مرايا فكرية

مراد غريبي يحاور المفكر والأكاديمي د. علي أسعد وطفة في مرايا فكرية (2)

2760 وطفة ومرادخاص بالمثقف: الحلقة الثانية من مرايا فكرية مع المفكر والأكاديمي الدكتور علي أسعد وطفة، وحوار شامل  أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التربية وعلوم الاجتماع، فأهلا وسهلا بهما:


 س7: أ. مراد غريبي: الظاهرة التربوية متنوعة و حاضرة في كل ميادين الحياة؛ في الشارع، والأسرة، والمسجد، والمدرسة، الملاعب، الأسواق، فضاءات الترفيه ومختلف المنظمات، والمؤسسات، ووسائل الإعلام و الاتصال، و(الإنترنت)، وبين الأفراد والجماعات،... إلخ، مما يوحي بضرورة استقلالية كل علم من العلوم التربوية، حتى تتحقق السيطرة العلمية على موضوع كل نسق معرفي منها، دون تحييدها عن بعضها البعض واستثمارها لصياغة رؤية فلسفية متماسكة ضمن نسق ما يعبر عنه بفلسفة التربية؟

ج7: د. علي أسعد وطفة: أشكركم مرة أخرى على هذا السؤال الحيوي حول استقلالية العلوم التربوية وتكاملها. أقول بداية مع بداية نشأة العلوم وولادتها (منذ بداية القرن السادس عشر) كانت هذه العلوم تبحث عن هويتها واستقلالها وضمن هذا السياق كان العلم الوليد يطور نفسه ويغوص في أعماق ذاته ليضرب جذوره في أرض العلم ويبرهن عن وجوده. وكما تعرفون كانت الفلسفة بداية تمثل الأرومة الحقيقية لمختلف العلوم الطبيعية والفيزيائية. ومع تطور المعرفة بدأت هذه العلوم رحلة استقلالها بدءا من القرن السادس عشر الذي سجل فيه على يد كوبرنيكوس استقلال علم الفلك، وتتابع مع الزمن استقلال العلوم الطبيعية حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث بدأت العلوم الإنسانية بالتوالد ومنها العلوم التربوية.

ومما لا شك فيه أن استقلال العلم يؤدي وظيفة حيوية في استكشاف أبعد ما يمكن استكشافه في المجال العلمي للعلم نفسه. ولكن يؤخذ على الاستقلال العلمي والاستمرار فيه أنه قد يؤدي إلى التصلب والجمود والانفصال عن السياق المعرفي للعلم فيفقد العلم تألقه وحضوره المعرفي وقدرته على الابتكار في مجاله الخاص. ومن أجل تجنب هذا التلبد والتقوقع داخل النطاق المعرفي الواحد أوجد كل علم لنفسه فلسفة توازيه وتعمل على تحقيق التوازن بين التخصص العلمي الدقيق وقدرة هذا العالم على أن يتواصل مع العالم الخارجي دون تصلب أو جمود. ومن هنا ظهر لكل علم فلسفة مثل: فلسفة التاريخ، فلسفة العلوم، فلسفة الفيزياء، فلسفة الحق والقانون، فلسفة التربية...الخ. وكما أشرنا تتمثل وظيفة هذه الفلسفات في حماية هذه الفروع العلمية من حالة الجمود والانكفاء والتكلس، وتحقيق الانسجام والتكامل بين العلم المعني والعلوم الأخرى وما بين العلم والآفاق البعيدة للكون الذي ينتمي فيه.

وفي فترة لاحقة نشأت ضرورة ما يسمى بالعلوم البينية، وهي العلوم التي تبحث في مجالين علميين مترابطين مثل الفيزياء النووية، البيئة والتنمية وفي مجال العلوم التربوية مثل: علم الاجتماع التربوي، وفلسفة التربية والأنثروبولوجيا التربوية، وسياسات التربية، والتربية المقارنة، وعلم الاجتماع المدرسي. ومن الطبعي أن نشأة هذه العلوم البينية تدل بصورة قاطعة على أهمية التعاون والتفاعل بين العلوم في معالجة الظواهر الطبيعية والاجتماعية. وهذا يدلنا على أن العلم أي فرع علمي عندما يبلغ أشده وينمو ويحظى باستقلاله وكماله يستطيع أن يخرج من دائرة الهوس بالاستقلال إلى دائرة التعاون والتفاعل والتكامل مع العلوم الأخرى. وهذا يعني أنه يوجد لكل علم مساران أساسيان أحدهما عمودي يتعلق بالتخصص الدقيق وآخر أفقي يتعلق بقدرته العلم نفسه على التعاون مع العلوم الأخرى في مجال الفهم والاكتشاف والتفسير. وهذا التعاون تقتضيه شمولية الظواهر الكونية وعمقها وتعدد مظاهرها الطبيعية. فأي ظاهرة في الطبيعة تمتلك تكوينات مختلف في ذاتها، وهذه التكوينات تأخذ طابعا فيزيائيا وكيميائيا ورياضيا ولذاك فإن فهم أي ظاهرة لا يتم بشكل واضح إلا بتكامل العلوم الذي يقدم فرصة أفضل لفهم ظاهرة ما في الكون.

ويبدو أن الظاهرة الاجتماعية أو التربوية أشدّ تعقيدا من الظواهر الفيزيائية والطبيعية، ومن هنا يبدو لنا أن صيغة التكامل بين العلوم التربوية أكثر أهمية وخطورة وضرورة من الظواهر الفيزيائية نفسها. وقد فرض هذا التعقيد في الظاهرة التربوية حضورا مكثفا للعلوم البينية التي تتناولها وتبحث فيها وتعمل على تطويرها. فالتربية هي من أكثر الظواهر الاجتماعية تعقيدا ولذا فإن أكثر علوم التربية هي علوم بينية متكاملة ومتفاعلة جزئيا وكليا. ومن هذا المنطلق نجد أن المتخصص في مجال التربية يجب أن يكون موسوعيا ليتمكن فعليا من امتلاك القدرة على فهم الظاهرة التربوية، وأن أغلب المقررات في أصول التربية هي مقررات بينية بالضرورة. وهذا يعني أن التكامل بين العلوم أصبح ضرورة قصوى بالنسبة إلى التربية وغيرها من العلوم.

وهنا يجب علينا أن نؤكد أنه لا يوجد أي تناقض بين التخصص في العلم والتعمق فيه إذ يستطيع العلماء الغوص في معاني العلم دون أن يمنعهم ذلك من الخوض في العلوم الأخرى وتحقيق التكامل بين تصوراتهم العلمية في ضوء التفاعل العلمي مع العلوم الأخرى. ومن هذا المنطلق فإن العلم عليه أن يأخذ بمساريه التخصص والتعمق فيه ومن ثم العمل على تحقيق التكامل بين التخصص والعلوم الأخرى. وهذا لا يضير بل يساعد دائما على الانطلاق في العلم والتحليق في المعرفة. وهذا ما نلاحظه اليوم إذ يوجد هناك تكامل عميق بين هذه العلوم وفيما بينها وبين المحيط الحيوي والاجتماعي الذي توجد فيه.

فالتربية ظاهرة كلية وهي تنطوي بين جوانحها على مختلف مظاهر الوجود ولهذا اقتضى الأمر تعمقا في العلوم واستقلال لها وتكاملا بينها. ونقول في هذا السياق أيضا إن العلوم التربوية تقع في منطقة التجاذب والتقاطب بين مطلبين: مطلب الاستقلال والهوية، ومطلب التكامل مع العلوم الأخرى. وهنا يجب علينا أن نحقق هذا التكامل فلا يكون الاستقلال العلمي انفصالا ولا يكون التكامل بين العلوم ذوبانا في العلوم الأخرى.

وهذا المطلب المزدوج يجب أن يتحقق أيضا في شخص المعلم والأستاذ الجامعي فيجب على الأستاذ الجامعي ألا يغور في الاختصاص إلى حد الغياب والتغييب، وألا يتلاشى خارج دائرة الاختصاص إلى حدّ الذوبان. وهذا يعني في النهاية أن التعمق في الاختصاص يجب أن يتكامل مع التفقه في الاختصاصات الأخرى القريبة والرديفة. وهذا يشكل ما نسميه بالثقافة العلمية التي تجعل من الطالب قادرا على مواجهة الحياة علميا ومعرفيا وإنسانيا.

نقول إن الاستغراق في التخصص العلمي ضمن ما نسميه بالاستقلال العلمي أمر خطير ونتائجه قد تكون كارثية في العلوم التربوية، ويجب علينا أن نحذر من تدريس العلوم التربوية بوصفها كيانات منفصلة يغيب فيها التكامل. ومثل هذا الأمر يهدد العلم ذاته والدارسين فيه إذ يجب أن تنكبَّ الجهود لإيجاد التكامل المنشود بين التفرعات المختلفة. فالتربية لا يمكن أن تكون ألا مشروعا إنسانيا منفتحا على ذاته وعلى المحيط الذي توجد فيه. ويقينا تأخذ المعرفة التربوية صيرورة نماء مستمرٍّ وهي تتدفق فيضا يتجاوز أسوار الجامعات والمؤسسات العلمية.

باختصار، الاستقلال في العلم لا يعني الانفصال والتفاعل لا يعني الذوبان. ومن هنا يجب على العلوم بعامة والعلوم التربوية بخاصة أن تجمع بين الأمرين وتنطلق بقوة هذين الجناحين لترسخ معرفة حقيقية وصميمية في دائرة التفاعل والتكامل الإنساني المنشود.

س8: أ. مراد غريبي: حديثنا عن علوم التربية يعني فلسفة و أدب و ثقافة و دين و تاريخ و علوم حديثة، بحكم تخصصكم في مجال التربية و علم الاجتماع التربوي، ماذا عن علوم التربية عربيا، هل حاله حال المجالات العلمية الأخرى حبيسة الفلسفات و النظريات الغربية أم هناك محاولات جادة في الاستقلال و الإصلاح و التجديد؟ وهل استفاد العرب من النماذج التربوية الغربية ومناهجها ونظرياتها أم مجرد محاولات تبيئة واستنساخ؟

ج8: د. علي أسعد وطفة: أولا بالنسبة إلى علوم التربية عربيا أقول إننا ما زلنا ندور في فلك المعطيات الغربية في مجال هذه العلوم، وهذه العلوم لم تأخذ بصمتها العربية حتى اليوم. فالعلوم التي ندرسها ونجترها هي تكوينات غربية الهوى والهوية ولا يوجد إسهام عربي حقيقي في هذا المجال حتى اليوم. فالبصمة الإبداعية العربية غائبة كليا في مجال العلوم التربوية كما في غيرها. ومع الأسف أننا ما زلنا نعيش حالة هذه العلوم في الزمن الأول الذي نشأت فيها، أي في النصف الأول من القرن العشرين. وما زلنا نجتر بعض الترجمات العربية للكتب الأجنبية التي صدرت في بداية القرن الماضي. فالغرب يتقدم وهذه العلوم تحقق تطورات كثيرة مذهلة، ولكننا لا نواكب حتى ما يدور في عالم المعرفة الغربي من إبداعات وطفرات إبداعية في مجال العلوم التربوية، وبقينا في حالة الاجترار العلمي الساذج لمنتجات الغرب الفكرية التي أصبحت من مخلفات الحضارة الغربية. ويعود ذلك إلى ضعف حركة الترجمة والتواصل الفعلي بين أساتذة الجامعات والمعرفة الغربية. لقد قام الرعيل الأول من المفكرين العرب أو أساتذة الجامعات بترجمة بعض الأعمال الرئيسية إلى العربية، ولكن هذه الحركة توقفت كليا في النصف الثاني من القرن الماضي. ومن الطبيعي أن نقوم نحن أساتذة الجامعة بتعليم هذه العلوم بطريقة فجة وتلقينية دون أي حركة إبداعية ودون أي تواصل ابتكاري مع المصادر العلمية المتقدمة في الغرب والشرق في آن واحد. ومن المؤسف أيضا أن الأكاديميين العرب يغرقون في داخل هذه الاختصاصات العلمية ويعيشون في شرانقها ويتناقلونها بصورة شكلية ساذجة.

ومع الأسف لا يوجد هناك أي بوادر للتجديد أو الإصلاح كما تفضلتم، ويندر أن نرى أكاديميا عربيا قد وصل إلى مستوى العالمية في مجال الإنتاج الفكري -التربوي أو غيره من الاختصاصات العلمية. فنحن نعيش حالة تصحر فكري وثقافي مخيفة ويكاد تعليمنا لا يتجاوز حدود التلقين الجامد لبعض العلوم والمعارف في عقول طلبتنا دون أن يكون فيها هذا الثراء الفكري المطلوب للحركة النهضوية في العلم والمعرفة.

س9: أ. مراد غريبي: وماذا عن أسلمة علوم التربية ومدى واقعيتها بحكم العقل العملي الخاص بسياقات العلوم المعاصرة؟؟

ج9: د. علي أسعد وطفة: يا صديقي أرى أن العلم يفقد صفته العلمية عندما نضفي عليه طابعا دينيا، وأعتقد أن تديين العلم يعبر عن حالة ضعف وعجز وقصور حضاري. فالتديين هو ردة فعل إزاء النقص الذي نستشعر إزاء الحضارة الغريبة المتقدمة. فالعلم لا يتدين والدين لا يتعلمن. فالدين يعتمد في جوهره على الإيمان في حين يعتمد العلم على التجربة المنفصلة عن أي إيمان كان. فموضوعية العلم تضعه خارج العقائد وبعيدا عن الأيديولوجيات الدينية. وهذا يعني أن تديين العلم يشكل محاولة يائسة لتدمير العلم نفسه فالعلم المتدين خواء وفراغ، وهو بتدينه يفقد أهم شرط من شروطه الموضوعية. فالعلم منهج يبحث في الطبيعة والكون بغض النظر عن الأيديولوجيات والأديان والعقائد. وهناك تناقض كبير في منهجية الدين ومنهجية العلم؛ فالأول يقوم على المسلمات والمطلقات أما الثاني فيقوم على التجارب والمعقولات وشتان بين الأمرين. وهذا يعني أن العلم لا يمكن أن يكون دينا كما أن الدين لا يمكن أن يكون علما. فالدين بحث في المطلقات والعلم بحث في النسبيات والمتغيرات. العلم يغير ويتغير في حين أن الدين يعتمد مبدأ اليقين والثبات.

لا يمكننا على سبيل المثال أن نتحدث عن فيزياء إسلامية وأخرى مسيحية وثالثة يهودية أو بوذية. فالفيزياء بحث في الطبيعة الكونية وقوانينها واحدة هنا وهناك لأنها تبحث في كون واحد وموضوع واحد. وأعتقد أن أسلمة العلوم كما أشرت هي محاولة يائسة لتفريغ العلوم من طاقتها العلمية. ومن الغريب أن تديين العلم ظاهرة إسلامية أقصد أننا نحن المسلمين من يريد أسلمتها ولا يوجد تاريخيا تدين العلم مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا. فالعلم لا وطن له ولا عرق ولا دين العلم علم والدين دين والخلط بينهما لا يكون إلا تعبيرا عن العجز والقصور؛ لأن الدين يفقد جوهره عندما نريده أن يكون علما عمليا وكذلك العلم يفقد جوهره عندما نجعله تحت سلطة العقيدية والإيمان. فكل اكتشاف علمي في أي مكان أو زمان هو اكتشاف يتجاوز حدود الزمان والمكان والأديان والعقائد والأيديولوجيات. وكل اختراع يصبح ملكا للإنسانية دون تمييز بين عرق أو دين أو جنس. وقد يمكننا أن نتحدث عن العلم ضمن دوائر جغرافية كأن نقول تطور الفيزياء في فرنسا في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر. مع أن أي تطور هو تطور إنساني.

فالعلوم تطورت وتخاصبت عبر الزمن وعبر الحضارات وكل إنجاز علمي حدث في أي مكان كان يشكل مقدمة للتطور في مكان آخر من العالم. فاكتشاف الذرة وتفجيرها لم يكن أكثر من تطور فكرة ذرية في العصر اليوناني القديم. فكل خطوة من خطوات العلم ما هي إلا تطور وتطوير للخطوات السابقة. فما أنجزه المسلمون في عصرهم الذهبي لا تنفصل نتائجه عما نراه اليوم من تطور في العلوم والفنون. وهذا يعني أن العلوم ظاهرة إنسانية فوق الأيديولوجيات والعرقيات والمذاهب والأديان.

ويجب علينا نحن العرب المسلمين أن نلج إلى بوابات العلم بصورته العالمية وألا ننغلق على أنفسنا ضمن مسارات أيديولوجية ودينية قد تضيق مساحتها قليلا أو كثيرا عن الفضاء الواسع للعلم الذي ينطلق في مجال الكون ليتجاوز حدود المجموعة الشمسية. فلا يمكن أن نتحدث عن فيزياء نووية إسلامية وأخرى مسيحية، فالذرة وقوانينها ومفاعلاتها واحدة هنا وهناك. والقنبلة الذرية الباكستانية لا تختلف في أسسها العلمية عن القنبلة الذرية الهندية. فلا هذه إسلامية ولا تلك هندوسية أو مسيحية. وعلى هذا الأساس فإن الدعوة إلى تديين العلم دعوة إلى الخلف وإلى الجمود والهزيمة والانكسار. وهذا ينطبق تماما على العلوم التربوية إذ لا يمكن أن نتحدث عن إحصاء تربوي إسلامي أو علم اجتماع تربوي إسلامي. وهذا النوع من الأسلمة يعني في النهاية القطيعة مع حركة الحضارة الإنسانية التي تميل إلى التكامل والتفاعل الحضاري على إيقاع إنساني واحد. وإذا كانت الأسلمة فكرة حقيقية فإن مثل هذه الأسلمة إذا افترضنا أنها ممكنة تتطلب تجاوز الحضارة الغربية واحتواءها والانطلاق منها إلى بناء حضارة جديدة تقوم على الإبداع والابتكار والتجاوز، وعندها يمكن الحديث عن أسلمة وتعريب للحضارة الإنسانية.

2760 وطفة ومراد

س10: أ. مراد غريبي: هل يمكننا القول تخلفنا عن صياغة فلسفة تربوية بمعنى عدم وعينا بعد، ماذا نريد من العملية التربوية؟ ولأية أهداف؟ وما خصائص وصفات المدرس والتلميذ والمدرسة؟ وكيف نبلور مناهج تربوية تتناسب وتطلعنا الحضاري وعلى ضوء ثقافتنا العربية الصحيحة والسليمة؟ كلها أسئلة محورية في الفعل التربوي بعيدًا عن بعض النزعات والخلفيات الإيديولوجية..

ج10: د. علي أسعد وطفة: سيدي الفاضل، المسألة لا تكمن في فلسفة تربوية ممكنة بل في تخلف حضاري عميق وشامل في مختلف المستويات والأبعاد. من نحن؟ إذا كنت تقصد العرب فنحن أشلاء ممزقة في 22 دولة ويزيد والحبل على الجرار؟ دول فقدت كل مقومات الحضارة والوجود، مثل: اليمن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين المغتصبة وليبيا والصومال... والقائمة تطول. عن أي فلسفة تريدنا أن نتحدث يا سدي!؟ واسمح لي أن أعبر عن وضعيتنا العربية في سياق إحصائي بلغة الأرقام في تقرير القمة العالمية للحكومات في دبي في عام 2017:

- 57 مليون عربي لا يعرفون القراءة والكتابة.

- 13.5 مليون طفل عربي لم يلتحقوا بالمدارس هذا العام.

- 30مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر.

 - 1 تريليون دولار كلفة الفساد في المنطقة العربية.

- 5 دول عربية في قائمة الدول العشر الأكثر فساداً في العالم.

- العالم العربي يمثل 5% من سكان العالم إلا أنه يعاني 45% من الهجمات الإرهابية عالمياً.

- 75 % من اللاجئين في العالم عرب!

- 68 %من وفيات الحروب عالمياً عرب!

- 20 ألف كتاب فقط ينتجها العالم العربي سنوياً، أي أقل من دولة مثل رومانيا.

- 410 مليون عربي لديهم 2,900 براءة اختراع فقط، فيما لدى الكوريين الجنوبيين فقط 20,201 براءة اختراع.

- من عام 2011 حتى 2017 تم تشريد 14 مليون عربي.

- من عام 2011 حتى 2017 خسائر بشرية تصل إلى 1.4 مليون قتيل وجريح عربي.

- من عام 2011 حتى 2017 تم تدمير بنية تحتية بقيمة 460 مليار دولار.

- من عام 2011 حتى العام الحالي خسائر في الناتج المحلي العربي بقيمة 300 مليار دولار.

في ضوء هذه الظروف المأساوية لا أعتقد أنه يجدر بنا أن نتحدث عن أهداف تربوية أو فلسفات تربوية. فالفلسفات لا تكون إلا في سياق تاريخي واجتماعي متحضر ومتقدم. المجتمعات العربية محكومة بالحديد والديكتاتوريات والنار ومع هذه الديكتاتوريات وهذا التخلف يستحيل علينا أن نقع على فلسفات تربوية حقيقية. فمدارسنا ومؤسساتنا التربوية هي في أفضل حالاتها معسكرات للتدجين والترويض والتهجين، وجامعاتنا معسكرات للأنظمة السياسية تنتج وتعيد إنتاج التخلف الاجتماعي وتكريس كل مظاهر القهر والسلبية والاستلاب والاغتراب في حياتنا الاجتماعية والثقافية.

مع هذا التخلف الثقافي والأخلاقي والإنساني والاقتصادي الشامل الذي يضرب في العمق لا تحدثني عن أهداف تربوية أو أنظمة تربوية. فمجتمعاتنا يا صديقي تعاني من التخلف والتجزئة والاستبداد والتبعية ولا يوجد ربما دولة واحدة خارج هذه الصورة كليا أو جزئيا. فكيف نتحدث عن أهداف تربوية وفلسفات إنسانية وقيم أخلاقية. الحالة مأساوية وبائسة، فالدول العربية تحتاج إلى معجزات إلهية معجزات وليست معجزة كي تستطيع أن تبدأ خطوتها الأولى، لأن مظاهر الجهل والتخلف والاستبداد قد تكاثفت وتصلبت حتى أصبحت حصونا لا يمكن كسرها أو دكها أو تدميرها. إنها حصون التخلف الهائلة التي تصغر معها أسوار الصين.

 س11: أ. مراد غريبي: بنظركم ماهي الأسس السوسيوثقافية القادرة على خلق سياق فلسفي عربي من شأنه إبداع نسق علمي تربوي خاص و استراتيجي؟

 ج11: د. علي أسعد وطفة: سيدي الفاضل،  أثبتت تجارب الأمم أن نهضة الأمم لا تكون إلا بإحداث ثورة فكرية على صورة زلزال هائل مدمر يسقط أوابد التخلف وأركانه، إذ لا بد من إعصار كاسح لتحطيم أساطير الذهنية التقليدية وإسقاط أوابدها وهدم مطلقاتها الثقافية المغلقة من أجل الانتقال إلى بناء حضارة تواكب مستجدات العقل والعلم والمعرفة بأكثر مظاهرها الإنسانية تقدما وحيوية. فالنقلة الحضارية تحتاج إلى عقلية متحفزة منطلقة تتجاوز في قدرتها كل رواسب الثقافة التقليدية بأساطيرها وخرافاتها وأوهامها.

إن أخطر ما يمكن لمخططات التنمية في البلدان العربية أن تواجهه يتمثل في عطالة العقل التقليدي بأختامه السحرية وجموده المستطير وانغلاقه على موانع التنمية ومضادات التقدم والنهضة. فالعقل المتخلف مبني على مبدأ التصلب والممانعة لكل أشكال التنوير والعقلانية في مختلف أوجه الحياة الإنسانية. وهو يمتلك في ذاته مطلقات ومقدسات وأوهاما أسطورية قادرة بميزاتها السحرية الهائلة على مقاومة كل إشعاعات التنوير وإضاءات العقل المنفتح وكل أشكال القيم الحضارية والإنسانية.

فالثقافات التقليدية المتحجرة الصماء التي تخيم على وجودنا تمتلك في ذاتها القدرة التلقائية الهائلة على دفع ورفض ونبذ المؤثرات الثقافية الجديدة التي لا تتوافق مع بنيتها الأسطورية، وهي فوق ذاك كله قادرة في حالة التصادم مع المؤثرات الثقافية الجديدة على احتواء هذا الجديد بطريقة تكلسية تصلبية، أي بمعنى أنها قادرة على احتواء هذه المؤثرات الثقافية الجديدة وتفريغها من مضمونها العقلاني وتحويلها إلى أبنية صلبة متحجرة تزيد من متانة التخلف وعنفوانه الأسطوري.

ويستطيع هذا البناء الثقافي المتحجر أن يستقطب كل ما هو جديد بطريقة الاحتواء والانصهار والتجميد. وهذا يعني أن الثقافة العربية التقليدية تستطيع بقدرتها الهائلة احتواء معطيات العلم والقيم الحضارية ضمن حركة الصهر والتذويب والتبريد لتحولها إلى قيم جديدة تغذي القديم وتزيد في مناعته وصلابته. فنحن اليوم نعيش هذه الفعالية الثقافية الهائلة في مدار ثقافتنا حيث يوظف العلم ومنتجاته جميعها بطريقة أسطورية، فيتم تحويل معطياته إلى قوة تعزز ما هو قديم بما هو جديد كاستخدام المعارف العلمية الجديدة في تأصيل المفاهيم الأسطورية والعقائد التقليدية الجامدة المهووسة بأساطيرها.

ونحن نستطيع اليوم أن نرى بوضوح كبير أن الثقافة التقليدية تجاوزت أدواتها القديمة في صد الجديد ورده ودفعه وتبنت أدواتها الجديدة باحتواء الجديد وتحويله إلى قديم متجدد متصلب. وهذا يعني أن الثقافة التقليدية استطاعت أن تغني جمودها وتصلبها بتحويل العطاءات العلمية والفكرية إلى أساطير تقليدية جديدة تتجه إلى زيادة درجة الجمود والعطالة في الذهنية التقليدية. وليس أدل على ذلك من استخدام أكثر وسائل الحضارة تقدما في نشر وتعزيز وترسيخ الجمود الصارم للثقافة التقليدية. ومن هنا يمكن الإشارة إلى توظيف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي كقوة جبارة في ترسيخ ودعم وتعزيز ونشر الثقافة التقليدية بأكثر قيمها شذوذا وانحرافا. ولا يخفى على الناظر اليوم الكيفية التي يتم بها توظيف نتائج العلم الحديث في الفيزياء والكيمياء والرياضيات من أجل تعزيز عقائد تقليدية أسطورية مضادة للعلم والمعرفة في بنيتها ووظيفتها.

وضمن هذه الرؤية يمكن القول بأن سدنة الثقافة التقليدية استطاعوا على نحو متميز توظيف معطيات العلم ومنجزاته في تأصيل المنظومات الفكرية والذهنية المضادة للفكر والعقل والمنطق والتنوير. فرجال الدين يستخدمون اليوم الرياضيات والفيزياء والفلك في رسم حدود الأرض والسماء ويرسمون بالخرائط مكان الجنة والنار في قلب الفضاء ويرسمون أبعاد وإحداثيات حركات الملائكة ويعملون على قياسها بذبذبات الضوء وومضات المغناطيس والكهرباء.

وفي هذه الدائرة يمكن القول بأن التواصل والتصادم بين الثقافة التقليدية والعقل الحديث لم يؤديا في مجتمعاتنا إلى هدم القديم وسقوطه بقدر ما استطاعت الثقافة التقليدية أن تزداد قوة وتصلبا وممانعة وحضورا وامتدادا وتوسعا.

ومن المذهل أن ترى على مدّ البصر طبقات من المثقفين والمفكرين والمتخصصين في المجالات العلمية وهم يفكرون بطريقة تقليدية تماما لا تختلف عن الطريقة التي يفكر بها فلاحو القرون الوسطى فيما يتعلق بنظرتهم إلى الكون والحياة والوجود. وهؤلاء في مدار الساعة لا يجدون أي تناقض فيما تعلموه من علوم حديثة وبين الطريقة التقليدية التي تشكلوا على منوالها في النظرة إلى الوجود والكون والحياة. واستطاع هؤلاء المتعلمون والعلماء في مجال اختصاصاتهم تحقيق توافق مطلق بين العلم والمعرفة والميتافيزياء وبين منظومات القيم التقليدية التي تقوم على مرتكزات المقدس والخرافة. ومن المدهش حقا أن نجد العراف والمنجم ورجل الدين يستخدم معطيات العلم الحديث في تفسير وتحليل معطيات الكون في تعزيز ترهاته وطقوسه، مثل عملية انتقال الأرواح بسرعة الضوء واستخدام المعادلات في قياس حركة الملائكة في السماء واستخدام دلالات الثقوب السوداء في السماء وحركات الكواكب ودورانها والجاذبية في تفسير وتحليل العقائد.

هذا التطور الجديد الذي شهدته الثقافة التقليدية يعد طورا جديدا من أطوار التفاعل مع حضارة العصر، فالثقافة التقليدية استطاعت أن تتجاوز طور التصادم والتصدع والانهيار في مواجهة العلوم الحديثة والفكر الحديث إلى طور الاحتواء والتكيف والامتداد والتفاعل البرغماتي في تحويل العلم وقضاياه إلى نماذج للتفكير السحري ووسائل لتعزيز الفهم الأسطوري للكون والوجود والحياة.

وهكذا تطالعنا الحياة الثقافية بنماذج أسطورية لأساتذة جامعات وعلماء عادوا من الغرب وهم يحملون أعلى الشهادات العلمية في الطب والهندسة والفلسفة والكيمياء، ولكنهم في مسار حياتهم المهنية لا ينفكون يكرسون ثم يكثفون نمطا من التفكير الأسطوري المتشبع بالأوهام والمتكسر بالخرافات في عقلية الأجيال الجديدة. وفي الجعبة مئات الحوادث والشواهد حول هذه المسألة أحدثها أستاذ جامعي عائد من الإيفاد قضى في الجامعات الأمريكية عقدا من الزمن ثم عاد ليلقي أول محاضرة له لطلبة في طريقة إخراج الجن والشياطين من بدن الإنسان. والبقية تأتي.

 فالصلابة التي تميزت بها ثقافتنا التقليدية جعلتها غير قابلة للاختراق الحضاري، وصدام هذه الثقافة مع الحضارة الغربية لم يضعفها بل زادها قوة وتصلبا وانكفاء. ولم تستطع علوم الغرب وفنونه وعقلانيته أن تكسر هذا الجمود في الثقافة التقليدية التي استطاعت أن تصد وترد كل معطيات العلم في مجال الحياة والثقافة والإعلام والاقتصاد والنظرة إلى الكون، وبقي الإنسان العربي غارقا في متاهاتها مأسورا بسحر خرافاتها وأساطيرها. وهذا يعني أن الاختراق الثقافي للعقلية التقليدية أشبه بالمستحيل نتيجة لما رسخ في بنية هذه الثقافة من تصلب في الفكر وجمود في العقائد والعادات.

 كانت الفلسفة وما زالت صرخة إنسانية نبيلة تدعو الإنسان إلى المكاشفة النقدية والخروج من صمت التقاليد الجامدة إلى تحطيم أوهام الإنسان ومطلقاته الجامدة.. . إنها دعوة إلى حرية العقل ونبل التفكير ورفض لكل أشكال التعنت والتصلب الفكري بمختلف أشكاله وتجلياته، بل هي دعوة حقة إلى رفض المطلقات والمسلمات والمقدسات التي تمنع الفكر من الحرية والانطلاق. إنها إعلان صريح وامض بالشوق إلى المعرفة في أكثر تجلياتها العقلية شموخا وتنويرا. وهذا يعني أن الفلسفة كانت رفضا لكل المسلمات القائمة على التقاليد الجامدة والرؤى السحرية الأسطورية للوجود والكون.. إنها ثورة على كل ما تعلمه الإنسان من موثوقات ويقينيات غارقة في المقدسات الزائفة وتائهة في التقاليد الفكرية المضادة للعقل والمنطق.

والفلسفة هي رفض للحقائق المطلقة وانفتاح على الحقيقة الإنسانية المتجددة التي ترى في الحقيقة واقعا نسبيا متحركا في غمرة التفاعل الحقيقي بين أطوار الزمان والمكان.. . فالحقيقة متغير وهي دائمة التغير ولا شيء يقف على الثبات غير حقيقة التغير ذاته المنفتح على كل أشكال الحقيقة وماهياتها ضمن صيرورة أبدية لا تنتهي بمجال ولا تقف عن حدود وثوقية معلنة.

 يجري الاعتقاد اليوم أن الوصفة السحرية للتقدم تكمن في نقل المعارف والعلوم والتقانة إلى المؤسسات التعليمية، وأن تعليم العلوم والمعارف العلمية واستخدام أفضل الأساليب التربوية في التعليم يمكنها أن تحقق النهضة والتقدم الحضاري على نحو تلقائي، ولكن التجارب التاريخية تعلمنا أن تكاثف الجامعات وتعاظم المؤسسات التربوية ونقل المعارف والتكنولوجيا لم يفض قط إلى بناء الحضارة وإحياء التقدم في المجتمعات المتخلفة. وأن كل هذا الركام من المعارف والتقانات لم ولن ينفع ما لم تحدث ثورة فكرية ثقافة شاملة تكسر اليقينيات وأنماط التفكير التقليدية المضادة للتطور والتقدم. فالعلوم والمعارف ليست أصلا في الحضارة بقدر ما هي نتيجة لانتفاضة العقل على تقاليد الجمود الفكري والتخلف الثقافي لدى الشعوب. ومن أجل مزيد من الوضوح نقول إن العصب الحقيقي للتقدم يكون في تطوير العقليات من عقليات جامدة ملجومة بالمقدسات والمطلقات المضادة للإنسان والحضارة إلى عقليات منفتحة على العقل والتساؤل والنسبية والإبداع والتفاؤل.

ولا يمكن لأي معارف علمية أن تحدث دويا في الواقع وتغييرا حضاريا ما لم تتساوق مع نمط جديد من العقل الحر والعقلية المتمردة على أوابد اليقينيات الماضوية المنفتحة على التساؤل والتمرد والإبداع والرفض والإيمان بسلطة العقل القائم على النسبية المفارق للمطلقات المعادي للمقدسات واليقينيات الخارقة. العلوم والمعارف والتقانات لا تزيد العقل المغلق إلا انغلاقا ولا تضفي على الثقافة التقليدية سوى تصلب وجمود وجنوح نحو اليقينيات المجافية للعقل والعقلانية.

 

حاوره: الأستاذ الباحث مراد غريبي

صحيفة المثقف

7 - 9 - 2012

 

 

في المثقف اليوم