مرايا فكرية

مراد غريبي يحاور الباحث الفكري والفلسفي د. محمود محمد علي (2)

3030 مراد ومحمودالمثقف: الحلقة الثانية من مرايا فكرية مع الباحث الفكري والفلسفي د. محمود محمد علي، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول حول المشهد الفكري - الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:

المحور الثاني: الفلسفة في مصر: الأعلام، المدارس، المنجزات

هذه الحلقة من حوارنا مع الدكتور محمود محمد علي، المفكر والأكاديمي العربي النشط نخصصها لفتح ملف الفلسفة في مصر الحديثة والمعاصرة، الأعلام والمدارس والمنجزات:

س11: ا. مراد غريبي: عرف الفكر الفلسفي تطورا مهما في مصر الحديثة والمعاصرة بفضل أسماء عديدة ساهمت في إثراء التأليف الفلسفي، هل يمكنكم تحديد أهم الشخصيات التي نهضت بالفكر الفلسفي الحديث والمعاصر في مصر؟

ج11: د. محمود محمد علي: هناك كثير من الشخصيات التي نهضت بالفكر الفلسفي الحديث والمعاصر في مصر نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: الأمام محمد عبده، طه حسين، وزكي نجيب محمود فهل، ومحمود أمين العالم، وعبد الرحمن بدوي، وحسن حنفي وغيرهم كثير، والحديث يطول لو تكلمنا عن كل واحد من هؤلاء، ويكفينا الكلام عن حسن حنفي رحمه الله والذي كان من أبرز مشاريعه الفكرية قضية "التراث والتجديد" الذى ينقسم إلى ثلاثة مستويات يخاطب الأول منها المتخصصين، والثانى للفلاسفة والمثقفين، بغرض نشر الوعي الفَلسفي وبيان أثر المشروعِ فى الثّقافة؛ والأخير للعامة، بغرض تحويل المشروع إلى ثقافة شعبية سياسيَّة.. قدم الراحل الدكتور حسن حنفى مجموعة من المؤلفات فى عدة مجالات منها: "سلسلة موقفنا من التراث القديم مكونة من 4 مجلدات، ومن العقيدة إلى الثورة، وحوار الأجيال، من النقل إلى الإبداع المكونة من 9 مجلدات، وموسوعة الحضارة العربية الإسلامية، وفيشته فيلسوف المقاومة، حوار المشرق والمغرب، من النقل إلى العقل" وكان أخرها "ذكريات" التى تضم حياته الشخصية ومسيرته العلمية.

س12: ا. مراد غريبي: يرى المتتبعون أن الفكر الفلسفي المصري المعاصر عرف ذروة تطوره في العالم العربي في الربعين الأخيرين من القرن الماضي مع أعمال الأعلام عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا ويوسف كرم، ثم لم يصبح مستقلا وإنما أكثر تأثرا بالمنتج الفلسفي الغربي وإعادة إحياء الفكر الفلسفي الإسلامي، هل صحيح وماذا عما بعد اهرامات الفلسفة المصرية الحديثة ؟

ج12: د. محمود محمد علي: ليس صحيحا القول بأن جهود عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا كانوا أكثر تأثرا بالمنتج الفلسفي الغربي وإعادة إحياء الفكر الفلسفي الإسلامي، فلا ننسي عبد الرحمن بدوي والذي قال عنه طه حسين بأنه أول فيلسوف عربي استطاع في كتابته أن يبين دور الفلسفة في تاسيس الوعي والروح التي يمكنها خلق حياة جديدة، ونظرة جديدة للكون، والحياة، والتاريخ، فتأسيس النظر أساس العمل، والثورة الروحية أساس الثورة السياسية والحضارة الجديدة... كذلك لا ننسي ما قدمه زكي نجيب محمود الذي أسهم فى إثراء العقل العربى وفند نظريات فلسفية قديمة وحديثة وقدمها للقارئ العربى بسلاسة «وغاص» فى أعماق الحياة بكل تفاصيلها، وكان كما قال عنه بحق العقاد؛ أنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة؛ فهو الذى رفض الاستعلاء والتنظير وسعى للتفكير العلمى والقابل للتطبيق، وقدم كتبه الفلسفية بقلم أديب ذو نكهة خاصة... وحول سؤالكم الطيب: ماذا عما بعد اهرامات الفلسفة المصرية الحديثة ؟.. أقول لكم هناك فلاسفة معاصرين خرجوا من رحم عبد الرحمن بدوي وزكي محمود وفؤاد زكريا من أمثال: عصمت نصار، وحسن عبد الحميد، ومحمد علي أبو ريان، ويحي هويدي، وزكريا إبراهيم، ومحمد مهران، ومصطفي النشار، وأحمد الجزار، ومحمد عثمان الخشت، ومحمد صالح، وفيصل بدير عون، ومحمد حسيني أبو سعده، ومني أبو زيد، ومجدي الجزيري، وأحمد سالم .. الخ، ومن قبلهم جميعا أستاذنا عثمان أمين صاحب فلسفة الجوانية والتي أكد من خلالها أن الإصلاح والتغيير على جميع المستويات الإنسانية والاجتماعية والسياسية والحضارية ينبغي أن ينبع من الداخل، ولا يُفرض من الخارج، أي أن تكون عملية الإصلاح "جوانية" وليست "برانية"، تركز على الداخلي والقلبي والإنساني الوجداني، وتنبع من الذات الحضارية، ولا يتم فرضها من الخارج سواء بالإملاء أو التقليد.. والحديث يطول ويطول لو أخذت أسرد لكم ما قام به الخلف من المصريين في مجال التفلسف والإسهام البناء في تطور الفكر المصري المعاصر.

س13: ا. مراد غريبي: ماهي أهم المدارس الفلسفية التي عرفتها مصر وهل لايزال حضور للفلسفة المصرية القديمة في الدرس والتأليف الفلسفين أم أن الفلسفة الإسلامية الأكثر حضورا في الفكر الفلسفي المصري المعاصر؟

ج13: د. محمود محمد علي: شهدت مصر مجموعة من المدارس الفلسفية في العصر الحديث، بدأت بمدرسة رفاعة الطهطاوي، مرورا بمدرسة الشيخ مصطفي عبد الرازق، ووصولا إلي جيل المعاصرين الذي حمل مشعل التنوير الفلسفي من أمثال مراد وهبة ونازلي إسماعيل وأحمد محمود صبحي وعبد الغفار مكاوي وحبيب الشاروني وغيرهم، علاوة علي الدور المؤثر والخطير والمؤثر في مسيرة الفلسفة المصرية المعاصرة كسلامة موسي وإسماعيل مظهر ومنصور فهمي وأمين الخولي ومحمد يوسف موسي ومحمود الخضيري ومحمد عثمان نجاتي ومحمد عبد الهادي أبو ريده ونجيب بلدي ومحمود قاسم ومحمد ثابت الفندي ومحمود فهمي زيدان ومحمد فتحي الشنطي وعزمي إسلام .. وحول سؤالكم الكريم: هل لا يزال حضور للفلسفة المصرية القديمة في الدرس والتأليف الفلسفيين أم أن الفلسفة الإسلامية الأكثر حضورا في الفكر الفلسفي المصري المعاصر؟..

 نعم هناك حضور للفلسفة المصرية القديمة في الدرس والتأليف الفلسفي،وقد حمله كل من الدكتور سليم حسن وثروت عكاشة ومصطفي النشار، حيث تمكنوا من أن يؤرخوا للفكر المصري بكل عصوره وأعلامه وأن يكتبوا عن الفلسفة المصرية القديمة وعن دور بتاح حوتب- رائد التفكير الأخلاقي، وأن يكتبوا أيضا عن دور أخناتون الملك الفيلسوف، وأن يكتبوا أيضا عن فلسفة الطبيعة وتفسير نشأة الوجود في مصر القديمة، كما كتبوا عن الفكر السياسي والاجتماعي في مصر القديمة .. الخ .. كما لا ننسي دور الفلسفة الإسلامية القديمة وحضورها لدي جمهرة المصريين المعاصرين من أمثال الشيخ مصطفي عبد الرازق الذي رد علي كل المستشرقين الذي تنكروا للفلسفة الإسلامية فقال لهم لا تنسوا أن لدينا فلسفة إسلامية متجسدة في علم أصول الفقه، كما النزعة السلفية الإسلامية التي حملها محمد البهي في كتابه " الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" .. كما لا ننسى فكرة الروحية الجديدة التي جسدها عصمت نصار .. والحديث يطول ويطول ويكفينا تجديد علم الكلام عند حسن حنفي من خلال رائعته " من العقيدة إلى الثورة".

س14: ا. مراد غريبي: يجد المتتبع للتحولات التي عرفها الإنتاج الفلسفي في مصر المعاصرة أن هناك تباينا في الاتجاهات التي اختار رواد الفكر الفلسفي المعاصرون التركيز عليها فيطرح الإشكالات وفتح مناقشات جديدة، لكنها لا تكاد تخرج عن مسارات الفكر الديني والعلمانية والتصوف وفي الأغلب ترجمات مهمة مثل ما تركه د.إمام عبد الفتاح إمام للفكر الفلسفي العربي، ماذا عن العقل والعلوم والمناهج والتاريخ والقيم بطبع عدا الدكتور عصمت نصار والدكتور نصار عبد الله الذين كانت لهم إسهامات في عدة أنساق فلسفية وإحياء الرشدية عند د. وهبة؟

ج14: د. محمود محمد علي: توجد عدة إتجاهات وتيارات في دراسة الفلسفة في الجامعات المصرية، ومن أهمها الاتجاه الخاص بالفلسفة الإسلامية بفروعها الكثيرة من علم الكلام وبحث قضايا التراث قس ضوء قضايا ومتجددات العصر الحديث والجمع بين الأصالة والتجديد، كذلك ما يتعلق بالفقه والقياس الأصولي وحل المشكلات الدينية والشرعية وما يتجدد من حوادث ومعطيات حديثة بالقياس لحلول ومطيات السابقين وما ورد فيه الكتاب والسنة المطهرة . ومن مناهج الفلسفة والدراسات الفلسفية أيضا ما يتعلق بالتفكير الفلسفي المشائي وأثره لدي فلاسفة الإسلام العقليين كالكندي والفارابي وابن رشد وابن خلدون وما يتعلق من نظريات فلسفية وعلمية ومحاولة ايجاد أصالة فكرية لدي المفكرين العرب والمسلمين في ضوء دراساتنا لمعطيات المفكرين المحدثين علماء وفلاسفة وما يواكب ذلك من تيارات فلسفية وروحانية في مجال التصوف الإسلامي وإصلاح الأخلاق وتقويم النفس وتحليل آثارها ... ومن اهم المناهج والتيارات الفلسفية تيارات التفكير الفلسفي العقلاني التي ظهرت عند نخبة من كبار مفكرينا المصريين المعاصرين أمثال زكي نجيب محمود وحسن حنفي وعلي سامي النشار ومصطفي عبد الرازق وأبو الوفا التفتازاني وعاطف العراقي وإبراهيم مدكور وتوفيق الطويل وغيرهم .. ولعل أهم ما تركه هؤلاء في مجال الفلسفة الحديث هو محاولة التواصل الفكرى والحضارى بين المتقدمين والمحدثين ومحاولة فتح أفاق جديدة من خلال الانفتاح علي أصول الحضارات والثقافات العربية الحديثة وهذا بلا شك عامل حاسم من عوامل التنوير وقد نملي هذا كله في مناهج المكفرين المصريين في كيفية دراسة أفكار ومناهج المكفرين والفلاسفة العقلانيين والحدسيين الغربيين وقد ظهرت على أثر ذلك مناهج حديثة في دراسة العلوم الحديثة كالمنهج التجريبي والتاريخى والنقدى والحدسى، وظهرت تيارات جديدة مثل تيارات الفلسفة الحديثة والمعاصرة وفلسفة العلوم ومناهج البحث والمنطق الرمزي (من أمثال ماهر عبد القادر ومحمد السيد) والتنبه إلى ضرورة المزج بين العلوم النظرية والعلوم العملية وإدخال مناهج الرياضيات في مناهج العلوم الحديثة (من أمثال محمد ثابت الفندي ومحمد السرياقوصي).

وهناك اتجاه من المفكرين المعاصرين الذين غردوا خارج السرب من أمثال مراد وهبة وعصمت نصار ونصار عبد الله ؛ فأما مراد وهبه فيعرف عنه دعوته لضرورة إحياء فلسفة ابن رشد بوصفها "..أداة لجسر الهوة بين الغرب والمجتمع الإسلامي ونجاح ابن رشد في البيئة الأوروبية من خلال فلسفة الرشدية اللاتينية التي أسهمت كثيراً في تأسيس العقلانية الأوروبية، وما تولد عنها من إصلاح ديني في القرن الـ16، وتنوير في القرن الـ18، حيث وظفت بشكل واسع آراء ابن رشد الداعية إلى إعمال العقل في فهم النص وفي الحوار الإيجابي بين الناس، وأن هذه الروح هي ما يجب أن يسود حوار الغرب والشرق لأنها أساس السلام في أي منطقة من مناطق الأرض...".و أما عصمت نصار والذي أكد أن الفلسفة هى طوق النجاة بكل ما نحن فيه من تردٍّ وانحطاط، وسبيلنا الأقوم للنهوض والرقي، ونعني بالفلسفة (المنهج). فالمنهج هو الآلية التي تمكننا من إحياء التراث ونقد الوافد والفصل بين ثوابت الهوية والمتغيرات الحضارية في التجديد، وهى التي تقوم بتوعية الرأي العام القائد وترشده إلى ما يجب الأخذ به وما ينبغي العزوف عنه وتؤهل الرأي العام التابع بقبول التحديث والمبادئ العلمية وأصول المدنية، وهى أيضاً التي تنقذ المجتمعات من الأوهام الأربعة (خرافات الموروث، والمعتقدات الزائفة، ولجاجة العوام والسفسطة، وأكاذيب أصحاب السلطة والمشاهير ومزيفي الوعي) وهي كذلك التي تستطيع التمييز بين الأفكار الزائفة والحقيقة والخيال والواقع، وتمكن الأنا من الحوار الهادئ مع الآخر لذلك كله أرى ضرورة إعادة بناء كل برامجنا التعليمية والثقافية على أسس فلسفية... وأخير نصار عبد الله الذي سخر موهبته الشعرية لبناء فلسفة أخلاقية شعارها النسبوية والتي تعني أنَّ جميع الأحكام الأخلاقيّة ومبرراتها ليست مطلقة أو موضوعية أو عالميّة. بل هي نسبية وتتعلق بتقاليد ومعتقدات وممارسات وتاريخ مجموعة من الأشخاص. أيّ أنّ المجتمعات المختلفة والأفراد لديهم معايير مختلفة عن الحق والباطل. وتتغير هذه المعايير الأخلاقيّة من وقت لآخر في نفس الثقافة..3030 مراد ومحمود

س15-أ، مراد غريبي: قبل ختم هذه الحلقة، ماهي قراءة الفكر الفلسفي المصري للإنتاج التراثي الفلسفي والمنطقي والكلامي والديني: الغربي والعربي الإسلامي؟وماهي أهم الاستشكالات والنقاشات النقدية المثارة في المشهد الفلسفي الراهن... نرجو أن تسوق لنا بعض النماذج الفلسفية المصرية المعاصرةورؤاه التجديدية؟

ج15: د. محمود محمد علي: ليس الشعب المصري – بمخزونه الحضاري الكبير، وتاريخه الفكري والأخلاقي – بأقل من اي شعب آخر له فلسفته الخاصة به، بنظريتها وأعلامها، ومشكلاتها وحلولها، ومناهجها وتوجهاتها، وقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة في تلمس الفكر الفلسفي عند شعب من الشعوب أو حضارة من الحضارات أن يبحثوا عن الأسئلة الوجودية الثلاثة، التي يطرحها الإنسان علي نفسه بعد أن يستكمل مقومات حياته الضرورية، وهي: من أين أتيت ؟.. ولماذا أنا موجود ؟... وأين المصير؟.. وهي الأسئلة التي طرحت علي العقل الإنساني، وما زالت تطرح حتي اليوم، كما أنها الأسئلة التي تعددت وتنوعت الإجابات المقدمة عنها بحسب عقلية كل فيلسوف، واتجاهه، والمذهب الذي توصل إليه ..

وإذا استعرضنا نماذج من أساتذتنا المصريين المعاصرين في هذا الأمر، فيمكننا أن أقدم لأستاذنا الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، حيث يعد كتاب الدكتور إبراهيم مدكور (في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه) الصادر سنة 1947م، بشهادة الدكتور زكي الميلاد في قراءته لكتاب الدكتور مدكور بأنه يمثل أحد أهم المؤلفات الرائدة خلال النصف الأول من القرن العشرين في حقل الفلسفة الإسلامية وتاريخها، الحقل الذي تأخَّر الاهتمام به في المجال العربي الحديث، وقلَّ فيه الابتكار والإبداع، ولم يشهد فيما بعد تراكماً متصلاً يتسم بالتطور والتجدد. ..كتاب الدكتور إبراهيم مدكور (في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه) الصادر سنة 1947م، أحد أهم المؤلفات الرائدة خلال النصف الأول من القرن العشرين في حقل الفلسفة الإسلامية وتاريخها، الحقل الذي تأخَّر الاهتمام به في المجال العربي الحديث، وقلَّ فيه الابتكار والإبداع، ولم يشهد فيما بعد تراكماً متصلاً يتسم بالتطور والتجدد... ويُذكر لهذا الكتاب ويُسجل له أنه جاء بعد ثلاث سنوات على صدور كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) الصادر سنة 1944م، هذه الفترة الزمنية المتقاربة جعلت كل كتاب يُذكِّر بالكتاب الآخر، وهذا ما استفاد منه كتاب الدكتور مدكور، وذلك للشهرة الواسعة التي حظي بها كتاب الشيخ عبد الرازق لكونه من أسبق المؤلفات العربية في بابه.... من أكثر ما تميز وتفوق به كتاب الدكتور مدكور على الكتابات الفلسفية الأخرى، هو ذلك الجانب الذي يتصل بالمنهج التطبيقي، فهو من أكثر المؤلفات وضوحاً في المنهج من الناحيتين النظرية والتطبيقية، واتسم بالتجديد والابتكار من هذه الناحية، وكانت هذه من أعظم نجاحاته، بحيث يمكن القول مع الدكتور زكي الميلاد: إنه كتاب في الفلسفة من جهة، وكتاب في المنهج من جهة أخرى، وما زال إلى اليوم يحتفظ بهذه السمة المتفوقة... وجرت هذه التطبيقات كما يقول الدكتور زكي الميلاد على خمس نظريات تنتمي إلى الفلسفة الإسلامية، ثلاث منها جرت التطبيقات عليها في الجزء الأول، وهي نظريات السعادة والنبوة وخلود النفس، واثنتان جرت التطبيقات عليها في الجزء الثاني، وهما نظريتا الألوهية وحرية الإرادة.... ويرى الدكتور مدكور أن هذه النظريات ما هي إلَّا نماذج لدراسات ينبغي محاكاتها، وجزء من سلسلة يجب استكمال حلقاتها، وهناك نظريات أخرى بحاجة لأن تدخل في نسق هذه التطبيقات، منها نظرية واجب الوجود، والعلم الإلهي، والخلق والإبداع، والسببية والغائية، ومذهب التفاؤل، وغيرها من نظريات أخرى ميتافيزيقية وطبيعية وسيكولوجية وأخلاقية... وطريقة مدكور في تطبيقات المنهج على هذه النظريات الخمس، تبدأ بتوضيح النظرية وإعطاء فكرة كاملة عنها، وشرحها بلغة أصحابها وواضيعها، وبحسب الصورة التي ظهرت عليه في المجال الإسلامي، ومحاولة تلمس أصولها، والبحث عن مصادرها فيما نقل إلى العربية من أفكار أجنبية، أو فيما جاء به الدين من تعاليم.

س16-أ، مراد غريبي: ماذا حققت دراسات الفلسفة الإسلامية في العالم العربي بعد القامتين الدكتور مصطفي عبد الرازق والدكتور إبراهيم مدكور تأريخا وتفكيرا ونقدا؟

ج16: د. محمود محمد علي: هناك محاولات بذلت من قبل كثير من المفكرين المصريين شهدتها الفلسفة الإسلامية بعد القامتين الدكتورمصطفي عبد الرازق والدكتورإبراهيم مدكور تأريخاو تفكيرا ونقدا؛ ونذكر منها علي سبيل المثال محاولة أستاذنا الدكتور علي سامي النشار، حيث أشار النشار إلى موقفه النقدي هذا في هامش الجزء الأول من كتابه (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)، عند حديثه في نهاية الكتاب عن الكتب المنهجية في المصادر العربية التي تحدَّثت عن المنهج في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، فأشار كما يقول الدكتور زكي الميلاد إلى أربعة منها، أحدها كتاب الدكتور مدكور. وفي نظر الدكتور النشار أن كتاب (في الفلسفة الإسلامية)، يُمثِّل محاولة الدكتور مدكور الأخيرة في بيان حقيقة آرائه التي سبق وأن عبَّر عن كثير منها في مطلع شبابه، وكانت تتمحور حول إثبات أصالة المدرسة المشائية الإسلامية، وأنها لون جديد من ألوان الفلسفة، وتتميز بجدة وأفكار لا نجدها لدى فلاسفة اليونان. وفي هذا النطاق حسب رأي الدكتور النشار، جاء كتابي الدكتور مدكور الصادرين من قبلُ باللغة الفرنسية، وهما كتاب (منطق أرسطو في العالم العربي)، وكتاب (الفارابي ومنزلته في المدرسة الفلسفية الإسلامية). الكتاب الأول يرى فيه الدكتور النشار أنه يحتوي على عرض رائع لمنطق أرسطو في العالم العربي، وأثره في مختلف المدارس الكلامية والفقهية والعلمية والفلسفية، ومعتبراً أن كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) جاء مناقشة نقدية لهذه الفكرة... الكتاب الأول يرى فيه الدكتور النشار أنه يحتوي على عرض رائع لمنطق أرسطو في العالم العربي، وأثره في مختلف المدارس الكلامية والفقهية والعلمية والفلسفية، ومعتبراً أن كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) جاء مناقشة نقدية لهذه الفكرة... وهنا يصل الدكتور النشار إلى موقفه النقدي، حيث يرى أن هذه المحاولة التي تمزج بين المشائية والإسلام هي محاولة غريبة عن روح الإسلام، وعن تفكيره ومنهجه العام، لأن الفلسفة في نظره إنما تنبثق من الإسلام نفسه، عن القرآن والسنة، لا عن محاولة التوفيق والتنسيق والتلفيق، وفي تقديره أن فلاسفة الإسلام المشائين قد ابتعدوا عن الإسلام روحاً ونصًّا، وعن المجتمع الإسلامي فكراً وعقيدةً وحياةً، وأن الفلسفة المشائية قد ماتت في العالم الإسلامي منذ عهد بعيد، وبقيت العقائد الكلامية ولم تمت حتى عهدنا هذا... ويضيف الدكتور النشار كما يقول الدكتور زكي الميلاد أن الدكتور مدكور كان يبحث في الفلسفة بحث العالم المؤرخ، فراعته فلسفة الفلاسفة المشائين عند اليونان وعند المسلمين، فحاول في كتبه، وفي تحقيق علمي، أن يجعلها مُعبِّرة عن أصالة إسلامية، وهذا ما أنكره تمام الإنكار، إنها فلسفة بلا شك، ولكنها ليست تعبيراً عن فكر إسلامي وحضارة إسلامية... مع ذلك فإن الدكتور النشار لا يريد تخطئة الدكتور مدكور أكثر من هذا الحد، فقد استدرك على موقفه النقدي ليذكر أن مدكور «لم يكن على الإطلاق من مدرسة الفلسفة اليونانية التي رأت في فلسفة اليونان غاية الغايات، وأن إليها يعود كل فكر، ولم يرَ الدكتور إبراهيم مدكور على الإطلاق أن فكرنا المعاصر ينبغي أن يرتبط بفلسفة أوروبا وحضارتها، تحت تأثير الدعوة الخاطئة التي قدَّمتها مدرسة طه حسين على مسرح تفكيرنا»... وهذا الموقف النقدي للدكتور النشار قد يصدق على الجزء الأول من كتاب الدكتور مدكور، ولا يصدق بتمامه على الجزء الثاني.

 

حاوره: ا. مراد غريبي

5 – 12 – 2021م

..................

(1) تم الاقتباس في الإجابات الأسئلة 15و 16 من قراءة الدكتور زكي الميلاد لكتاب الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق، مجلة الكلمة، العدد (71) السنة الثامنة عشر، ربيع 2011م 1432 هـ

 

في المثقف اليوم