ذاك اللقاء الذي كان يُوشِكُ أن يكونَ سطحِيّاً في البداية، وذا طابع عاطفيّ إلى حدّ بعيد.. 

ولكن يبدو أن اعتمالا مضطرما يضارع الإختمار كان يجري في داخلي مبكّرا، تفجّر هكذا في لحظة - صفاء- لا أكثر، في شكل- ومضات- شعرية تمخضت عنها قصائد عديدة..  يبدو أنها لامست الذائقة الفنية للمتلقي الكريم.. 

حاولت منذ البداية في أعمالي الشعرية أن أمزج ما بين الشعر والنثر، وهذا يظهر جليّا في أعمالي الأمر الذي جلعني أكتب قصيدة نثر تحمل رؤية مغايرة عما هو سائد في قصيدة النثر العربية، ومن ثم فأنا أحاول جاهدا في كل عمل شعري أن أقدّم شيئا جديداً ومختلفاً عما أصدرته سابقاً.. 

- في رأيك هل استطاعت قصيدة النثر أن تنتزع لها مكانا في منظومة الحس العربي؟ وهي التي أتاحت لعدد غير قليل أن يدخلوا مدينة الشعر بدون حق؟

* قصيدة النثر ليس فقط أنها استطاعت أن تنتزع لها مكانا في خارطة الشعر العربي المعاصر، بل انها تتصدر الآن المشهد الشعري وبجدارة. واذا كان الشكل القديم المنظوم عموديا أو بالتفعيلة ما يزال يجد أنصارا له، فإنّ أولئك الأنصار شعراءا وقراءا في تناقص. لقد تم نزع “القداسة” عن “نظام”القصيدة القديم. وتلك من أجمل الثورات التي حققتها الأجيال الجديدة من الشعراء.

- ماذا يعني لك الشعرُ في اللحظة الراهنة؟

ماذا أعطاك الشعر؟

وهل عبّرت قصائدك عبر أعمالك الشعرية عن شخصيتك وتجربتك ورؤيتك الإبداعية؟

* الشعر- في تقديري- هو الحياة، موسيقى الروح وديدنها، رئة أخرى للجسد، الشعر يعني الانفلات من عقال الزمن، التعبير الحقيقي عن مواجع الإنسان في زمن ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة..  لذا، فقد أعطاني (الشعر) الكثير من معنى الحياة وحب الناس والتسامي، منحني حالة من الكشف في اللغة وتراكيبها والبناء المحكم للمفردات وقراءة الكون والكائنات والإبحار في عوالم جديدة، وجعلني بالتالي أرى العالم بلغة مختلفة تعبر عن مكنونات الروح والنفس البشرية، كما جعلني أيضا أعبّر عن شخصيتي بمفاتيح رؤيوية جديدة وأقترب أكثر منيّ لأكون اكثر جرأة في الكشف عما هو مستور في دواخلنا.

- كيف تتشكّل القصيدة لديك. انفعال، عزلة، انكسار، أم لحظات صفاء؟؟

* النصّ يتشكّل من مجموع هذا وذاك، بمعنى أنّ حالة الكتابة تكون تتويجا لإرهاصات تقدّمت عليها بصمتٍ بالغٍ، وترقُّبٍ مصحوبٍ بارتفاع تأمُّليّ.

ما يهمُّني هو اللذّة التي تنتجُ عن هذا الكلّ، باتصالي مع عمق ذاتي والبُعد الإنساني اللذين تنصهرُ بهما الأشياء والأسماء والأفعال…الخ.

وهذا يعني أنّ- القول الشعري- لا يتشكّل لديَّ إلاّ بوصفه استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين: لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها. ضغط اللحظة الواقعية، كونها الباعث الأول على القول، وضغط اللحظة الشعرية، بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية.

في اللحظة الثانية تتجلّى فاعلية التشكيل الشعريّ حين يتلقّف اللحظة الواقعية، أو لحظة الانفعال بالحياة التي لا تزال مادةً خاماً، ليلقي بها في مصهره الداخليّ، ويعرّضها لانكساراتٍ عديدةٍ، وتحولاتٍ جمّة، حتى يخلصها من شوائب اللحظة ومن تلقائيتها الساذجة، أو غبار اندفاعها الأول المتعجل.

ويظل النص الشعري في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ: اللذةُ وشحنةُ العذاب، الذاتُ والعالم، حركةُ الحياة ونضجُ المخيلة.

- من وجهة نظركم، كشاعر، كيف يكون الشعر، وما هي وظيفته، وما هو مفهومك الخاص للحداثة بعيداً عن تنظيرات الأخرين؟

* من وجهة نظري، لا يخضع لوظيفة بعينها، وقد اختلف الفلاسفة في هذا الأمر من أرسطو وغيره من المفكرين والفلاسفة الكبار، هذه مسألة يضع لها معايير كل حسب رأيه ورؤيته ومعايشته للحياة وتقلباتها، أما أن نضع وظائف معينة فأعتقد أن هذا ليس منطقيا.. 

الشعر أيضا حالة يعيشها الشاعر وهذه الحالة ربما تستمر أشهر حتى تتمخض عنها قصيدة بعد مخاض طويل، بمعنى آخر القصيدة ليست متاحة في أي وقت.. 

القصيدة كما قلت سابقا هي التي تقتحم الشاعر وليس الشاعر، هكذا أنا أتعامل مع قصيدتي وهكذا أفهم القصيدة وأدعها تتسلل إليّ وأفرد لها مساحة كبيرة من التأمل كي تستريحَ في داخلي مغلفة ببطانة المعنى والفكر الثقافة كي تخرج إلى القارىء بكامل أناقتها وفضاءاتها الشاسعة.

أما الحداثة، فهي خلخلة السائد في الراهن الشعري العربي، من خلال الاكتشافات اللغوية وبناء العلاقات بين المفردات وصياغتها بقوالب شعرية جديدة بشكل جمالي آخاذ، وهذا بالطبع لا يعني أن نتخذ من الحداثة الغموض المنغلق، بهذا الشكل أو هذا المعنى افهم الحداثة، وكذلك أن لا نكون منغلقين في قوالب جاهزة متعارف عليها سابقا في النص الشعري.. 

علينا أن نفهم ماضينا وآصالتنا بلغة حداثية تواكب التطور، لغة عصرية فيها الكثير من المغامرة الجمالية.

- أيّ العوالم ترتّب من خلالها هواجسك الشّعريّة؟

* أتقصد طقوس الكتابة؟!

- هذا ما أقصده.. 

* أومن بذلك ولا أومن. ولكنّ حالة الكتابة تختزل كلّ شيء، تضغطهُ في اللحظة، فيها تختلفُ المفاهيمْ، ويُصبحُ الانسجام- في الكائن- لا مفرّ منه. عدا ذلك، أستطيعُ أن أخبركِ أنّ (الهدوء، السجائر، فنجان القهوة، - رهاب- الورقة البيضاء..)، طقس أنسجم معه، وأجدني مُتصالحاً مع ذاتي ومع العالم ضمن هذا السياق.

- ما يفتأ العديد يقول أنّ الشّعر لغة ما عادت صالحة لهذا الزّمن..  ماذا تقول أنتَ؟

* أرى أنّ الشعرَ هو الكون ذاتهُ، وهو جوهر كل الكائنات، والزّمن غير قادر على إلغاء لغة هي حاجة طبيعية لإستمرار التوازن، ولغة الكون دائماً ستبقى واضحة في إشراقها من “صباح الخير” التي نهديها للأحبّة بداية كل نهار، وستبقى واضحة في ابتسامةٍ تُطرّزُ “خاصرة الصباح”التي تتراقص أمامك.. 

نهاية أقول: سينتهي الشعر حينَ ينتهي كلّ شيء!

- كيف يقيّم - كمال العرفاوي- حركة الشّعر الحديث؟

* هي حركة، كما التي نعرفها مسطرة في كتب التاريخ الروحاني للإنسانية، تشتمل على الجيد المُغاير، والسيئ الرديء، والزمن سيكونُ حاكماً عادلاً يفرزُ ويفصل، ويحكم بالإستمرار والخلود لكل ما يستحق ذلك.. 

الجميل في الحركة الشعرية الجديدة أنها تنحى منحى تجريبي يُنتج أحياناً ما هو مُدهشْ، وقادر على التواصل مع روح عالم جديد، ومُستمر في تجدّدهُ، والشّعر كذلك.

- كثيرون كتبوا الشّعر ونظموا القوافي، لكن هذا ليس بأمر كافٍ لولادة شاع، من هو الشّاعر برأيك؟ وهل يولد الإنسان شاعرًا؟ أم أنّ المثابرة على النّهل من بحر الشّعر تصنع شاعرًا؟

* ذكرتِني بقول عميق لمحمود درويش " لا أعرف ما هو الشّعر، لكنّي أعرف ما ليس شعرًا، ما ليس شعرًا هو ما لا يؤثّر بي، لا يهزّني. "

طبعًا الشّعر موهبة قبل كلّ شيء، ثمّ تمرّن هذه الموهبة حتى تصقل، وتظلّ على قيد الحياة، فكثير من المواهب ضحلة أو خلّبيّة، وما استمرارها في الكتابة إلّا عزف نشاز، وإزعاج للذائقة السليمة.

الشّاعر الموهوب نفسه قد يقع في مطبّات، فيتراجع عن مستواه العالي، ونادرون من يستمرّون حتى النهاية، كما هو الحال لدى محمود درويش الذي لم يكرّر نفسه، ولن يتكرّر.

تتنوّع المواهب عند البشر، كما تتعدّد أنواع البيئة والتربة، فهناك الصحراء والجبل والسهل والبحر، ولكلّ منها نكهتها الخاصّة، كذلك جماليّة الشّعر تكمن في هذا التنوّع الجميل كتنوّع الألوان والأزهار، وما علينا إلّا أن نختار ما يلائم أرواحنا وأذواقنا دون أن نتّهم الآخر أو يتّهمنا، فالاختلاف في الآراء هنا لا يفسد للشّعر قضية. علما أنّ الكثير ممّن يظنّ نفسه شاعرًا يُلغي كلّ مَن لا يسير على صراطه المستقيم، وكأنّ الشّعر عزبة خاصّة به، وغالبًا ما تكون هذه العزبة فارغة إلّا من بقراتٍ عجافٍ..  !

- هل تعتقد أنّ الساحة الأدبيّة حاليًّا تحتوي على نقّاد على قدر من المسؤوليّة؟ ومن هذا المنطلق كيف ترى مستقبل الشعر من حيث القيمة والجودة والمتانة؟

* النقد البنّاء الجاد قليل في حياتنا الأدبيّة، إذا ما قارناه بمرحلة بداية القرن العشرين حتى منتصفه، لكنّه تراجع في العقود الأخيرة، نقدا صحفيًّا شلليًّا يرفع الوضيع، ويبقي الرفيع مهمّشا، بعيدا عن الأضواء، ولا أدلّ على ذلك من شهادات التقدير لكتّاب لا يمتّون للكتابة الإبداعية بصلة. وهذه الدعوات التي فقدت معناها وبريقها في عالم غير سويّ، اختلط فيه الحابل بالنابل، وضاعت فيه الكلمة الشعرية المجلجلة.

مثل هذه الكتابات ونقدها ليس لها قيمة فنّيّة، وسوف تزول بزوال الأسباب التي أوجدتها، والزّمن طال أو قصر كفيل بالغربلة.

- حين تنادي:”كمال العرفاوي“أيكون في النّداء معان قويّة كتلك التي قالها الفلاسفة عن شعر هولدرلين؟-

* لأنني لازلت أجهل- كمال العرفاوي- لم يحدثْ أن فعلتها. ولكنني دائماً ما أقرأهُ بوضوحٍ على البياض، ذاهباً به نحوَ اعترافاتٍ أعمق، كي يتسنى لي قراءتهُ بشكلٍ أوضح.

حينَ أعرفهُ تماماً، وقتها سوف أفعل، وأخبرك ما إذا كانت معانٍ قويّة كائنة في ندائي عليه، أم لا، دون تشبيهٍ بأيّ آخرْ.

- كيف تنظر إلى خريطة الشعر العربي اليوم؟ ومَن من الشعراء جذب اهتمامك وشعرت عبر أعماله بنكهة التجديد والأصالة والعمق؟

* خريطة الشعر العربي ما زالت واضحة المعالم على الرغم من محاولة بعض المتشائمين طمسها، فللخارطة رموزها وتضاريسُها الإبداعية، وهناك شعراء رواد شكّلوا قمماً إبداعيَّة لهذه الخارطة لا تطالها رياح التعرية المحملة بغبار العولمة، من أمثال السياب والبياتي والفيتوري والماغوط وصلاح عبد الصبور والجواهري..  وغيرهم.

- ما أقصى أنواع الظّلم الّتي تراها تمارس في حقّ الشّعر العربي؟

* دائماً سيبقى من يحفظ للشعر حقّهُ. وبما أنّ الشّعر كائن حيّ، فهو يحتاجُ لمزيدٍ من الاهتمام، ومزيدٍ من الإنفتاح به على الجهات، وكسر للقوالب التي تخنقه، ليفرد جناحيه محلقاً متنفّساً ما يشتهي..  هكذا نضمن لهُ حقّهُ في الحرية.

- أما من قصيدة صدأت في درج مكتبك بعد أن صدأت في دواخلك؟

* سأبحثُ في الدرج، لأجدَ نصوص مال لونها إلى الأصفر المحروق، رائحتها تُسعدني، وتُعيدني إلى لحظات كتابتها، وما قبل الكتابة، لأجدَ بها جزءاً منّي، أتذكّرهُ ولكن يُصيبني الحنين إلى مشاركة الآخر بهذه الذاكرة..  بهذا الشّعر.

* أجمل القصائد*

تُرسَم أجمل القصائد بأبسط المفردات

بريشة شاعر فنان مُرهف الإحساس

خبير بالجمال واسع الخيال بالأساس

يُحسِن التّصوير بالحروف والكلمات

و التّلاعب بالألفاظ في عدّة سياقات

لإنتاج أفضل النّصوص بأدقّ العبارات

لتحقيق ما أمكن من الفوائد والغايات

(كمال العرفاوي)

* دمتَ لامعَ الحرف..  وذائقا لمعانيه العميقة..  يا شاعرنا الفذ..

***

أجرى الحوار الناقد التونسي محمد المحسن

 

 

في المثقف اليوم