حوارات عامة

حوار مع الشاعرة التونسية المتميزة فائزة بنمسعود

3580 فايزة بنمسعود"في قصائدي تمرُّد على ما أراه قيدا يحدُّ من حريتي في التعبير.. والشعر في مجمله يجمعنا.. وإن فرقتنا الحدود، لذا تراني أتسلق أهداب الليل الحالك، يرهقني صخب الشوارع، وأبحث عن باب نهار مشرق لأفتحه" (فائزة بنمسعود)

“يلزمنا ألف عام.. حتى تستطيع المرأة الشاعرة أن تصرخَ بصوت هادر يرسّخ وجودها أمام تسونامي الرجل الشاعر.. ”(فائزة بنمسعود)

تصدير:

يتأسس الخطاب المتداول حول النوع التاريخي على تأويل الحدود المعيارية المدرجة في التصنيفية الأرسطية. ذلك أن الإنتقال المعروف مما هو “شعري”، الذي يقارنه أرسطو بالخطاب الروائي، والذي يطرح التاريخ كمقابل له، يمكن أن نجدَ له مقارنة في هذا النص المأخوذ من كتاب “فن الشعر” لأرسطو. “واضح.. مما قلناه أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلاً بل في رواية ما يمكن أن يقع في الأشياء الممكنة. إما بحسب الإحتمال أو الضرورة، ذلك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان إلا في كون واحد منهما يرويالأحداث شعرًا والآخر يرويها نثرًا، وأن أحدهما يروي الأحداث التي وقعت فعلاً، بينما الآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع، ولهذا كان الشعر أوفر حظًّا من الفلسفة، وأسمى مقامًا من التاريخ، لأن الشعر يروي الكلي بينماالتاريخ يروي الجزئي.

انبهرت باللغة، ففتحت لها العربية المجال واسعا لتبحر ببراعة في بحار الشعر ببراعة، مهارة واقتدار. وكان حصيلة هذا الشغف أن كتبت نصوصا بجمالية فنية وأسلوبية ذات بصمة مميزة، كنتاج لخبرة وتعمق واهتمام بالجوانب الفنية للغة ولحالات التمظهر فيها وإلماما بالقوالب والأنواع.

فــالشاعرة التونسية القديرة فائزة بنمسعود، تتعامل مع الأدب والثقافة كشغف وحاجة روحية، فنجدها تكتب في نصوصها النثرية عن عوالم الخصب، الأنوثة، الكينونة، الوجود، الاكتمال، الفراغات النفسية والمادية وكذا الوطن العربي في ظل دياجير تقض مضاجع حملة الأقلام ومعتنقي الحرف. وهي تسعى للبحث في هذه القضايا.

هي شاعرة ذات لونِ مميز، جمعت بين حروف كلماتها قطوفاً من الرومانسية و الرقة و الحلم ولدفء و الجرأة، استطاعت عبر قصائدها الموغلة في الجرأة والرومانسية التعبير عن المرأة و مشاعرها و أحلامها و أفكارها بمقدرة فريدة دون أن تهمل-كما أسلفت-القضايا الوطنية المنتصرة للإنسان والإنسانية.

حين سألتها عن بدايتها مع الشعر وما هي أهم المؤثرات التي أثرت في تكوين اتجاهاتها الأدبية؟ أجابتني بهدوئها المعتاد:

* "كيف كانت بدايتي مع الشعر؟ الوردة لا تعرف كيف بدأت علاقتها مع العطر، والشمس لا تعرف كيف بدأت علاقتها مع الضوء، والجسد لا يعرف كيف بدأت علاقته مع الروح، وأنا لا أعرف كيف بدأت علاقتي مع الشعر ولا أستطيع تفسير نوعها أو تحديد ماهيتها أو إعطاء فلسفة ما لها لأن الشعر ينبع من الروح ليصوغ العالم موضوعيا.. ولعل ّأجمل القصائد هي تلك التي سبر فيها الشاعر أغوار ذاته فجاءت صورة لما يعتمل في أعماقه من مشاهد التمزق والتشظي..

لاشك أننا متأثرون بالعديد من الكتاب الحداثيين بشكل واعٍ أو غير واعٍ، أستطيع القول أني في المرحلة الجامعية كنت أقرأ للكاتب السوري “أدونيس″، ثم قرأت بعضا من الأدب الروسي واللاتيني، كنت أقرأ في النقد أكثر من الأدب، وغالباً في القواعد التي تقوم عليها الفنون، أما الآن ومنذ مدة ليست بقليلة لم أعد أقرأ قراءة منظمة واعية، صرت أغوص في الداخل وأستمتع، ومراتٍ كثيرة أتوجع.. والوجع صورة -كما أسلفت-لتشظيات الروح.. وتأوهات الجسد.. "

- فائزة بنمسعود إنسانة وشاعرة تونسية، أية مقارنة؟

* لا مقارنة بين ما يسكن في القلب، وبين تونسيتي، وما أبوح به لهذا العالم المليئ بالتناقضات .. الكتابة التي تسكنني بدون إذن ولا جواز سفر ولا تأشيرة أريدها تحدي من أجل قوة لا تقهرها الظرف.. للوطن قلب يسع الكون، وللكتابة فكر يحمل ثقل هذا الكون، وكلاهما تضحيات كبيرة ووجهة واحدة للنجاح .

-أنا كناقد-مع القائلين بأن قصيدة النثر” امتدادٌ طبيعيٌّ لتطور الشعر، خاصةً بعد شعر السبعينيات؛ الذي انحرف به أصحابه عن الشعر العمودي، وأنهم أوجدوا حلقةً جديدةً من تطور الشعر العربي، ولكن هناك شبه مؤامرة على عدم الاعتراف بقصيدة النثر كحلقة شرعية من حلقات تطور الشعر العربي؟!

*هذا غير صحيح قصيدة النثر الجيدة فرضت نفسها حتى لو لم تنل ذلك الاعتراف، لكن المبالغة في تقليد الصراعات والابتعاد عن لغة الشعر وموسيقاه الداخلية أو الخارجية هي التي نفرت الناس منها، فالشعر وتده الأساسي الموسيقى واللغة الشديدة التوتر والحساسية والتكثيف فلما انمحت ملامح الشعر أصبح النتاج لغة سردية لا فرق بينه وبين القصة القصيرة أو الخاطرة أو لغة المقال وأحيانا لغة الصحافة العادية، لذا كان من البديهي أن يذهب الناس وينصرفوا عن الشعر ويتقلص جمهوره، إن المبالغة في الخروج على كل الثوابت، وإلغاء الحدود بين كل الأجناس حتى الشعر الذي له خصوصيته الدقيقة، هو ما جعل معظم كتاب قصيدة النثر في وضع حرج، فالادعاء لا يقدم فنا خالدا، مما صرف الناس عن الاعتراف بما يكتبونه. لكن لا شك أنه توجد قصيدة نثر جميلة بل وعلى درجة عالية من الشاعرية.

- نلاحظ في العديد من قصائدك تجسيد للفكرة عبر تكرار صورها وما يحفز ذلك هو انقسامها الى مشجرات عنقودية، واعتمادها على نظام الفقرة .. هل هذه دعوة للقارئ إلى أن ينزاح هو الآخر عن اللغة الشعرية المألوفة بطريق بناء حوار جاد مع لغة القصيدة الحداثية وعليه أيضاً أن يضع معارفه القديمة إزاء النص الجديد موضع تعديل، ليحدث التفاعل ويحدث القبول الجمالي للخطاب؟

* نعم تجسدت الفكرة عبر تكرار صور متعددة خاصة تلك الفكرة التي تلحّ عليّ وتكمن في أعماق الذات وهي بالفعل دعوة للقارئ لبناء حوار جاد مع لغة القصيدة المتشظية التي تطمح لتأسيس خطاب جمالي جديد منبثق من قناعتي ورؤيتي الجمالية لتطور النص الشعري الخاص بي والذي يحمل بصمة الذات الشاعرة وخصوصيتها..

- إلى أي مدى فقدت القصيدة فعاليتها في هذا الزمن المعلب؟

* ما يحزنني هو أنني ولدت في زمن يأكل المشاعر بالشوكة والسكين ويتفنن في اغتيال كل الأشياء الجميلة، زمنٌ لا يمهلنا كي نكبر، ولا يترك لنا نقطة من العطر آخر الحلم. ولكنني رغم ذلك أعلن أنني لن أستسلم أبدا له، ولن أترك له شرف الانتصار علي وعلى القصيدة، لن أدعه يحولني إلى علبة صفيح، ولا إلى دمية من خشب ولا إلى سيجارة كوبية، ولن اسمح له أن يأكلني ولا أن يأكل أحلامي ولا أن يجعلني بلا إحساس. ربما قد أنهزم في معركة، وربما قد أنزف حتى الموت، ولكن كل جرح ما هو إلا مطلع قصيدة وكل نزيف ما هو إلى رغبة في الكتابة..

- بسؤال مغاير أقول: هل تعتقد الشاعرة فائزة بنمسعود أن أهمية الشعر والشعراء تلاشت عما كانت عليه في السابق اي في العصور الماضية ولماذا؟

* يبدو لي أنها تلاشت وبشكل محزن، رغم وجود أقلية تناضل في هذا المجال، أما السبب برأيي المتواضع، هو انحلال أخلاق حملة الأقلام، أعتذر، لكنها الحقيقة، ضاع المبدعون الحقيقيون وسط ثلة من سماسرة الحرف.. هبط مستوى الكلام الى أسوأ رتبة، صار شعراً تجارياً، كما أفلام التفاهة والميوعة تماماً، وحين صار الشعر بيد أناس يتاجرون به، ومن يشترون اسماً لن يخلد إلا نفاقا. لكن يظل في الأخير الشعر النابع من الذات مخترقا لسجوف الرداءة..

- ما هو رأيك بالنقد الآن، وهل واكب مسيرة الشعر التي نشهد فوراناً لها منذ سنوات قليلة؟

* ما يثير الحزن حقا هذا التراجع والنكوص الذي يعرفه النقد الأدبي في جامعاتنا وأوساطنا الأدبية، فالمشهد اليوم يبدو فقيرا لغياب مدارس نقدية عربية حقيقية، في المقابل يمكننا الاستشهاد بالتجريدية الأوروبية والسريالية والبنيوية والتفكيكية وغير ذلك، أما التراث العربي القديم فإنه مليء بالشواهد التي ما زلنا نستنزف قواعدها، لقد أصبحت المناهج القديمة مستهلكة تكرر نفسها دون أن نجد نقدا حقيقيا للنصوص الشعرية مما شجع-كما أشرت-على انتشار الرداءة والإسفاف والشعر الهابط، ومن ثم كان على النقاد(وأنت واحد منهم-قالتها بإبتسامة عذبة) أن يقوموا بأدوارهم وأن يصطفوا جنبا إلى جنب مع الأدباء والشعراء لأن الشعوب المغلوبة في وطننا العربي تعول عليهم في قراءة الواقع ونقد مساراته، وهنا يبدو دور الجامعات المتخصصة في دمج الأدب المعاصر بالعمل الأكاديمي وتفعيل دور النوادي الأدبية والمؤسسات الثقافية المعنية لأن التغيير لا يحدث إلا بشكل جماعي..

- لو لم يعد بإمكانك الكتابة والرسم بالكلمات.. وحتمت عليك الظروف ذلك .. فما الذي تفعلينه؟

* الكتابة سحر روحاني يتملكنا في أي لحظة، والمبدع كالسمكة لو تخلى عن بحر الإبداع سيموت.. ربما هذه الظروف التي تريد أن تحتم علي بعدم الكتابة، بل ستزيد فيّ الحنين أكثر للإبداع .. كل حالات الوجع والفرح والحزن والتفاؤل في الحياة تمنحنا الإبداع أكثر، الأديب الذي لا تزعزعه الظروف سواءً كانت حزينة أم سعيدة، لا يمكنه أن يكون مبدعاَ..

- قلت عنك ذات يوم أنك، تلتقطين في رماد الروح وجع المسافات حنينا لأزمة الحب حيث تشتعل فوانيسها ” ماتعليقك؟

* ما تبقى من اشتعال الذات في خريف عربي أتى على الأخضر واليابس .. ما تبقى من رماد فينا حرقته التحولات الفكرية والذهنية التي طرأت على أفكار العرب، من أجل الهروب إلى الهاوية أو الانتحار، فكلاهما مرٌ، رماد الروح هو فعلا وجع المسافات القليلة البعيدة، كالسراب نحو الأمل والحب، كي يعيد الرماد استنساخ نفسه كشعلة من نور، وفوانيس الدروب المكللة بالانتصار .

- هناك جدل لم يحسم بعد في العالم العربي، وهو الجدل الدائر حول ما يسميه البعض كتابة نسوية تطرح قضايا المرأة وتحاول التخلص من ذكورية الكتابة. هل برأيك هناك أدب نسائي أم أن الأمر برمته هو اختراع ذكوري لمحاصرة المرأة إبداعيا؟وهل المرأة محاصرة إبداعياً فقط؟!

*هي في تقديري محاصرة بالقوانين والمجتمع والبيئة والعرف. عندما يتم الاعتراف بها كإنسانة قبل أن تكون امرأة – من قبلها هي ومن قبل الجميع - ستسقط التسمية "أدب نسائي أو كتابة نسوية" بشكل تلقائي ومن غير عناء لأنها في ذلك الحين لن يكون لها أي معنى. سيحدث هذا في المستقبل البعيد ربما.

-هل كتبت فائزة بنمسعود قصيدتها المشتهاة ..؟

* القصيدة المشتهاة هي التي تسكننا ولا تفارقنا مدى الحياة، في كل مرة نكتبها نقول لا ليست هي، ونبقى نبحث عنها بين طيات أفكارنا وذاكرتنا حتى ولو عشناها.. القصيدة ” المشتهاة “هي نداء الروح العميقة التي لا تأججه إلا الكتابة، فهي تمنحنا الحياة للبقاء على ناصية الفرح، كلما ضاقت بنا سبل الدنيا، نبحث عنها بين طيات الحروف، ربما كتبتها.. لكنني أبقى أبحث عنها حتى لا أضيع بوصلة الفرح في حروفي .

- قيل لي أن فائزة بنمسعود تكتب شعرها بحبر الروح ودم القصيدة ما مدى صحة هذا الرأي؟

* أنا أحب الإنحناء على عجينة قصيدتي، شرط ألا تأتي نتيجة هذا الإنحناء افتعالا شكلانيا مجانيا لا يؤدي إلى أي تجديد شعري، بل إلى دوران في حلقة مفرغة، حلقة البحث عن الشكل المختلف الصادم على حساب مستوى النص الشعري. فالتجديد الثوري (ونحن نعيش بتونس تجليات ثورة لا تخطئ العين نورها وإشعاعها) لا يكمن بالضرورة في القطيعة مع ما سبق، وثمة دائما خيط يربط ما كان بما سيكون، مهما كان مختلفا عنه ومتعارضا معه. أنا أكتب بكل بساطة القصيدة التي تناديني، ولم أكن أبحث عن استفزازات شكلانية”بالقوّة”من خلال طرائق مشيي نحو القصيدة، لأن استفزازي هو قصيدتي في ذاتها، لا في قطيعتها أو عدم قطيعتها مع الأشكال التي سبقتها أو سوف تليها. ”

- لو لم تكوني شاعرة ماذا كنت تحبين أن تكوني؟

* لو لم أكن شاعرة، لكنت شاعرة أعزف على أوتار الحروف سمفونية عشق لا ينتهي.. ”

- دور الشاعرات العربيات في الساحة الأدبية ومن ضمنهن محدثتي-زكية الجريدي-، هل وصل إلى ما تطمحين إليه، أم أن مشاركتهن ما زالت في بدايتها؟

* سيظل الشاعر رسولَ مجتمعه والناطق بإسم أهله ومواطنيه، وباعث الهمة فيهم.. أما المرأة الشاعرة فما زال دورها ووجودها محدودا إذ يحتل الرجل الواجهة، وما زالت نظرة العامة إلى الشعر نظرة ناقصة باهتة فكيف إن كان من يكتب هو امرأة؟ يلزمنا ألف عام حتى تستطيع المرأة الشاعرة أن تصرخ بصوت هادر يرسّخ وجودها أمام تسونامي الرجل الشاعر “

- يقال أن بعض الشعراء يكتبون قصائدهم و أن البعض الآخر تكتبه القصيدة فمن أي الشعراء أنت و كيف تولد القصيدة لديك؟

* تكتبني القصيدة فهي تولد من رحم خيال بعد مخاض في الأحاسيس وأكون طبيبها الذي يطرحها على سريرها بلطف شديد..

- ما هي بنظرك أزمة المثقف العربي، هل هي أزمة وعي وحرية.. أم انخفاض السقف وأزمة مؤسسات؟ كيف تضئين هذا النفق..؟

* لا يمكن اعتبار سبب واحد هو سبب الأزمة الراهنة، هناك أسباب تراكمت عبر أزمان طويلة، المشهد الذي نعيشه اليوم في حالة أزمة نتيجة لتوافر تعارضات فكرية وانعدام وضوح الرؤيا ولعدم تحديد الأهداف تحديداً واضحاً وبالتالي هناك أيضاً عامل الوعي، وهو شيء تاريخي يتكوّن بالتراكم، عبر فترات طويلة من خلال التصور الواضح ومن خلال عملية الاستمرار، يتكوّن سبب منفرد، ولا يمكن اعتبار أن المرحلة القصيرة هي سبب الأزمة، ويمكن القول أن كثيراً من العوامل التي تلاحظها في الفترة الأخيرة هي عوامل كاشفة، أكثر منها عوامل منشئة، الأزمات والإرتباكات التي صارت على أكثر من صعيد، على صعيد تهاوي بنى سياسية وأفكار وعقائد وصيغ، وحالة الإرتباك وحالة التشوش هي مظاهر لأزمة مستمرة، ويمكن القول أن الحالة التي نعيشها اليوم جذورها تمتد إلى عصر ما قبل النهضة، إنها عميقة ومستمرة، الرواد الأوائل في القرن التاسع عشر حاولوا أن يقدموا شيئاً، مواضيع في نوع من الصيغ والأفكار الأولية للأسف كانت بدائية أولاً.. وثانياً لم تتواصل، وتبدأ أي مشاريع جديدة من الصفر غالباً وبدون تراكم معرفي.. وفي فترات الإنهيارات الكبيرة.. في فترات الأزمات نلاحظ مثل هذه الحالة وهي حالة طبيعية تقريباً، يعني أن كثيراً من الشعوب وكثيراً من التجارب الإنسانية تمرّ بها حتى تستكمل جزءاً منها، لذلك ربما الحالة التي نعيشها اليوم إنما هي تعبير عن القلق ونوع من امتحان الاحتمالات، ونستطيع بدقة مع الأيام أن نحدد أكثر الأهداف، ويجب أن نكون متواضعين .. كنا نأمل أن تكون هناك حلول جذرية وسريعة للقضايا الكبرى بدون دفع الثمن، وتبين لنا الآن أن كل شيء يجب أن يحدد بدقة، ويجب تحديد ثمن هذا المطلب. من أجل تحقيق هذا الحلم الآن بكل هذا التراكم والاستمرارية، يمكن إيجاد حلول ناضجة .

- لو لم يعد بإمكانك الكتابة والرسم بالكلمات.. وحتمت عليك الظروف ذلك .. فما الذي تفعلينه؟

* الكتابة سحر روحاني يتملكنا في أي لحظة، والمبدع كالسمكة لو تخلى عن بحر الإبداع سيموت.. ربما هذه الظروف التي تريد أن تحتم علي بعدم الكتابة، بل ستزيد فيّ الحنين أكثر للإبداع .. كل حالات الوجع والفرح والحزن والتفاؤل في الحياة تمنحنا الإبداع أكثر، الأديب الذي لا تزعزعه الظروف سواءً كانت حزينة أم سعيدة، لا يمكنه أن يكون مبدعاَ..

- إلى أي مدى فقدت القصيدة فعاليتها في هذا الزمن المعلب؟

* ما يحزنني هو أنني ولدت في زمن يأكل المشاعر بالشوكة والسكين ويتفنن في اغتيال كل الأشياء الجميلة، زمنٌ لا يمهلنا كي نكبر، و لا يترك لنا نقطة من العطر آخر الحلم. ولكنني رغم ذلك أعلن أنني لن أستسلم أبدا له، ولن أترك له شرف الانتصار علي وعلى القصيدة، لن أدعه يحولني إلى علبة صفيح، ولا إلى دمية من خشب ولا إلى سيجارة كوبية، ولن اسمح له أن يأكلني ولا أن يأكل أحلامي ولا أن يجعلني بلا إحساس. ربما قد أنهزم في معركة، وربما قد أنزف حتى الموت، ولكن كل جرح ما هو إلا مطلع قصيدة وكل نزيف ما هو إلى رغبة في الكتابة..

- بسؤال مغاير أقول: هل تعتقد الشاعرة فائزة بنمسعود أن أهمية الشعر والشعراء تلاشت عما كانت عليه في السابق اي في العصور الماضية ولماذا..؟

* يبدو لي أنها تلاشت وبشكل محزن، رغم وجود أقلية تناضل في هذا المجال، أما السبب برأيي المتواضع، هو انحلال أخلاق حملة الأقلام، أعتذر، لكنها الحقيقة، ضاع المبدعون الحقيقيون وسط ثلة من سماسرة الحرف.. هبط مستوى الكلام الى أسوأ رتبة، صار شعراً تجارياً، كما أفلام التفاهة والميوعة تماماً، وحين صار الشعر بيد أناس يتاجرون به، ومن يشترون اسماً لن يخلد إلا نفاقا. لكن يظل في الأخير الشعر النابع من الذات مخترقا لسجوف الرداءة..

وفي الأخير.. اختتمت حوارها معي بالقول: ” كل ما اعرفه إنني عاشقة للقلم أجيد الرسم بالحروف، ولطالما أسعدني دفء الورق، وأطربتني خشخشته، وحبر قلمي هو المتنفس لكل ما يجول بخاطري، أما قصيدتي فهي تولد بلحظة ودون مقدمات تجاه تأثر من موقف معين.. أتسلق أهداب الليل الحالك، يرهقني صخب الشوارع، وابحث عن باب نهار مشرق لأفتحه.. ”

- في الأخير :بم تنصحين الكاتب الشاب؟

* أهم شيء هو التواضع. فليس كل من كتب- سطرين- يتخيّل أن على العالم أن ينحني له .. أغلب الأدباء الذين اشتهروا بدؤوا متواضعين، خاصة وإنهم يقدرون أعمالهم، ويقيمونها قبل أن يتناولها النقاد، ويعتبرونها وصلت حدا معينا من الجودة . الكاتب الشاب ينبغي أن يعمل على تطوير عمله، فلا يمكن أن يصدر الكاتب مجموعة قصصية صغيرة، ويريد من النقاد أن يصفقوا له، وأن تقام له طقوس الاحتفال . هذا غير ممكن . فالتواضع مطلوب، وكذلك الإنتظار والصبر. إضافة إلى أن الكاتب الشاب لابد أن يلتفت الى بيئته المحلية. فالمحلية مسألة أساسية، وخاصة في موضوع الرواية. وأنا شخصيا أعتبر تجربتي قائمة على المحلية. فإذا كنت تحيا في بيئة تعرفها وتعايشها، يمكنك أن تكتب عنها عملا فنيا ذا قيمة .

– القصيدة جنون معقلن كما يرى الشاعر المغربي عبد الله راجع، بالمناسبة، كيف تربن قصيدتك؟

* الشعر فضاء منفتح لا تحكمه حدود أو أبواب، فهو كون رحب يعيشنا قبل أن نعيشه ويتشكل في دواخلنا كما البذرة في أديم الأرض. أمّا القصيدة فهي النَّفَسُ المُنفلت من نظام العقل وهي زِلزال وارتداد باطني، يُحدث رجّة الإبداع من الخفايا الصّامتة في عمق الشاعر. هي عشق وتماهي وهي في النهاية خيار ممتع ومرهق، نزيف نختار انهماره ونصبر على حفره المتواصل في أرواحنا، دون تحديد فارق لساعة خلقه أو تمظهره.

– أبوابك أربعة.. وطن، روح، عشق وريح فأي من الأبواب بنيت فيه خيمتك الشعرية وكان أكثر استكشافا؟

* لكل خيمة أوتاد وأنا اخترت تلك المحاور أوتادا لقصيدتي.. فالوطن همّ والرّوح سفر لا متناهي في اقاصي ذاتي.. امّا العشق فهو العطش اللامشروط والرّيح سبيلي يمطرني حينا ويلفحني بهجير الحياة أحيانا أخرى.. . غير أنّي الان ألتمس في اعماقي الغائرة نارا حارقة

تشدّني بقوة الى الوله الالهي وجمال الكون الفسيح المخضب بطين الخلق.. هي تجربة في اولى خطواتها لكنها تحملني بعيدا دون استئذان..

- رسالة شعرية تريدين أن تقولينها للقارئ العربي..؟

* اقرأ وغربل الحروف إنصافا.. فليس لحر القصيد أعرافا..

- كلمتك الأخيرة.. .

* تحيتي الخالصة لكلّ القرّاء من الألف إلى الياء دون الاعتراف بالحدود الجغرافية والتأشيرات الجمركية بيننا.

***

أجرى الحوار الناقد التونسي محمد المحسن

في المثقف اليوم