حوارات عامة

مائدة حوار مع د. عبد الودود القيسي

- الشِّعر إذ مُنح الطبيبُ موهبتَه مبكّرا، فإنه سيكون أكثر عمقا وإبداعا وتألُّقا عمّا سواه.

- المِحَن قد لا تقدح شرارة الشِّعر إلّا متأخّرة بعضا من الوقت.

- للأطباء في العصر الحديث حضور متميز في الإبداع الشعري.

- الهايكو؛  نثر جميل وأحاسيس عميقة  تتناسق وتتهادى على ضفاف بحور اليابان  لا على بحور شعرنا العربي الأصيل.

-النظر بالعين، أما البصر فهو بالمراكز الحسّيّة للإبصار في الدماغ، وتحديدا في المنطقة القذاليّة منه.

- الأنانية وحبّ الذات حقّ لكل البشر، ولكن بنسبة لا تؤثّر على مصالح الآخرين.

***

لا زال العراق يذكّرنا جيلًا بعد جيل أنه مهبط المتنبّي والفرزدق وجرير؛ إذ راح ينساب الشعر فيه انسياب دجلة والفرات، وشرع يثمر الشعراء تلو الشعراء كما يثمر نخيلُه التمر، وهكذا كان الطبيب والشاعر عبد الودود القيسي، الذي وُلد بين جنباته عام 1946، وتخرّج في كلية الطب بالعاصمة بغداد عام 1969، ثم تحصّل على شهادة التخصّص في طب وجراحة العيون من لندن عام 1976. شارك في عدّة مهرجانات شعرية عراقية وعربية، ونظم ثلاثة دواوين تَعانق فيها الطب والشعر حين احتلّت العيون صدارة عناوينها: (همس الأحداق) و(أوتار الأحداق) و(فاء الأحداق)،  كما صدر له مؤلّف عن الإعجاز القرآني في طب العيون.

ومن نافلة القول، أننا تواعدْنا لتناول وجبة فكرية وأدبية على مائدة هذا الحوار، ولمّا حان الموعد لم يغفله متعلّلا بالانشغال كمَن يظنون أنهم يحكمون العالم ويديرون دفّة الكون بينما هم أفرغ من شاشة التلفاز بعد انتهاء الإرسال، كما لم يسوّف كعادة أكثر القوم اليوم حين يَعِدون ويخلفون ثمّ يَعِدون ويخلفون وهم في ذلك أكذب الناس وأشرّهم ولا ريب، بل طلب إمهاله لبعض يوم مقدِّما عذره، ولمّا أجبْتُه إلى طلبه، ارتجل هذين البيتيْن الرقيقيْن:

"يا لطيفا يا كريما يا منيرا

سيكون العسر في صبحٍ يسيرا

أنــــــــــا للعهدِ قمينٌ قـــلبُه

ولـــــــــه أبقى بلا قيدٍ أسيرا"

ويبدو أنه ما زال وفيًّا للقلم والقرطاس، إذ وافاني بأجوبته مكتوبة على غير عادة القوم في هذا الزمان الإلكتروني، وأظنّها كانت تجربة استثنائية شاقّة بعض الشيء بالنسبة لي، ولكن أمام الإبداع يهون كل شيء.

الحوار

* ماذا لو خلَت الأرض من الشِّعر والشعراء؟

- الشعر ليس شهدًا للُّباب والقلب فحسب، إنما هو أنوار تنير جوانح النفس التي ران عليها ظلام الحياة، وخاصة في عالمنا الحالي الذي يكاد أن يكون مجرَّدا من الإنسانية! لقد كان الشعر ديوانا للعرب، ومتنَفَّسا للمنشِد والمنشود، ووجود الشعر في الأمّة لا يمكن أن يكون إلّا ضرورة وحاجة إذ فُقدت فقد المجتمع أواصر روحية وعاش في حيرة التعبير عن كوامنه سعادةً وألما.

* ما مدى مصداقية قولنا: الشعر أقرب إلى أطباء القلب والنفس منه إلى الجرّاحين؟

- لا أرى للمهنة علاقة في القرب أو البعد من الشعر، وقد يكون الجرّاح أقرب مِن سواه في الأطباء بكافة تخصصاتهم، فالشِّعر تعليم ربّانيّ، وهذا الكلام استنتجتُه من قول الباري عزّ وجل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وما علّمناه الشّعر وما ينبغي له" ، أي أنه منْحة من الله وهبة، قد تُصقَل وتنمو وتُثمر بالاطلاع على ما قاله الشعراء السابقون، وبتثقيف اللباب بلغة الضاد. وإذا ابتعدْنا عن الأطباء، فإنني رأيت أساتذة كبارا يحملون درجة الدكتوراه في اللغة العربية ولا يستطيعون نظم بيت واحد من الشعر، فمعرفة اللغة والتعمّق فيها لا تعطيك الموهبة الشعريّة. وللأمانة أقول، إن الشِّعر إذ مُنح الطبيبُ موهبتَه مبكّرا، فإنه سيكون أكثر عمقا وإبداعا وتألُّقا عمّا سواه، لأنه وبحكم تفوّقه الدراسي، أكثر قابلية للحفظ والتصوّر والفهم.

* ماذا وجدتَ في العيون من سحر فَتَنَت به الشعراء وسجّلَت حضورَها الأخّاذ في قصيدهم؟

- الأعين –وليس العيون- منحة الباري عزّ وجلّ لكل إنسان، فبها يرى ومن خلالها يبصر. وقد كتب الشعراء عن الأعين الكثير؛ لأن العين هي الباب الأوّل والناصع الألوان لكل المشاعر الإنسانية: شوقا وحنانا،  حبًّا وهياما، أو بغضا وتألما، هلعا وخوفا..وقد كتبْت عدّة قصائد تغزُّلا وهياما بالوطن والأمّة، فضّلْت افتتاحها  غزلا وتشبيبا بعين الحبيبة التي قد يظنّ البعض أنها المرأة، ولكنها أرض الوطن وترابه ونخيله، فقلْت:

هي المكاحل من عينيكِ تكتحلُ

وفوق خدّيْكِ لون الورد يكتملُ

*

لا تُوصَفينَ بأشعارٍ منمَّقةٍ

فأجمل الشعر بالمحبوب  يُرتجَلُ

أَسْدلْتِ شَعركِ فوق الوجه مُطرِقةً

كأنما الصبح تحت الليل ينسدل

* أعلن الشاعر أحمد مطر كفره بالشّعر الذي لا يُوقف الظلم ولا  يحرّك الضمائر، فبأيّ الشعر تؤمن وبأيّه تكفر؟

- كل جميل في الشعر أحبه، ولا أميل إلى كلمة الكفر فيه، من أيّ وعاء وإنسان خرج. سُئلْت في مقابلة صحفيّة عن رأيي في أحد الشعراء العراقيين الكبار، فقلت: أُكبره وأحب شعره ولكن أبغضه فكرا وخُلُقا. لقد كان شاعرا جميلا جدا ولكنه شعوبيّ ملحد وفاسد مفسِد، لا يحب وطنه ولا عروبته ولا دينه،  ويميل قلبا وعملا إلى الذين يبغضون العرب والمسلمين، ولهذا السبب أو ذاك، فإني أحب الشّعر بالشاعر وأحب الشاعر بالشّعر. الشاعر الذي يدافع عن أمّته وقيمها وتاريخها في شعره هو الأهم، وهو الذي يجب أن يُحَبّ ويُقيَّم، مع تألّقه شعرا.

* العراق ليس بخير الآن على أكثر من صعيد، هل انعكس ذلك على الشعر أيضا، أم أن المحن تقدح شرارة الشعر وتحفّز قرائح الشعراء؟

- عندما أذكر الشعر، أتذكّر بفخر أيام المِرْبِد الجامع لشعراء العرب من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي وأحيانا الشعراء الأجانب، وعندما احتلّ المجرمون العراق العربي الأصيل، صوّبوا سهام أحقادهم إلى قلب الضاد ونبضه، وإلى قلوب كل العاشقين المغرَمين به، لأنه لم يكن احتلالا فحسب، وإنما تخريبا وذبحا لكل وريدِ نقاءٍ وشريانِ ارتقاء.  والواقع أن المحن قد لا تقدح شرارة الشعر إلّا متأخرّة بعضا من الوقت، ويبقى هول المعاناة من الغادرين العملاء أكثر من المحتل، لا سيّما لقلوبٍ اعتادت على الطِّيبة والنيات الحسنة والصدق.

* حسب إحدى بحوثكم الصادرة حديثا، ما أبرز ملامح الإعجاز القرآني في طب العيون؟

- أوّل بحث ألقيتُه كان في مؤتمر دولي للعيون أُقيم في العاصمة الأردنية عمّان،  وقلت في بدايته إنّ أوّل ما جلب انتباهي للسبق والإعجاز القرآني في طب الأعين، هي الآية الكريمة من سورة البقرة: "يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشَوْا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ الله على كل شيء قدير"،  ونحن نعلم اليوم أن البرق عبارة عن أشعة تحت الحمراء، وعندما تخترق العين مباشرة فإنها تصيب البقعة المبصِرة للعين وهي مركز النظر في الشبكية، فتكون النتيجة إمّا حرقها  أو تلفها أو حصول وذْمة فيها، وبعد أيام أو علاج تعود إلى حالتها الطبيعية عقب امتصاص الوذْمة، ولذلك فإنّ كلمة (يكاد) في الآية الكريمة مفتاحا للدلالة على الإعجاز والسبق القرآني. وكذلك الآية الكريمة "وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون" ، تقرّر أن النظر بالعين، أمّا البصر فهو في المراكز الحسّيّة للإبصار في الدماغ، وتحديدًا في المنطقة القذاليّة منه. وهناك إشارات أخرى كثيرة على هذا الإعجاز يضيق الحوار بسردها.

* كيف رصدتم إسهام الأطباء الشعراء في فضاء الشعر العربي على امتداده زمانا ومكانا؟

- للأطباء في العصر الحديث حضور متميز في الإبداع الشعري، وقد واجهْت في حياتي كثيرا من المضايقات والاستهجان عندما أشترك في مهرجانات شعرية أو عند  نشر بعض قصائدي، وأتذكّر أنني في ستّينات القرن  العشرين وقتما كنت أدرس الطب، كتبْت قصيدة بعنوان (الأمة الحَيْرى)، وأرسلتُها إلى مجلة أدبية متميزة في العراق والعالم العربي وهي (الأقلام)، ونُشرت بعد مقابلة لا أنساها مع مدير تحريرها حينذاك الأديب المعروف خالد الشواف، إذ كان لا يصدّق أنني كاتب القصيدة، خاصة حين علم أنني طالب في كلية الطب!

* على أيّ وجه تتعاطى مع ما يُعرف بقصيدة النثر وقصيدة الهايكو وغيرها من أنماط حديثة؟

- لقد جُبل الإنسان على حبّ السماع إلى نغمات تحرّك شغاف القلب طربا، وتتمايل من بعده الأجساد بحركات متناغمة قد لا تكون إرادية. والشعر العربي مثل أعلى في الألحان والنغمات ولا يُتقبَّل منه سوى ذلك، وهو الشعر الذي نسجه شعراء العرب ببحور (نغمات) وقوافي على سليقتهم وفطرتهم، ولذا فإنني أرى ما يُكتب الآن بدون وزن ولا قافية ما هو إلّا نثر وسجع لا يمكن أن يُسمَّى شعرا. فالشعر الحرّ، لماذا يسمّى حُرّا؟ هل الحرية انفلات من الحقّ والحقيقة! هذا لا ينفي أنني وجدت في بعضه نصوصا جميلة فيها مشاعر عميقة، ولكنها تبقى سردا ولا يحقّ لها أن تكون شعرا، وأكثر من ينسج من هذا النسج الجديد يريد أن ينال لقب شاعر وما هو بشاعر، بل هو ناثر مجيد أو ساجع عتيد. أمّا الهايكو؛  فهو نوع من السرد الأدبي يلائم مؤسّسَه الياباني القديم، وهو نثر جميل وأحاسيس عميقة  تتناسق وتتهادى أمواجا هادئة على ضفاف بحور اليابان  لا على بحور شعرنا العربي الأصيل. وهنا أوجّه سلامي وتحياتي لكل عربي يكتب الهايكو وأقول لهم: رفقا بحرف الضاد والشعر الأصيل.

* هل ترى أن ثلاثة دواوين كافية لتلخيص مشوارك الشعري؟

مَردّ ذلك إلى الواجبات التي تحمّلْت ثقلها وأوزارها أثناء حياتي الطبية في المحيط العسكري الذي تطلّب منّي جهودا مضنية لا أظنّ أقراني في المحيط الطبي المدني عانوها، وخصوصا الأحداث التي تعرّض لها بلدكم وبلدي العراق في تاريخه الحديث والقريب. ومع ذلك، فالدواوين الثلاثة أراها نعمة من الله ومنّة منه، وأرجو الباري عزّ وجلّ أن يمكّنني من إصدار الديوان الثالث وهو أكبر وأكثر غزارة من الديوانيْن السابقيْن. 

* بلغة الكيمياء –والشعر كيمياء من نوع خاص- ما هو أوكسجين شِعرك؟ وما ثاني أُكسيده؟

- إنّ حبّي لشعبي العربي ولبلدي العراق، وحبّي لضاد العروبة ولديني الحنيف، جعلنّي محبًّا لشعر أنسجه بمعاني هذا الحبّ. وأنا مؤمن أن حبّ الأمّة يبدأ بضمير حيّ محِبّ لأهله وعائلته، ومنه ينطلق لحبّ الأقربين ثمّ للأمّة ومُثلها العليا، وأعتقد أن البداية السليمة تكون على هذا السياق، ولا أتصوّر فردا يدّعي احترام الأمّة والمبادئ السامية وهو لا يحترم أبويه وأهله. وأرى أننّي أتنفّس بشعري -وكما نسمّيه الأوكسجين- إن انطلق بهذه المعاني التي سطّرتُها. أما الزفير في شعري -وكما نسميه ثاني أوكسيد الكربون- فهو التعبير عن رفضي وبغضي -شعرا- لكل غريبٍ معتدٍ آثمٍ على أمّتي ومبادئ ديننا الحنيف. إذن، أوكسجيني: هو ما أتنفّسه حبا، وثاني أوكسيدي: هو  ما أرفضه وأبغضه بغضا.

* في اعتقادكم، لمَن تذهب إمارة الشعر العربي اليوم؟

- أظنها ستذهب كما تذهب جائزة نوبل إلى الفائزين بها..

ليس للشِّعر إمارهْ      ضادُنا يعرف دارَه

إنه أمرٌ سِجالٌ     سِرُّهُ أضحى جَهارَه

والشِّعر كما تعلّمت من خبرته بي وخبرتي به، سهل النسج لمَن تعلّم تفعيلات بحوره، ولكن الشّعر حقيقة هو شعور دقيق من قلب رقيق ولبّ عميق، يسافر بصاحبه إلى آفاق رحبة ومعان جميلة أخّاذة مؤثّرة في قلب المتلقّي. وأرى أن معاني الشعر بدأت تُعاد في الغالب، ولكن ببحور وتفعيلات شتى، والذي يأتي بمعنى جديد لم يقله شاعر قبله هو صاحب سبق جديد مبارك. ومن هذا الشعر الجديد المعنى قلت:

أعداؤنا والخائنون ديارَهم

وجهان، صارا واحدا فتكشّفا

إن هم يديرون الظهور تستُّرا

فلقد عرفنا الوجه من ذاك القفا

* هل من وصية جامعة تهديها إلى الأطباء ومِثْلها إلى الشعراء؟

- الإنسانية والأخلاق الحميدة قاسم مشترك بين جميع الخلق ولا فرق بين الأطباء والشعراء في هذا، والتذوّق السليم للفعل والكلام ميزانه واضح جليّ. فعلى الطبيب أن يحب الخير للناس كما يحبه لنفسه، وتبقى الأنانية وحبّ الذات حقا لكل البشر، ولكن بنسبة لا تؤثّر على مصالح الآخرين وتؤرجح  حقوقهم في الصدق والخير. أما الشعراء الأطباء أو غيرهم، فهم في فضل من الله، إذ وهبهم هذه المنحة الراقية، وعليهم مراقبة المانح البارئ المصوِّر في كل ما يقولون وينشدون، فلا يكون شعرهم سلعة بيد الشاري ممّن يتقربون إليه به، لأن الشعر رقيّ وارتقاء ولا يُباع ولا يُشترى. موهبة الشعر عطاء رباني، وعلينا أن نكون بها أمناء أوفياء لأمتنا ولعروبة ضادها ولمُثلها العليا وتاريخها المجيد.

***

أُجري الحوار: د. منير لطفي

في  18 ديسمبر 2022م

 

في المثقف اليوم