مرايا فكرية

مراد غريبي يحاور الباحث الأكاديمي النهضوي د. عدنان عويّد

3175 عدنان عويد ومراد غريبيخاص: المثقف: تستضيف المثقف الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور عدنان عويّد، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا الفكر والهوية واللغة والنهضة في العالم العربي، فأهلا وسهلا بهما:


 المحور الأول: قضايا الفكر والهوية والتراث

س1: ا. مراد غريبي: بادئ ذي بدء، ماذا عن سيرتكم الذاتيّة ومنجزاتكم العلميّة والفكريّة والنقديّة التجديديّة؟

ج1: د. عدنان عويد: باحث وكاتب عربي سوري، يكتب في قضايا النهضة والتنوير.

ولد في دير الزور عام 1950.

دكتوره بالعلوم السياسيّة

أستاذ محاضر في جامعة الفرات – كليّة الآداب - قسم علم الاجتماع

إصداراته:

1- الديمقراطيّة بين الفكر والممارسة. إصدار دار العلم، ودار والتكوين. دمشق. 1994-2006

2- إشكاليّة النهضة في الوطن العربي من التوابل إلى النفط. إصدار دار المدى – ودار التكوين. دمشق. 1997- 2006

3- التبشير بين الأصوليّة المسيحيّة وسلطة التغريب. إصدار دار المدى – ودار التكوين. دمشق. 2000- و2007

4- معوقات حركة التحرر العربيّة في القرن العشرين. إصدار دار المدى. دمشق. 2002

5- الأيديولوجيا والوعي المطابق. إصدار دار التكوين. دمشق. 2006

6- رأسماليّة الدولة الاحتكاريّة. إصدار دار التكوين. دمشق. 2008

7- قضايا التنوير. (ترجمة عن اللغة الانكليزية). إصدار دار التكوين. دمشق. 2011

ينشر في العديد من المجلات والجرائد والمواقع الالكترونية في الوطن العربي.

س2: ا. مراد غريبي: نستهل بحسب مناهج البحوث الأكاديميّة، قراءة في مفاهيم هذا المحور الأساسيّة: العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، العلمانيّة، التثاقف، الحداثة، الايديولوجيا، الدين..؟؟

ج2: د. عدنان عويد: لا شك أن هذه المفاهيم المطروحة هنا... العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، العلمانيّة، التثاقف، الحداثة، الايديولوجيا، الدين. تشكل في وضعنا الثقافيّ العربيّ الحديث والمعاصر، إشكاليّة قائمة بذاتها، لاعتبارات عديدة يمكننا الاشارة إلى أهمها:

1- أن معظم هذه المفاهيم في صيغها المتعارف عليها اليوم، قد طُرحت في الغرب مع بداية عصر النهضة الأوربيّة، مروراً بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وفلاسفة قرنيّ التاسع عشر والعشرين. وإن هذه المفاهيم راحت تتسرب إلى خطابنا الثقافيّ مع بداية القرن التاسع عشر، بفعل عوامل كثيرة منها:

1- تَأَثُر الطلاب العرب الذين ارسلوا إلى أوربا للدراسة هناك، وخاصة البعثات التعليميّة التي اشتغل عليها "محمد علي باشا" في مصر "وخير الدين التونسي" في تونس، أو بفعل حملات التبشير الأوربيّة في المشرق العربيّ التي فتحت المدارس الخاصة بها في هذه المنطقة، إضافة لما حققته البعثات أو المنح الدراسيّة إلى اوربا، التي خصصتها الإرساليات التبشيريّة للطلبة المتفوقين من خريجيّ هذه المدارس. الأمر الذي أوجد العديد من المثقفين والمفكرين ممن تأثر بالفكر الغربيّ ومناهجه كأديب اسحق، وشبلي شميل، وفرح انطون، والبستاني، واليازجي وغيرهم الكثير.

2- بفعل الطلبة العرب الذين درسوا في أوربا منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم، وهم كثر في الحقيقة، حيث تأثر الكثير منهم بالفكر الغربيّ ومناهجه، وراح العديد منهم يشتغل بعد إنهاء دراساته في الغرب على مشاريع فكريّة تأثرت كثيرا بالمناهج الغربيّة، كالعروي الذي تاثر بالمنهج التاريخانيّ، وحسن حنفي بالمنهج الظاهري، والتيزيني بالمنهج الماديّ التاريخيّ، والجابري بالمنهج الابستمولوجي (المعرفي)... الخ.

بيد أن التاريخ العربيّ في العصر الوسيط لم يعدم المفكرين والفلاسفة الذين اشتغلوا على العقل بشكل خاص، كابن رشد والفارابي والكندي وغيرهم، بالرغم من أن مفهوم العقل ظل عند الكثير من الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين ينوس بين الدماغ والقلب، وقليلون هم الذين عرفوا العقل بالمخزون الثقافيّ الذي تكون أثناء إنتاج الإنسان لخيراته الماديّة والروحيّة تاريخيّاً، كابن رشد وابن خلدون والكندي، وبالتالي فصلوه عن الدماغ ككتلة عضويّة في الجسد البشري لها دورها الوظيفيّ في تخزين المعرفة ومعالجتها وفقاً لما يريد صانع هذه المعرفة وحاملها الاجتماعيّ،. علماً أن الذين قالوا بهذا الرأي عن العقل من فلاسفة العصور الوسطى العرب والمسلمين، تأثروا أيضاً بالفكر الفلسفيّ اليونانيّ بعد أن قاموا بترجمة كتب الفلاسفة الماديين اليونان.

في تاريخنا المعاصر، درس الكثير من الكتاب والمفكرين العرب الفكر الفلسفيّ العقلانيّ في العصور الوسطى، وسلطوا الضوء على الفلسفة الماديّة منها، كحسين مروة في كتابه (النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة) على سبيل المثال لا الحصر.

عموماً نستطيع القول هنا: إن كل تلك المفاهيم الحداثيّة التي جاءت في سؤالكم: العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، العلمانيّة، التثاقف، الحداثة، الايديولوجيا، الدين. يظل العقل النقدي يشكل العمود الفقري لها، إذا لا يمكن لأي مفهوم من هذه المفاهيم أن يحوز على حقيقته أو مصداقيته التي طرح من أجلها إلا من خلال ارتباطه بالعقل. فالديمقراطيّة بدون عقلانيّة تتحول إلى فوضى.. والهويّة بدون عقلانيّة قد تعود لمرجعياتها التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة.. والتراث من غير إدخال العقل فيه وتحليله وإعادة قراءته كتاريخ شعوب تحركه تناقضات وصراعات مصالح الناس، سيظل تاريخ ملوك وأمراء وأيديولوجيا دينيّة، الأمر الذي سيدفعنا إلى التعامل معه بعواطفنا أكثر من عقولنا، وسنتمسك بهذا الماضي كفردوس مفقود بِعُجْرِهِ وَبُجْرِهِ. والعلمانيّة التي يغيب عنها العقل تفقد مصداقيتها وتتحول إلى ترف فكري، بدل أن تمثل في واقع أمرها الدولة المدنيّة.. أو دولة المواطنة والقانون والمؤسسات... الخ ، وكذا حال التثاقف الذي سيتحول عند تبادل المعرفة، إلى مركزيّة أوربيّة أو شرقيّة، وظهور نرجسية الحامل الاجتماعي للثقافة عند تداولها مع المختلف إذا لم يتم تحكيم العقل.. وهذا حال الحداثة التي ستتحول إلى تقليد الضعيف للقوي في حال غياب العقل القادر على تحديد خصوصيّة المجتمعات وما هي حاجاتها الضروريّة من مفاهيم الحداثة، وما هو الصالح منها القادر على تحقيق تنمية الفرد والدولة والمجتمع، وما هو الطالح فيها الذي سيعرقل تقدم المجتمع إذا ما أخذ منها. وهذا الموقف المنهجيّ من العقل، وضرورة التعامل معه ينطبق على الأيديولوجيا الوضعيّة والدينيّة معاً، فكلاهما سيتحولان إلى وعي جموديّ غير قابل للنزول إلى الواقع عند غياب العقل الذي يعمل دائما على ربط الفكر بالواقع.

عند حديثنا هنا عن العقل، أقصد به العقل النقديّ الجدليّ، وليس العقل البذيء القائم على المثاليّة الذاتيّة والحدسيّة أو المثاليّة الموضوعيّة.

س3: ا. مراد غريبي: لننطلق من العقل والعقلانيّة في حوارنا معكم دكتور عدنان، ماذا عن موقع العقل وروح العقلانيّة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؟

ج3: د. عدنان عويد: عند إجابتي على سؤالكم الثاني أشرت إلى دور ومكانة العقل في ضبط المفاهيم التي نتعامل معها بشكل عام، كما بينت الصيغة العقليّة أو العقلانيّة التي علينا التعامل معها منهجياً. وهنا أحب أن أوضح مسألة منهجيّة في هذا السؤال الثاني قبل الاجابة عنه. وهي مسألة التفريق بين العقل والعقلانيّة.

العقل كما أشرت إليه سابقاً، هو مجموعة المعارف والمهارات بما فيها المواقف الداخليّة النشطة من أحاسيس وعواطف وتخيل ومهارات عقليّة، التي اكتسبها الإنسان تاريخيّاً عبر علاقته مع الطبيعة والمجتمع. فالعقل وفق هذا المفهوم هو الثقافة المكتسبة في أعلى تجلياتها.

أما العقلانيّة: فهي منهج في التفكير، أو موقف عقليّ جدليّ نقديّ، يمارسه العقل عند توظيف معارفه في نشاط الإنسان الماديّ والروحيّ، فهناك فرق كبير عند توظيف العقل كوسيلة أداتيّه (العقل الأداتيّ) على سبيل المثال، خدمة لمصالح قوى اجتماعيّة محددة لا يهمها الجانب الإنسانيّ الايحابيّ من دور أو أداء العقل، وبالتالي يأتي العقل عند هذه القوى وكأنه أداة عضويّة قادرة لوحدها على إنتاج الأفكار المجردة وتسويقها بعيداً عن الواقع الذي أنتجها، وهو هنا النشاط الإنسانيّ الماديّ والروحيّ في هذا الواقع المعيش. الأمر الذي يكون فيه دور العقل في هذا النشاط، هو تغييب الوظيفة الإنسانيّة المنوطة به كما أشرنا قبل قليل، واقتصار وظيفته على العمل داخل اقتصاد السوق، وتحقيق الربح للحامل الاجتماعيّ له.

أمام هذا الموقف المنهجيّ والمعرفيّ للعقل، نعود لنجيب على السؤال المطروح هنا وهو: ماذا عن موقع العقل وروح العقلانيّة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؟.

نستطيع القول: بأننا أمام غياب أو عدم حضور الفكر العقلانيّ الذي أنتجه فلاسفة العصور الوسطى في تاريخنا العربيّ الإسلاميّ منذ أن أصدر الخليفة المتوكل أمره أو مرسومه القاضي بمحاربة العقل والعودة إلى النقل عام (232) للهجرة، بعد أن فسح الخليفة المأمون المجال للفكر المعتزليّ أن يأخذ دوره ومكانته في الحياة الفكريّة والفقهيّة بعد إصداره مرسومه الذي يدعو فيه إلى محاربة النقل واحترام العقل عام (212) للهجرة، فمع مرسوم المتوكل بدأ الفكر السلفيّ الوثوقيّ الاستسلاميّ يأخذ مكانته في الساحة الثقافيّة والفكريّة والفقهيّة عموماً مع ابن حنبل وكل من آمن بفكره منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.

إذن مع هذه الردّة الفكريّة السلفيّة التكفيريّة التي جسدها "المتوكل" وابن حنبل وتياره، انحسر دور العقل والفكر العقلانيّ ليسود منذ ذلك التاريخ حتى اليوم فكر النقل المشبع أكثره بالأسطورة والخرافة والكرامات واللامعقول، واستمرار كل ما اشتغل عليه فقهاء العصور الوسطى من قضايا تهم ذلك العصر، واعتبار كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

نعم.. لم يعد مسموحاً الاشتغال على العقل في التعامل مع الواقع والعمل على النهوض به، إلى أن بدأت عمليّة الانفتاح على الغرب والحضارة الغربيّة بالطرق والوسائل التي أشرنا إليها في موقع سابق، هذا الانفتاح الذي ظل في الحقيقة قائماً أو محصوراً على النخب ولم يتحول حتى اليوم إلى ثقافة شعبيّة.. ومع ذلك لا يمكننا إنكار ما حققته هذه النخب المثقفة والمتعلمة منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى اليوم على كافة مستويات الساحة العربيّة، من خلال ما أوجدته هذه النخب من صحف ومجلات ودور نشر وأحزاب ذات توجهات تقدميّة، أو من خلال وجودها في مواقع عملها الحكوميّ، رغم أن كل ما كانت تمارسه من نشاط تنويريّ كان يحسب عليها، وقد تدفع ثمنه باهضاً من قبل المؤسسات الدينيّة المتحكمة بهذه الدرجة او تلك بناءً على قوة التأثير التي تتمتع به هذه المؤسسات الدينيّة على القرار السياسيّ للكثير من الدول العربيّة، ونحن لن ننسى ما جرى لسلامة موسى، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، وفيما بعد لفرج فوده، وحامد أبو زيد، من قبل المؤسسات الدينيّة، وسكوت السلطات الحاكمة في الكثير من الدول العربيّة عن موقف هذه المؤسسات الدينيّة في محاربة الفكر العقلانيّ وحوامله الاجتماعيّة من النخب المثقفة، وهذا الموقف العدائيّ للفكر العقلانيّ التنويري هو امتداد في الحقيقة للمواقف العدائيّة ذاتها التي اُتُخِذَتْ ضد غيلان الدمشقي، وجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وابن المقفع، والكندي، وابن خلدون، وابن رشد وغيرهم الكثير، الذين كانوا ضحيّة لرجال أو مشايخ الفكر السلفيّ الوثوقيّ الاستسلاميّ القائم على النقل.

نقول: رغم كل الحصار الذي فرض على الكتاب العقلانيين التنويرين العرب في تاريخنا المعاصر، والاتهامات التي وجهت لهم من قبل أعداء التيار العقلانيّ، إن كانت هذه الاتهامات ذات طابع دينيّ تكفيريّ، أو سياسيّ تخوينيّ، أو أخلاقيّ تهتكيّ. إلا أن التيار التنويريّ العقلانيّ مارس تحديه للقوى السلفيّة، وكانت كتابات حامله الاجتماعيّ وكتبهم مليئة في قضايا التنوير والحداثة. لقد اشتغلوا سياسيّاً على المطالبة بضرورة تطبيق الدولة المدنيّة ومفرداتها من ديمقراطيّة وعلمانيّة ودولة القانون والمؤسسات والمواطنة ومحاربة الاستبداد السياسيّ.. كما اشتغلوا على فكرة الحريّة في بعدها الاجتماعيّ والفلسفيّ، فطلبوا بتحرير المرأة واحترام الرأي والرأي الاخر، واشتغلوا على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعيّة ومحاربة الاستغلال، ونشر التعليم ومحو الأميّة، ومحاربة المرجعيات التقليديّة من طائفيّة وعشائريّة ومذهبيّة..

إن هذه القضايا التي اشتغلوا عليها، وجد الكثر من مفردتها عبر القرن العشرين حضوراً في الساحة الثقافيّة والمؤسساتيّة استطاعت أن تؤسس في الحقية لمشروع حداثي، رحنا نلمسه من خلال تعليم المرأة ودخولها مجال العمل. ومن خلال تشكل الأحزاب وتعدد توجهاتها الفكريّة، مثلما وجدناها في الحركات السياسيّة الكثيرة ووصل الأحزاب الديمقراطية الثورية إلى السلطة كالناصريّة والبعثيّة وغيرهما، وما حققته هذه الأحزاب عند وصولها للسلطة من دور في تطوير المجتمع والدولة، مع تأكيدنا بأن الكثير من قادتها حكمتهم فيما بعد شهوة السلطة، الأمر الذي حول دول أحزابهم إلى دول شموليّة مستبدة، جاء حراك الربيع العربي ليبين عوراتهم وفسادهم وابتعادهم عن مصالح الشعب.

س4: ا. مراد غريبي: العقلانيّة في الخطاب العربيّ اتسمت بأنماط فكريّة متعددة توزعت بين التيار الدينيّ التجديديّ والتيار العلمانيّ الحداثيّ، والتساؤل كالآتي: ما راهن الخطاب العقلانيّ العربيّ في ظل تحديات التطرف والتخلف والتفاهة في عمق الساحة الفكريّة العربيّة المعاصرة؟ وهل فعلا العقلانيّة هاجرت من مجالنا العربيّ المعاصر ككل الأدمغة المستنيرة علميّا وثقافيّا؟

ج4: د. عدنان عويد: لنعد إلى موضوع سؤالكم عن: موقع العقل وروح العقلانيّة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؟. لقد قلنا إن الفكر العقلانيّ قد ارتبط منذ بداية طرحه على الساحة الثقافيّة العربيّة الحديثة والمعاصرة، بالنخب المثقفة حتى منتصف القرن العشرين، وخاصة الأوائل منهم الذين حاز معظمهم على شهاداته العليا من جامعات الغرب. وكان لهم الأثر الكبير على طلابهم في الجامعات العربيّة، حيث تخرج من تحت أيديهم مئات آلاف الطلاب والطالبات على كافة المستويات الفكريّة، الفلسفيّة منها والأدبيّة والفنيّة، الذين تأثروا بفكر أساتذتهم العقلانيّ ومناهج بحوثهم. حيث رحنا نجد أفكار الحداثة التي رافقت عصر الثورة الصناعيّة في أوربا تنتشر بين صفوف الطلبة وعشاق المعرفة، إن كان على المستوى الفلسفيّ أو الفني والأدبي. فهذه الأفكار الفلسفيّة أخذت تُدرسها أقاسم الفلسفة وعلم الاجتماع في العديد من جامعات الدول العربيّة، كفكر فرانسيس بيكون، ورينيه، وديكارت، وهوبس، وسبينوزا، ولوك، أو فكر رواد الفلسفة الانكليزيّة، كابريكلي وهيوم، أو فكر الفلاسفة الألمان كاليبنتز وليسنغ، وفيما بعد هيجل وفورباخ وفيورباخ وماركس وانجلز، كما تاثروا كثيراً بأفكار فلاسفة عصر التنوير الفرنسيّ، كفكر مونتسكيو، وكوندياك، وديدرو، وروسو وريكاردو وهلفينيوس وفولتير.. الخ. ومع مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الأولى والثانية، راحت أفكار مدارس ما بعد الحداثة تغزوا الساحة الفكريّة العربيّة أيضاً على كافة مستوياتها الفلسفية والأدبيّة والفنيّة، حيث رحنا نجد من يروج للوجديّة كعبد الرحمن بدوي، وللمدرسة الوضعيّة والوضعيّة الحديثة عند زكي نجيب محمود، وللمنهج الماديّ التاريخيّ عند محمود امين العالم والطيب تيزيني وحسين مروة، وغيرهم الكثير ممن تبنى الماركسية منهجاً، وكذلك وجدنا الفكر الديكارتيّ ومنهجه، عند طه حسين وجلال صادق العظم.. في الوقت الذي رحنا نجد فيه أيضاً الفكر الإسلاميّ التنويريّ يأخذ دوره الواسع في إعادة قراءة النص الدينيّ كما فعل حسن حنفي والسيد القمني وماجد الغرباوي وهادي العلوي والجابري ومحمد عماره وأركون، مثلما وجدنا التيارات الفكريّة السياسيّة بمناهجها الليبراليّة عند العروي وياسين الحافظ والياس مرقص. ولم نعدم الفكر الما بعد حداثويّ عند علي حرب، أما في الأدب فقد كان للفكر الغربيّ ومدارسه الدور الكبير على الأدباء العرب، حيث انتشرت المدارس الأدبيّة كالواقعيّة والواقعيّة الاشتراكيّة والرمزيّة والبنويويّة وغيرها. وكان للشعر بشكل خاص تأثره الكبير بالمدارس الغربيّة، حيث شق السياب ونازك الملائكة وأدونيس وفيما بعد مدرسة الشعر الطريق لهذا التوجه الحداثي. وهذا وجدناه في الفن أيضاً ومدارسه كالمدرسة الرومانسيّة والواقعيّة والرمزيّة والتكعيبيّة والتعبيريّة والسوريالية.. الخ.

ملاك القول: يمكننا التأكيد هنا بأن العقلانيّة لم تهجر الساحة الثقافيةّ العربيّة كليّاً رغم هجرة العديد من حواملها الاجتماعيين إلى أوربا، بسبب السلطات الاستبدايّة في العديد من الأنظمة العربيّة ومؤسساتها الدينيّة الرجعيّة التي حاربت الفكر التنويريّ العقلانيّ، وعملت على تشويه العلمانيّة والديمقراطيّة، عندما حولتهما إلى مفاهيم شكليّة تتاجر بها أمام القوى التنويريّة في الداخل والخارج، بينما كانت تعمل في السر والعلن على نشر الفكر السلفيّ الظلاميّ التكفيريّ القائم على النقل وتسطيح العقل. وقد جاءت ثورات الربيع العربيّ رغم كل فوضويتها وعدم عقلانيتها وانضباطها فكريّاً وسلوكيّاً، لتكشف عورات هذه الأنظمة، وتبين طبيعة الفكر الذي اشتغلت عليه عشرات السنين، وكان وراء ما سمي بالصحوة الإسلاميّة التي اخترق رجالاتها ومريدوها ثورات الربيع العربيّ. هذا ونستطيع القول أيضاً إن الفكر العقلانيّ التويريّ ودعوات العلمانيّة والديمقراطيّة والعقلانيّة النقديّة، لم تغب عن الساحة الثقافيّة والسياسيّة، بفضل وسائل التواصل الاجتماعيّ ومواقع النشر الالكترونيّ الكثيرة التي تعمل خارج سيطرة السلطات الحاكمة المستبدة عدوة العقل والعقلانيّة.

س5: ا. مراد غريبي: العقلانيّة تدفعنا نحو سؤال الحريّة، برأيكم ماهي المعياريّة الناظمة لشروط تشكل العقل العربيّ الحر؟

ج5: د. عدنان عويد: دعنا بداية نعرف الحريّة، فالحريّة في سياقها العام، تعني وعي الضرورة، أو الضرورة الواعية كما يقول " سبينوزا وهيجل وماركس "، أي وعي الإنسان للظروف الماديّة والفكريّة التي تتحكم بحاجاته الأساسيّة، الماديّة منها والمعنويّة (الروحيّة) في نطاق المحيط الذي يعيش وينشط فيه، بغية الحفاظ على وجوده وإشباع حاجاته بكل مستوياتها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. أو بتعبير آخر، إشباع حاجاته الماديّة والمعنويّة بشكل عام، مع حضور شرطيّ المسؤوليّة والوعي اتجاه فهم وممارسة هذه الحريّة.

هذه هي الحريّة في سياقها العام كما أراها. فهي حرية مشخصة وليست مجردة، مثلما هي حرية ينتجها الواقع المعيوش ويحدد صيغها كونها لا تُفرخ مجردة من جهة، وهي ليست صيغة واحدة مطلقة صالحة لكل زمان ومكان من جهة ثانية، إنها حريّة نسبيّة قابلة للتطور والتبدل وفقاً للمرحلة التاريخية المعيوشة، وطبيعة حاملها الاجتماعيّ. فجوهر الحريّة في المرحلة البدائيّة كان يصب في تحرير الإنسان من سيطرة الطبيعة وتحكمها بحياة الإنسان. والحريّة في المرحلة العبوديّة التي كان يباع فيها الإنسان ويشرى في أسواق النخاسة، هي غيرها في النظام الرأسماليّ او الاشتراكيّ أو في دول العالم الثالث المتعدد الأنماط الإنتاجيّة.

من هذا المنطلق المنهجيّ في تعاملنا مع الحريّة يأتي موقفنا منها، فهماً ووظيفة وآليّة عمل.

إن نظرة سريعة للعقل العربيّ السائد اليوم، يفصح لنا عن إشكالات عديدة تتحكم في طبيعته وآليّة عمله والقوى الاجتماعيّة المتحكمة فيه.

إن العقل العربيّ محكوم في وجود اجتماعيّ مفوت حضاريّاً، لم تزل تتحكم به مرجعيات تقليديّة ضيقة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب وعرق. وبالتالي هو لم يحقق حتى اليوم وضوحاً واستقراًراً اقتصاديّاً أو اجتماعيّا أو سياسيّاَ أو ثقافيّا أو طبقياً، وهذا كما قلنا يعتبر إشكالاً كبيراً يقف أمام حريّة الإنسان بشكل عام في هذا الوجود، والمبدع والمثقف فيه بشكل خاص. وبالتالي فالحريّة تظل ملجومة ومحكومة هنا من قبل الدولة التي تريد حريّة على مقاس القوى الحاكمة لها، والمجتمع يريد حريّة توافق طبيعة علاقاته الاجتماعيّة المتخلفة والمحكومة بالغالب بالعرف والعادة والتقليد والوعي الدينيّ المؤسطر القائم على الثقافة الشفويّة المشبعة بالنقل على حساب العقل، والمدعومة أساساً من قبل الدولة ومؤسساتها الدينيّة، التي وظفت جوامعها لنشر ثقافة الخرافة والأسطورة وقصص الأولين، المرتكزة على الفضيلة المجردة، والتي تهدف إلى التركز على ثقافة كسب الجنة وحور العين وسواقي الخمر والعسل واللبن، وليس ثقافة حب الوطن وتكريس المواطنة. أما على المستوى الثقافيّ، فقد بينا المعاناة الكبيرة التي يعانيها المثقف النخبويّ الذي ظل عقله محكوما بمحيطه السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ، فكم من مثقف تراجع عن آرائه التقدميّة العقلانيّة التنويريّة بسبب الضغوطات التي تعرض ويتعرض لها دائما من قبل المحيط الذي ينشط فيه، كما جرى لعلي عبد الرازق وطه حسين وجلال صادق العظم وغيره الذين تعرضوا للمحاكمات أو السجن أو النفي بسبب أفكارهم العقلانيّ التنويريّة.

هذه هي الأجواء الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة التي يعيش فيها الكاتب والمفكر والفيلسوف والأديب والفنان. وبالتالي لتحرير عقول كل هؤلاء والفسح في المجال لأفكارهم العقلانية أن تنتشر وتتجذر، يتطلب منا الأمر صراعاً تاريخيّاً مريراً مع من يَحُولُ دون نشر ثقافة العقل والتنوير في عالمنا العربيّ بغية تحقيق تلك التحولات العميقة في واقعنا المعيوش. وهذا برأي لن يأتي بالنوايا الحسنة، ولا بالمواقف الإرادويّة أو الذاتيّة التأمليّة.. إن التحولات التاريخيّة العميقة، تتطلب ثورة حقيقيّة تطال الوجودين الماديّ والفكريّ معا في وطننا العربيّ المتخلف، ولكن المحزن أن هذه الثورة التقافيّة التي عولنا عليها الكثير مع ما سمي بثورات الربيع العربيّ، خذلتنا عندما وجدنا أن الكثير من توجهات حواملها الاجتماعيين كانت أصوليّة سلفيّة تكفيريّة، أرجعت بعض دولنا قرنين من الزمان إلى الوراء، بعد أن دمرت معظم ما تحقق من إنجازات على مستوى التحديث بكل أشكاله ومستوياته خلال قرن ونيف من الزمان.

س6: ا. مراد غريبي: هل هناك تفكير عربيّ جاد واشتغال فلسفيّ عميق حول سؤال الحريّة وجدلياتها مع الهويّة والعدالة والأيديولوجيا والتدين في أروقة الفكر العربيّ المعاصر كما عرفناه خلال القرن العشرين؟

ج6: د. عدنان عويد: أعتقد أننا قد تناولنا موضوع الحريّة في إجابتنا عن السؤال السابق. أما سؤالك عن الاشتغال على الهويّة والعدالة والأيديولوجيا والتدين، في أروقة الفكر العربيّ المعاصر كما عرفناه خلال القرن العشرين. فيمكنا الاجابة عن ذلك بقولنا:

لا شك أن هناك من اشتغل على الأيديولوجيا أو السرديات الكبرى في عالمنا العربيّ المعاصر منذ بداية الربع الأول للقرن العشرين حتى منتصف القرن ذاته، وخاصة عند القوى اليساريّة والدينيّة والقوميّة ممثلة بالأحزاب الأمميّة، كالأحزاب (الشيوعيّة)، وحزب (الاخوان المسلمون). ثم تلتها في الربع الثاني أحزاب أخرى ذات طابع قوميّ، توزعت بين أحزاب تدعوا إلى الوحدة العربيّة الشاملة كحزب (البعث العربيّ الاشتراكيّ)، وأخرى ذات طابع إقليميّ كالحزب (القوميّ السوريّ الاجتماعيّ). وغيرها.

إن هذه الأحزاب اشتغلت في الحقيقة على تكريس أيديولوجات خاصة بها، رسمت من خلالها الأهداف الاستراتيجيّة والتكتيكيّة لعملها داخل الساحة السياسيّة العربيّة، فهذه الأحزاب الشيوعيّة مثلاً قد تبنت في تنظيماتها الأيديولوجيا الشيوعيّة طريقاً لتحقيق العدالة والتنميّة، وخاصة بصيغتها الماركسيّة اللينينيّة، كما تبنى الإخوان الأيديولوجيا الدينيّة (الحاكميّة) التي نظر لها في صيغتها السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة ابو الأعلى المودودي، وتبناها مفكر الإخوان "سيد قطب" وخاصة في كتابه (معالم في الطريق). أما الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة كحزب البعث والاتحاد الاشتراكيّ، فقد تبنت الأيديولوجيا القوميّة التي ارتبطت مع الاشتراكيّة العلميّة، تحت مسميات جديدة نظروا لها فكريّاً تحت اسم (الطريق العربيّ إلى الاشتراكيّة)، وطبقيّاً تحت اسم (تحالف قوى الشعب العاملة). يبقى لدينا الأحزاب القوميّة الاقليميّة، مثل الحزب السوريّ القومي الاجتماعيّ، أو النزعات الاقليميّة كالفينيقيّة والفرعونيّة والبربريّة والأمازيغيّة وغيرها، وهذه أحزب حملت أيضاً بعداً قوميّاً اجتماعيّاً لم تزل قائمة حتى اليوم.

إن مشكلة هذا الأيديولوجيات أنها أغرقت بالشعاريّة على حساب الواقع أو الممارسة. وهذا ما أوقعها في مطبات كثيرة أثناء استلام بعضها السلطة. فظروف الواقع العربيّ المتخلف أثر تأثيراً كبيراً على سياساتها الداخليّة والخارجيّة. فالأحزاب الشيوعيّة ارتبطت من جهة بالسياسة الأمميّة على حساب السياسة الوطنيّة والقوميّة، مع غياب واضح للحامل الاجتماعيّ المؤهل لقيادة هذه الأحزاب، الأمر الذي أوقها في فخ المرجعيات التقليديّة من جهة ثانية، كما جرى للحزب الشيوعيّ اليمنيّ الذي وقع في فخ القبليّة، والحزب الشيوعيّ السوريّ في فخ العرقيّة، الأمر الذي أدى إلى تفتيت تنظيمّه إلى تنظيمات عدّة. أما الإخوان فقد اشتغلوا في سياساتهم على البعد الأممي وتجاهلوا خصوصيات الدول التي انوجدوا فيها، مثلما اغرقتهم أيديولوجيا الحاكميّة وعدالتها في عالم القيم والمثل على حساب الواقع، فاصدموا بالواقع عند وصولهم إلى السلطة، فكان فشل التجربة في مصر وتونس. اما الأحزاب القوميّة فقد عاشت في عالم الشعارات القوميّة والعدالة الاجتماعيّة.. فلا هي استطاعت أن تحقق الوحدة العربيّة، ولا حتى الوحدة الوطنيّة داخل الدول التي سيطرت على الحكم فيها، ولم تستطع أيضاً تحقيق العدالة السياسيّة حيث تحولت إلى دول شموليّة، ولا العدالة الاجتماعيّة بعد أن حولت مشروعها الاقتصاديّ إلى رأسماليّة الدولة، فتشكلت قوى اجتماعيّة جديدة من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة التي سرقت أموال الشعب والوطن. هذا في الوقت الذي غلب على قياداتها شهوة السلطة فراحت تمارس تسويات سياسيّة وثقافيّة كان من أبرز نتائجها المدمرة، أن أحيت المرجعيات التقليديّة واتكأت على القوى الدينيّة السلفيّة لكسب رضا الشعب باسم الدين، فكانت النتيجة تدمير كل ما بنته خلال عقود من الزمن في بنية الدولة من قبل القوى اليمنيّة بكل أشكالها وفي مقدمتها القوى الأصوليّة الدينيّة، كما خسرت قوى اليسار والوسط معا.

إن ما يعيشه عالمنا العربيّ اليوم من فوضى على كافة المستويات تظهر نتائجه واضحة في حالات الجوع والفقر والهجرة التي يعانيها المواطن العربيّ، هذا إضافة إلى ارتماء أكثر هذه الأنظمة في أحضان دول أجنبيّة بهدف حماية الطبقة الحاكمة من شعوبها بسبب ما مارسته من سياسات انانيّة ضيقة تصب في مصلحتها وليس مصلحة شعوبها خلال عشرات السنين.3175 عدنان عويد ومراد غريبي

س7: ا. مراد غريبي: السياق الجدليّ حول الحريّة في الفكر العربيّ لأكثر من خمسة عقود تراوح بين ثنائيات الأنا والآخر، الأصالة والمعاصرة ، التراث والحداثة، كيف يمكن العبور من الجدل إلى التأسيس الثقافيّ لفعل الحريّة؟

ج7: د. عدنان عويد: لقد تكلمنا عن الحريّة وواقعها في الخطاب السياسيّ عند إجاباتنا السابقة، أكثر من تكلمنا عنها في الجانب الفكريّ، وقد كان للقوى الحاكمة الدور الكبير في الحجر على حريّة الفرد والمجتمع، والنيل من الفكر العقلانيّ ومحاسبة حوامله الاجتماعيين من ابن رشد حتى حامد أبي زيد. لذلك دعنا نجيب عن هذا السؤال الذي ركز على الحريّة في الجانب الفكريّ، والتي تجلى الصراع حولها من خلال الصراع بين الأصالة والمعاصرة.. بين التراث والتجديد.. بين العقل والنقل.. وغير ذلك من مفاهيم تدور حول علاقة الفكر المعاصر مع التراث بكل ما يحمله هذا الفكر بشقيه من دلالات.

نقول: مع بدء حركة التحرر العربيّة من الاستعمار الغربيّ في عالمنا العربيّ، بدأت تظهر لنا حركة فكريّة جديدة ذات توجهات يساريّة وليبراليّة في العديد من الأنظمة العربيّة وخاصة في الأنظمة التي انتهجت الخط القوميّ الاشتراكيّ طريقاً لها، أو الأنظمة التي تأثرت بعلمانيّة أتاتورك والفكر الليبراليّ عموماً. ففي هذه المرحلة الممتدة من ستينيات القرن الماضي حتى نهاية العقد التاسع من القرن ذاته، أي حتى قيام الثورة الخمينيّة في ايران وبدء تأثيرها على الساحة الفكريّة العربيّة والإسلاميّة، كان هناك حراك ثقافيّ تنويريّ مشبع بالفكر اليساريّ والليبراليّ، الذي ترك أثره المباشر على فكر حتى المفكرين الإسلاميين الذين راحوا يعيدون قراءة النص التراثيّ قراءة معاصرة تسعى إلى فتح النص الدينّي على العقل، كما عمل حسن حنفي في كتابه التراث والتجديد، وعلي عون قاسم، وحسن صعب في كتابه الإسلام وقضايا العصر وغيرهم من المفكرين الذين وجدوا في انتشار الفكر اليساريّ ومنهجه الماديّ التاريخيّ، تحديّاً حقيقيّاً للخطاب الإسلاميّ في صيغته الوثوقيّة السلفيّة المتمسكة بالنقل والرافضة لاستخدام العقل وفتح النص المقدس على مخزونه الدلاليّ الإنسانيّ.

نعم لقد كان لانتشار المشاريع الفكريّة التي تناولت التراث وضرورة التجديد، كمشروع الطيب تيزيني من التراث إلى الثورة، أو مشروع الجابري في بنية العقل العربيّ، أو مشروع حسين مروة النزعات الماديّة في في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، أو مشروع حسن حنفي التراث والتجديد، ولا حقاً مشروع حامد أبي زيد، وغيرها من مشاريع فكريّة، أو كتب منفردة لكتاب يسارين مثل الكاتب أحمد عباس صالح في كتابه اليمين واليسار في الإسلام، فكل هذه المعطيات الفكريّة اشتغلت على مفهوميّ الأصالة والمعاصرة، ودور القوى الاجتماعيّة في صناعة التاريخ، دون أن نغفل تلك الندوات الفكريّة التي أعدتها مؤسسة دراسات عربيّة، كندوة التراث والتجديد، أو ندوة الكويت المشهورة حول (أزمة الحضارة العربيّة). دون أن ننسى الندوات الكيرة التي قامت أيضاً حول القضايا المعاصرة كالديمقراطيّة والعلمانيّة والفكر القوميّ وربط العروبة بالإسلام، وما قدمته كذلك مجلة الوحدة من محور كثيرة حول قضايا النهضة والتحرر والتنمية. إن كل هذا النشاط الفكريّ في تلك الفترة كان للحريّة دورها فيه، إن كان من حيث رضا الأنظمة الحاكمة في الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة على تناول هذه الدراسات والحوارات من جهة، كما هو الحال في سورية على سبيل المثال لا الحصر كتلك الحوارات التي كانت تدور في ثمانينيات القرن الماضي بعد أحداث الإخوان في سوريّة بين محمد رمضان البوطي والطيب تيزيني على شاشات الإعلام السوري، أو على مدرجات جامعة دمشق، أو إن الحريّة راحت تدخل جوهر عالم المقدس من التراث من جهة ثانيّة، ومحاولة نقده وتبيان ما يخدم واقعنا المعاصر منه، وما يضره وضرورة التخلي عنه، ومع ذلل كانت هناك من قبل ناقدي التراث وجهات نظر عقلانيّة لم ترفض التراث كله، بل دعت غلى استلهام التراث وضرورة توظيف ما هو إيجابي فيه لمصلحة المعاصرة ودعاتها من سياسين ومفكرين يعملون لمصلحة الشعب وقضاياه المصيريّة.

إن كل هذا الحراك الفكريّ العقلانيّ الذي جئنا عليه راحت تخفت أضواءه، في الوقت الذي أخذ فيه الفكر الأصوليّ السلفيّ يتخذ له مواقع قويّة على الساحة الفكريّة العربيّة مع قيام الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة أولا، ثم ابتعاد القوى الحاكمة في الأنظمة القوميّة الاشتراكيّة عن استراتيجياتها الثوريّة التي بشرت بها عند استلامها السلطة، وبدء التزلف للقوى الإصوليّة التي وقفت ضدها قبل قيام هذه الثورة، ثانياً، هذا التزلف الذي كانت له أسبابه الموضوعيّة والذاتية أيضاً وهي:

1- فشل الأنظمة التي ادعت العلمانيّة والتقدم في تحقيق مشاريعها التنويريّة على كافة المستويات، ومنها الاقتصاديّة والسياسيّة، وغُلْبَتْ شهوة السلطة عليها التي حولتها إلى أنظمة شموليّة استبداديّة لم يعد الشعب يثق بها.

2- الثورة الإسلاميّة في ايران وإحياء المشروع الأصوليّ السلفيّ وخاصة الإخوانيّ منه الذي لقى الدعم من قادة الثوة الايرانيّة ذاتها.

3- دور الحركة الوهابيّة والقوى السياسيّة الداعمة لها في السعوديّة بشكل خاص، لنشر الفكر الأصوليّ بصيغته السنيّة لمواجهة مشروع الثورة الإسلاميّة الخمينيّة الشيعيّة، وبالتالي ظهور ما يمكن تسميته بحمى الفكر الأصوليّ بشقيه السني والشيعي على مستوى الساحة العربيّة والإسلاميّة.

4- انتشار الفقر والحرمان والاضطهاد السياسيّ على مستوى الساحة العربيّة، بسبب طبيعة الأنظمة الشموليّة التي فرخت قوى طبقيّة من البرجوازيّة الطفيليّة والبيروقراطيّة التي نهبت ثروات الدولة والمجتمع من جهة، ثم ظهور النظام العالميّ الجديد بصيغته الراسماليّة المتوحشة التي راحت عبر الشركات المتعددة الجنسيات تسيطر على الاقتصاد العالميّ من خلال اتفاقيّة الجات وصندوقيّ النقد الدوليّ والبنك الدوليّ للإعمار والتنمية، أو من خلال دخول الرأسمال الوطنيّ المنهوب في دول العالم الثالث من قبل حكام هذه الدول وفاسديها في عالم الرأسمال الاحتكاريّ والتحالف معه ضد مصالح الشعوب.

5- تراجع الفكر العقلانيّ التنويريّ عن دوره في توعية الشعب العربيّ، وكشف دور ومكانة الفكر الصوليّ السلفيّ، وبدء انتشار هذا الفكر بصيغته الجهاديّة التكفيريّة عبر القاعدة وفصائلها، وهذا ما رحنا نلمس نتائجه مع ثورات الربيع العربيّ الذي أسلم هذه الثورات، وراح يتعامل مع الواقع من منطلق ايديولوجيّ جموديّ يريد للواقع أن يرتقي بحد السيف إلى النص المقدس كما فسروه هم وأولوه، وهنا رحنا نعيش ردّة فكريّة وسلوكيّة معا، اتخذت من القرون الهجريّة الثلاثة الأولى منطلقاً وجوديّاً ومعرفيّاً لها.

س8: ا. مراد غريبي: واقع الهويات في المجال العربيّ يعكس أزمة إشكال تاريخيّ حول الحريّة، هل الخصوصيات الاثنيّة والدينيّة والطائفيّة والثقافيّة أصبحت عبءً على بناء مرجعية ثقافيّة جامعة لوعي الحريّة المشتركة وترجمتها في عقد اجتماعيّ مناسب؟

ج8: د. عدنان عويد: إن من إشكاليات النهضة والتقدم والتنمية، وأخيراً الاستقرار الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ في عالمنا العربيّ هو تعدد مكونات هذه الأمّة الدينيّة والأثنيةّ.

وهذا التعدد الدينيّ والاثنيّ، لعبت فيه عوامل تاريخيّة قديمة أهمها، ما سميّ بالفتوحات الإسلاميّة، التي جمعت تحت مظلة الخلافة شعوباً كثيرة لها ثقافاتها ومكونات وجودها الخاصة بها لم يستطع خلفاء هذه الأمّة وقادتها صهر هذه المكونات في بوتقة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة واحدة، رغم أن الأيدولوجيّة الدينيّة في سياقها الفكريّ العام هي دعوة للتوحد من جهة، ودعوة لنشر العدالة والمحبة والتسامح من جهة ثانية، ولكن شهوة السلطة وتركيز الخلافة تاريخيّا في البيت القريشيّ ساهم في خلق نزعات قبليّة منذ السقيفة، ثم راحت تتوسع هذه النزعات لتتحول إلى صراعات مع وصول الأمويين والعباسيين للسلطة، حيث رحنا نجد تلك المعاملات غير الإنسانيّة تجاه الموالي من الأقليات الدينيّة والعرقيّة، هذه الأقليات التي لم ترض بدورها عن ذلها وإهانتها، وعبرت عن ذلك في ردود أفعال سياسيّة وثقافيّة كثيرة ظهرت بأعلى صورها مع ما سمي بالحركة الشعوبيّة في زمن ضعف الدولة العباسيّة، هذه الحركة التي راحت تنال من العرب ومكانتهم التاريخيّة وثقافتهم، فكان للكتاب والمؤرخين العرب ردود أفعالهم اتجاهها على عدّة مستويات، حيث ظهرت كتب تدافع عن اللغة العربية وأهميتها ودورها كلغة القرآن، كما وجدت كتب تدافع عن العرب ونسبهم وغير ذلك ككتاب تاريخ أنساب الأشراف للبلاذري، والبيان والتبيين للجاحظ. والأصمعيات والمعضلات للضبي، وكتاب المعارف لابن قتيبة، وكان هناك فتوح البلدان، وغير ذلك.

إن هذا التعدد في مكونات هذه الأمّة، ظل قائماً ونشطاً منذ ذلك التاريخ حتى اليوم. وقد لعب المستعمر الأوربيّ في تاريخنا الحديث والمعاصر على وتره من أجل إضعاف هذه الأمّة أكثر مما هي ضعيفة، وبالتالي السيطرة عليها والتحكم بمقدراتها، وقد ساعدها علي ذلك أنظمة سياسيّة متخلفة لم تراع خصوصيات واقعها، فراحت تشتغل بعقليّة العشيرة والقبيلة والطائفة في إدارة أمور بلادها، رغم أن بعض هذه الأنظمة ادعت العلمانيّة والديمقراطيّة والمواطنة ودولة المؤسسات، ولكن كل ما كانت تدعي به، ليس أكثر من شعارات براقة لتلهي به من تحكمهم وتذر الرماد في عيونهم، في الوقت الذي تمارس فيه سراً وعلناً كل ما يساعد على تفتيت اللحمة الوطنيّة وزرع الحقد والكراهية بين مكونات شعوبها.

من هذا المنطلق الذي جئنا عليه، لم تزل النزعة الفرعونيّة قائمة، وكذلك الفينيقيّة والأمازيغيّة والبربريّة والكرديّة والتركمانيّة، يضاف إليها النزعات الدينيّة على مستوى الديانات الكبرى وتفرعاتها الطائفيّة والمذهبيّة، من سنة وشيعة.. فالسنة مثلتها المذاهب الأربعة المعروفة، والشيعة توزعت طوائف ومذاهب وفرق أيضاً، وكل من هذه المذاهب والطوائف يتربص ببعضه ويحاول النيل من فكره الدينيّ ومكانته الاجتماعيّة والسياسيّة،. وهذا الصراع بينها وجدت فيه القوى الاستعماريّة منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم، الأداة الفعالة في تقسيم واضعاف هذه الأمّة. فهذه حملات التبشير كما بينا سابقاً قامت باحتضان هذه الأقليات والعمل على تفتيتها من جهة، بحيث رحنا نجد الطائفة الدينيّة الواحدة تتناهبها الدول الاستعماريّة المسيطرة وتحاول كل دولة ضم قسم منها لصالحها، فطائفة السريان العرب راحوا يتفتتون إلى سريان كاثوليك وسريان بروستانت وسريان لاتين.. الخ.

إن مشكلة الأقليات الدينيّة والعرقيّة في عالمنا العربيّ تحولت اليوم كحصان طروادة بيد الغرب وامريكا والصهيونيّة في عالمنا العربيّ، فكل مكون التجأ لقوى أجنبيّة تحميه وتقدم له الدعم الماليّ والسياسيّ من أجل انفصاله عن جسد الأمة العربيّة، أو من أجل إيجاد خلل في استقرار هذه الدولة أو تلك واستنزاف أموالها في حروب أهليّة لم تعد خافية على أحد.

لاشك أن كل الذي جئنا عليه هنا، ساهم في خلخلة المسألة الثقافيّة أيضا، فبدلاً من استخدام الفكر العقلانيّ التنويريّ من أجل وحدة هذه الأمّة ونهضتها، رحنا نجد توجهات محمومة نحو بلورة لغات تتعلق بهذه الأقليات، وتوجهات فكريّة ذات نزعات عرقيّة أو طائفيّة، كلها تعمل على إضعاف هذه الأمّة وزعزعت استقراها.

س9: ا. مراد غريبي: بين الايديولوجيا والحريّة قصة معقدة، ما هو مفهوم الأيديولوجيا، وما هو الفرق بينها وبين الوعي المطابق، ولماذا عربيّا نتأدلج أكثر مما نتحرر، نتصادم أكثر مما نتحاور، أين نحن من ثقافة الاختلاف الحضاريّة؟

ج9: د. عدنان عويد: عرفنا الحريّة في موقع سابق من إجاباتنا على هذه الأسئلة، وقلنا هي تعني في سياقها العام، وعي الضرورة، أو الضرورة الواعيّة كما يقول " سبينوزا وهيجل وماركس "، أي وعي الإنسان للظروف الماديّة والفكريّة التي تتحكم بحاجاته الأساسيّة، الماديّة منها والمعنويّة (الروحيّة) في نطاق المحيط الذي يعيش وينشط فيه، بغية الحفاظ على وجوده وإشباع حاجاته بكل مستوياتها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. أو بتعبير آخر، إشباع حاجاته الماديّة والمعنويّة بشكل عام، مع حضور شرطيّ المسؤوليّة والوعيّ اتجاه فهم وممارسة هذه الحريّة.

أما تعريفنا للأيديولوجيا: فهي أيضاً في سياقها العام، مجموعة الآراء والأفكار السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تعبر عن واقع أمّة ما أو طبقة ما في مرحلة تاريخيّة محددة. لها حواملها الاجتماعية، وهي لا تفرخ مجردة، أنها تاريخية بامتياز، تصوغها حواملها الاجتماعيّة للتعبير عن مصالحها.

ما أريد التأكيد عليه هنا، هو: إن أيّة نظريّة أو أيديولوجيا عندما تنغلق على نفسها وتتحول إلى مكوّن فكريّ منعزل عن الواقع ومتعالي عليه، وغير قادر على استيعاب حركته وتطوره وتبدله وكل مكوناته الاجتماعيّة، عرقيّة كانت أو ودينيّة بكل مفرداتها المذهبيّة والطائفيّة وآليّة حركتها، سيتحول هذا المكوّن الفكريّ (الأيديولوجيا أو النظريّة)، إلى قوة فكريّة وماديّة سكونيّة، جامدة، فاقدة لحيويتها، وبالتالي ستعرقل عبر ممارستها حركة الواقع بدلاً من تقدمه، وستجعل من حملتها الاجتماعيين مجرد أدوات منغلقة هي أيضاً على نفسها عقليّاً واجتماعيّاً (طبقيّاً) وسياسيّاً، يمارسون عصبويتهم وعنصريتهم وفوقيتهم ونخبويتهم وتمايزهم عن الآخرين من جهة، ثم ليّ عنق الواقع الذي يعشون فيه كي يرتقي دائماً إلى نظريتهم أو أيديولوجيتهم وبالتالي مصالحهم، حتى ولو رجعوا بهذا الواقع مئات السنيين إلى الوراء. وبالتالي فكل من يخالفهم في الرأي هو في المحصلة إما خائناً أو عميلاً ضد الدولة، هذا بالنسبة لأصحاب الأيديولوجيات الوضعيّة عندما يكونون في السلطة أو خارجها، أو مبتدعاً وخارجاً عن أهل الفرقة الناجيّة والجماعة بالنسبة لأصحاب الأيديولوجيات الدينيّة إن كانوا في السلطة أو خارجها أيضاً. وهنا تكمن الخطورة، حيث يبدأ تشكل التطرف من قبل كل حملة هذه الأيديولوجيات المغلقة الوضعيّة منها والدينيّة، وما يرافق هذا التطرف من إرهاب واستخدام لوسائل القمع والمنع في محاربة الآخر واقصائه، حيث تصل درجة المحاربة إلى حد التصفية الجسديّة في أحيان كثيرة. ولكن في المقابل تستطيع هذه الأيديولوجيات الدينيّة أو الوضعيّة أن تتحول إلى قوة ماديّة وفكريّة تعمل على خدمة الإنسان ورقيه ونموه. أي تصبح قادرةً على مراعاة مصالح مجتمعاتها وخصوصيات واقعها المعيش. أو بتعبير آخر، تصبح قادرةً على مراعاة حركة هذا الواقع وتطوره عبر التاريخ، عندما لا تغريها شهوة السلطة وتجعل في أولى اهتماماتها مصالح المجتمع قبل أي شيء آخر. أي تتحول إلى وعي مطابق، له أهدافه التكتيكيّة والاستراتيجيّة معاً.

ملاك القول هنا: إن كل أيديولوجيّة أو نظريّة فكريّة تنغلق على نفسها وتعمل على ليّ عنق الواقع بكل مكوناته كي ينسجم هذا الواقع معها، أي مع مصالح حواملها الاجتماعيين إن كانوا في السلطة أو خارجها، هي أيديولوجيّة وثوقيّة جموديّة سكونيّه تعتمد على مرجعيات عصبويّة اجتماعيّة تقليديّة، طائفيّة كانت أو مذهبيّة أو عرقيّة، أو تعتمد على مرجعيّة نخبويّة تعتبر نفسها وصيّة على الجماهير، وليست هذه الجماهير بنظرها أكثر من رعايا، غير قادرين على قيادة أنفسهم، وبالتالي هي وحدها المسؤولة عن مستقبلهم وحياتهم بِعُجْرِها وبُجْرِها.

أما عندما تتحول هذه الأيديولوجيا أو النظريّة إلى (وعي مطابق).. أي تتحول إلى مجموعة من الرؤى والأفكار التي تجاري الواقع في حركته وتطوره وتبدله، وضبط هذا الواقع وخلق حالات توازن بنيويّ فيه وفقاً لخصوصياته، ومصالح بنيته أو تكويناته الفرديّة والاجتماعيّة.. فهي هنا ستتحول بالضرورة إلى ايديولوجيا منفتحة على الواقع، وخاضعة لظروفه، ومساهمة في تغيير هذه الظروف لمصحة الفرد والمجتمع.

إذاً يظل الواقع، أو ما نسميه بالوجود الاجتماعيّ وما يحمله هذا الوجود من بنى فكريّة عقلانيّة تنويريّة، هو المرجع الأساس لهذه الايديولوجيا في صيغة (الوعي المطابق). ويظل أيضاً المجتمع هو صاحب القرار النهائيّ في تحديد مسيرة حياته في حاضرها ومستقبلها، وذلك عبر ممثليه الحقيقيين الذين يختارهم أبناء المجتمع، وليس من يُفرضون عليه فرضاً باسمه من قبل قوى سياسيّة أو اجتماعيّة من داخل السلطة أو من خارجها.

ختاماً نقول: إن الأيديولوجيا عندما تتحول إلى (الوعي المطابق) تستطيع أن تحقق أولى مهامها، وهي خلق المواطنة والمواطن الذي يؤمن بهذه المواطنة، أي الفرد الذي ينتمي للدولة والمجتمع وليس لعقيدة دينيّة أو مذهبيّة أو عشائريّة أو قبليّة أو حزبيّة وصائيّة.

اما بالنسبة للشق الثاني من سؤالك الكبير وهو: لماذا عربيّا نتأدلج أكثر مما نتحرر، نتصادم أكثر مما نتحاور، أين نحن من ثقافة الاختلاف الحضاريّة؟

إن الأيديولوجيا المغلقة تنمو وتترعرع في المناخ الاجتماعيّ المتخلف، وكلما كان التخلف أكثر عمقاّ في هذا المجتمع أو ذاك، كلما أغرقت الأيديولوجيا في الفاشية في صيغتيها الوضعيّة والغيبية. وهذا هو حال مجتمعاتنا ودولنا المغرقة بالتخلف، رغم ما حصل فيها من تطور على المستوى الماديّ، وخاصة في القاعدة الخدماتيّة والعمران السكنيّ والحكوميّ، أو على مستوى الصناعة من خلال إيجاد صناعات تكميليّة، أو تجميعيّة، أو صناعات اللمسات الأخيرة، ولكنها ظلت متخلفة وبعمق في الجانب الفكريّ. وهذا ما ساهم في وجود الأيديولوجيا الجموديّة الاقصائيّة. فعلى المستوى الوضعيّ وجدنا حضوراً للأيديولوجيا القوميّة والاشتراكيّة، ولكن الأحزاب المتبنية لها حولتها إلى إيديولوجيا مقدسة لا يأتيها الباطل من تحتها أو بين يديها، وكل من يحاول انتقادها من داخل بنيتها التنظيميّة، يعتبر منحرفاً فكريّاً عن الخط الأيديولوجي للحزب ويجب طرده من التنظيم أو تصفيته جسديّا إذا اقتضت الحاجة، وبالتالي كثيراً ما يتم تغيير بعض مفاهيم هذه الأيديولوجيات عن طريق العنف واستخدام القوى العسكريّة لتحقيق هذه المهمة. أما بالنسبة للقوى التي هي من خارج التنظيم، فعندما تقوم بنقد ايديولوجيا الأحزاب الحاكمة، مهما تكون هذه القوى يمينيّة أو يساريّة أو معتدلة ليبراليّة، فهي قوى خائنة ومرتبطة بالخارج تريد النيل من الأحزاب الحاكمة ومهمتها التاريخيّة المنوطة بها، وفي مثل هذه الحالة ستجد أبواب السجون والمعتقلات مفتوحة امامها، وقد تكون النتيجة عقود من السجن أو التصفية الجسديّة للمعترض والمنتقد لهذه الأيديولوجيات، وسجون ومعتقلات الأنظمة الديمقراطيّة الثوريّة وغيرها من الأنظمة العربيّة التي حكمت باسم القوميّة والاشتراكيّة، مثالاً على ذلك.

هذا الموقف العدائيّ والتنكيليّ بالمختلف، نجده عند القوى الأصوليّة السلفيّة الإسلاميّة، التي اتخذت من الدين ايديولوجيا لها، وجعلت من الحاكميّة لله منطلقاً لسياساتها عندما كانت خارج السلطة، أو عندما وصلت إليها في بعض الدول العربيّة بعد حراك ما سمي بثورات الربيع العربيّ.

إن ممارسة العنف من قبل هذه القوى الأصوليّة الجهاديّة فاقت كثيراً شدّة العنف الذي مارسته القوى السياسيّة ذات التوجه الوضعيّ أيديولوجياً، فما جرى ويجري في سورية والعراق وليبيا من ممارسة للعنف اتجاه المختلف يصل إلى درجة التوحش، في أسباب القتل أو أساليبه، وداعش كانت انموذجاً حيّاً على ذلك.

إن قبول الآخر مسألة ترتبط في تطور الوجودين الماديّ والفكريّ للمجتمعات والدول، فالتقدم الماديّ لوحده لا يحقق استقراراً في الدولة والمجتمع، والتقدم الفكريّ لا يمكن أن يتحقق إلا بالتوازي مع التقدم الماديّ، وهذه معادلة أثبت صحتها الواقع الأوربيّ في سياق تطوره. فتطور الثورة الصناعيّة رافقه بالضرورة تطور في الفكر الفلسفيّ والقيميّ والفنيّ والأدبيّ الذي اشتغل على توعية الفرد والمجتمع مئات السنين حتى استطاع تخليصهم من حروبهم الدينّية والعرقيّة تجاه بعضهم. بغض النظر هنا عن ما مارسته الرأسماليّة المتوحشة من قهر لشعوبها وشعوب العالم بعد أن امتلكتها شهوة السلطة وشهوة المال معاً كما نشاهد اليوم في النظام العالميّ الجديد.

نحن في الحقيقة بحاجة لثورتين متوازيتين في خط سيرهما، ثورة ماديّة صناعيّة زراعيّة تنكنولوجيّة، وثورة فكريّة تجسد في عقل الفرد والمجتمع قيم النهضة والتقدم وقبول الرأي والرأي الأخر، أو احترام المختلف والدفاع عن حقه في هذه الحياة.

إن التقدم في سيرورته وصيرورته كعربات القطار تسير كلها معاً في وقت واحد، وتقف كلها معا في وقت واحد.

س 10: ا. مراد غريبي: المرحلة الراهنة للفكر العربيّ تتجه نحو المزيد من التأزم والعنف والتناقض. ولعل مرد ذلك لإشكاليات المناهج والتراث وقضايا المدنيّة والحداثة والتنوير وغيرها كثير مما استهلك ضمن مقتضيات ملء الفراغ، ماهي بنظركم أهم العوامل الذاتيّة والموضوعيّة التي أنتجت مجتمعا عربيّا استهلاكيّا لمعضلات التراث وإخفاقات التاريخ أكثر من وعي معالم التقدم والنهوض؟

ج10: د. عدنان عويد: أعتقد أننا أجبنا عن مضمون أو مضامين هذا السؤال في إجاباتنا السابقة، وقد حددنا العوامل التي ساهمت في إنتاج مجتمعنا الاستهلاكيّ لمعضلات الفكر الوضعيّ بكل تياراته، إضافة للفكر السلفيّ الأصوليّ، وقد حددنا أهم هذه العوامل بالتالي:

1- تخلف البنية الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة للوجود الاجتماعيّ للدول العربيّة منفردة بشكل خاص، ولها مجتمعة بشكل عام.

2- هيمنة التراث بصيغته الوثوقيّة السلفيّة وتحكمه في فكر وسلوك الفرد والمجتمع حتى اليوم، من خلال الاعتماد على النقل بدل العقل، وقياس الشاهد على الغائب.

3- سيادة الأنظمة الشموليّة الاستبداديّة، واتكائها على العشيرة والقبيلة والطائفة والحزب في إدرارة الدولة والمجتمع.

4- غياب البنّية الطبقيّة الواعيّة لذاتها، والقادرة على العمل لمصلحتها ومصلحة شعوبها، أي غياب الوضوح الطبقيّ بسبب تداخله، وسيطرة الكتلة الاجتماعيّة الأكثر تنظيماً عليه هنا ممثلة بالعسكر، على الحياة السياسيّة خدمة للقوى الحاكمة بصيغتها التي جئنا عليها أعلاه.

5- اقتصار الفكر التنويريّ على النخب المثقفة، رغم ما تعانيه هذه النخب من إقصاء من قبل القوى الحاكمة، والمؤسسات الدينيّة الخادمة لها.

6- السيطرة غير المباشر للقوى الاستعماريّة على معظم القيادات السياسيّة الحاكمة في عالمنا العربيّ، هذه القيادات التي وجدت بالمستعمر حليفا استراتيجياً لها ضد شعوبها المجهلة والمفقرة والمغربة والمهجرة بسبب سياساتها اللاعقلانيّة واللاأخلاقيّة معا.

س11: ا. مراد غريبي: ثمة تناقضات أيديولوجية حادة في التراث الدينيّ أربكت الفكر العربيّ المعاصر، حيث عقدت طرح الإشكالات الاستراتيجيّة، الأمر الذي بات يتطلب مراجعة نقديّة للتراث تذهب إلى جذور المآزق التاريخيّ في مدوناته وإفرازاته، من أجل تجاوز دوامة الإخفاق التي تحاصر الواقع العربيّ داخل دائرة فوضى التنظير، هل الخلاص في العلمنة أم الدين وأي حاجة لكلاهما؟

ج11: د. عدنان عويد: إن مشكلتنا مع التراث لإسلاميّ بشكل عام، والنص المقدس منه (قرآن وحديث) بشكل خاص، ابتدأت بعد وفاة الرسول بشكل عمليّ من خلال الصراع على الخلافة بين المهاجرين والأنصار وتوظيف حديث للرسول يقول: (الخلافة في قريش)، ثم من خلال تفسير النص وتأويله فيما بعد.

إن الرسول كان يدرك أن القرآن حمال أوجه وهو القائل: (القرآن ذلول حمال أوجه فخذوه على وجهه الحسن)، وهو في ذلك مصيباً كونه يدرك دلالة الآية السابعة من آل عمران التي تقول: (هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ ۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِۦ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ ۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ). فالآية واضحة في دلالاتها المعرفيّة من جهة، وبالحوامل الاجتماعيّة ممن في قلوبهم زيغ، الذين سيوظفون هذا النص لمصالحهم من جهة ثانية. لذلك على هذا الموقف المعرفيّ والسلوكيّ جاءت تلك الصراعات الفكريّة والسياسيّة التي كلفت الدولة والمجتمع منذ السقيفة حتى اليوم الكثير من الدماء، والتي لعبت على وترها السياسة، تحت مظلة تفسير النص الدينيّ وتأويله خدمة لأجندات كثيرة، أدت إلى انقسام المجتمع العربيّ الإسلاميّ إلى ثلاث وسبعين فرقة كل فرقة تقول هي الفرقة الناجية.

إن من يتابع المسيرة الفكريّة للخطاب الإسلاميّ من السقيفة حتى اليوم، يجد تلك التناقضات والخلافات على مستوى علم الكلام والفقه، فعلى مستوى علم الكلام، كان هناك المعتزلة وخطابهم العقلانيّ الذي يبجل العقل وحريّة الإرادة في تقرير الإنسان لمصيره، وقد اتكأ عليه المناوئون للسلطة الحاكمة التي قالت: إن الإنسان مسؤول عن أفعاله، وإن السلطات الحاكمة يجب أن تحاسب على أخطائها لكونها من فعلها هي. وكان هناك الفكر الجبريّ الذي اتكأت عليه السلطة الحاكمة، التي كانت تسوق للرعيّة بأن سلطتها مقدرة من قبل الله وما عليهم إلا الطاعة والرضوخ لإرادة الله، وكل من يخرج على السلطات الظالمة هو يخرج بالضرورة على ما قدره الله له، حتى ولو كان الحاكم فاسقا وفاسدا. وهذا الموقف الجبريّ سوق له التيار الحنبليّ والأشاعرة والماتريديّة، وعلى هذا الصراع الفكريّ المتكئ أصلاً على النص المقدس كما أشرنا أعلاه، توقف عليه الموقف الفقهيّ ذاته، وظهور المداس الفقهيّة كالشافعيّة والمالكيّة والحنبليّة والحنفيّة، بالرغم من أن المذهب الحنفي يأخذ بالرأي، إلا أن بقية المذاهب الأخرى المغرقة بالجبر قد حاربت أصحاب هذا المذهب، وعملت على تحجيمهم، ولكن دوره أو حضوره لقي حظوة عند السلطات الحاكمة، التي تريد تبرير ما تقوم به من أفعال لا ترضي بقيّة المذاهب الجبريّة.

إذن إن الصراع الفكريّ جاء من طبيعة النص المقدس ذاته كونه حمال أوجه من جهة، ومن موقف الذين في قلوبهم زيغ الذين فسروا هذا النص وأولوه لمصالحهم ومصالح القوى الحاكمة التي يعملون في خدمتها من جهة ثانية. أما الضحيّة فهم الرعيّة، الذين لا حول لهم ولا قوة... الرعيّة التي كان ولم يزل وعيها مغيباً عن حقيقة هذا النص المقدس، وعن من قام بتفسيره وتأويله لاحقاً لهم. وبالتالي كانت الرعيّة في المفهوم القروسطيّ، والجماهير في المفهوم المعاصر، ليست أكثر من حطب وقود لأيديولوجيا مفوّته حضاريّا، ولقوى اجتماعيّة تشتغل عليها حتى اليوم خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة. وأن كل ما جرى ويجري اليوم من حروب أهليّة وصراعات طائفيّة ومذهبيّة، وراءها قوى اجتماعيّة وسياسيّة لها مصالحها التي تريد تمريرها عبر الخطاب الديني نفسه، مستغلة تلك التناقضات العميقة فيه التي أشرنا إليها أعلاه.

أما بالنسبة لمسألة الخلاص من المأزق الذي نحن فيه اليوم، أعتقد أن الخلاص منه لن يأتي بالنوايا الحسنة، ولا بالأمنيات أو الدعاء لله كي يخلصنا مما نحن فيه من مآسي، راحت تزداد علينا يوماً بعد يوم، بالرغم من تكاثر عدد المساجد في عالمنا العربيّ والصرف عليها مليارات الدولارات لتزيينها بالموزايك والصدف والأرابيسك وحتى بالذهب. ولن يأتي الخلاص أيضا من قبل القوى الحاكمة التي وظفت الدين لمصالحها الأنانيّة الضيقة، وتاجرت بالعلمانيّة والديمقراطيّة ودولة القانون، ووظفت كل ذلك لمصالحها أيضا. إن الخلاص بحاجة لقوى اجتماعيّة مؤمنة بوطنها ومصالحه، وبالتالي مصالح الجماهير المعذبة والمسحوقة والمغربة والمستلبة والمشيئة.. إن الخلاص بحاجة أيضاً لثورة عقلانيَّة تنويرية تؤمن بالإنسان ودوره في تقرير مصيره.

ربما يسأل الكثير اليوم من هي هذه القوى الاجتماعيّة المؤهلة لحمل المشروع النهضويّ التنويريّ في عالمنا العربي؟.. أقول: هي القوى التي ستظهر من أقبية الظلام والجهل والمعاناة والفقر والجوع والحرمان.. وإن كل الظروف مهيأة اليوم لخروجها، وهذا الفرق بين فكرة الإمام المنتظر لتحقيق الخلاص لدى الشيعة والسنة، أو المسيح المخلص لدى المسيحيّة وحتى اليهوديّة. إن المخلص هنا هم القوى المسحوقة من الشعب التي فقدت كل شيء إلا كرامتها وقدرتها على التغيير.

س12: ا. مراد غريبي: التراث مستويات وكل مستوى متوقف على مدى تأثيره في الراهن، كما أننا في قبال الحداثة والتجديد والعلمانيّة يبرز عنوان التقليد والرجعيّة وما هنالك، فأي تراث نستهدف قراءته وتصحيحه وتمحيصه وماهي المستويات الأخطر فيه؟ وهل يمكن التعامل مع التراث بنظم التثاقف؟

ج12: د. عدنان عويد: نعم للتراث مستوياته المعرفيّة ( الأبستمولوجيّة)، التي اختزلها الجابري في كتابه (بنية العقل العربيّ)، وهو محق في ذلك برأيي، حيث استطاع نمذجة هذا العقل نظريّا بطبيعة الحال، ما بين عقل بيانيّ، وآخر عرفانيّ، وآخر برهانيّ، وأخيراً العقل السياسيّ.

فالتراث العربيّ في سياقة العام هو هذه الأنساق المعرفيّة. فإذا كان العقل البيان قد تركز في اللغة وما تتضمنه من تشبية واستعارة وتمثيل وغيرها، ثم دور هذه اللغة بكل مفرداتها في الاشتغال على ظاهر النص المقدس تاويلاً وتفسيراً وفقهاً وغير ذلك، فإن العقل العرفانيّ، هو العقل الذي اشتغل عليه المتصوفة من حيث قراءة النص المقدس (القرآن) ذاته، والبحث في مضامينه عن كل ما يمنحهم القدرة والثقة على التأويل والتفرد في فهم النص، وفقاً لمواقف وجوديّة مثاليّة من الحياة، أهم ما فيها هو أكراه الجسد واقصائه عن عالمهم، ليتفرغوا للروح وتنقيتها من أوساخ الواقع المعيوش، والارتقاء بها إلى المصاف العليا، هذا الارتقاء الذي وصل عند كبار شيوخ المتصوفة إلى الاتحاد مع الله، كما فعل الحلاج والسهروردي والبسطامي وذو النون، أو الوصول إلى وحدة الوجود كما فعل ابن عربي على سبيل المثال لا الحصر، ولكن مشكلة هؤلاء المتصوفة الكبار أنهم كانوا مع الفقراء، وهذا ما جعل السلطات الحاكمة ومشايخهم يلاحقونهم وينكلون بهم تحت ذريعة الانحراف العقيديّ والخروج عن الملّة. اما العقل البرهانيّ فهو العقل الذي اشتغل على العقل ودوره ومكانته في حياة الإنسان، هذا العقل الذي تجسد دوره في التراث العربي الإسلاميّ أيضاً على إعادة قراءة وتأويل النص ولكن من خارج عالم الخيال والأسطورة والكرامة الذي اشتغل عليه المتصوفة. لقد تأثر هذا العقل في سياقه العام بالفكر الفلسفي اليوناني (المنطق الأرسطي) بشكل خاص، لقد تأثر بأساليب قياسه واستنتاجاته واستقرائه واستدلاله وأحكامه المنطقية، فظهر من خلال التعامل مع هذا العقل، مجموعة من المفكرين والفلاسفة الإسلاميين الذين كان العقل النقديّ منهجاً لهم في التعامل مع تفسير النص وتأويله وفقاً لمصالح الناس وليس لمصالح الحكام، فكان لهم الحكام ومشايخهم بالمرصاد دائما، حيث عملوا على حرق كتبهم واقصائهم وطردهم من الحياة الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ولم يتوانوا حتى في قتلهم. أما العقل السياسيّ فقد تركز على مفهوم الخلافة وصفات وسمات الحاكم الأخلاقيّة والجسديّة، وكذلك التركيز على كيفية وصول الحاكم إلى السلطة وما هو موقف الرعيّة منه، وضرورة طاعته وغير ذلك، ومن الذين اشتغلوا على ذلك الماوردي في كتابه (احكامه السلطانيّة)، وبدر الدين بن جماعة في كتابه (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام). وابو يعلى الفراء في كتابه (الأحكام السلطانيّة).

هذا وعلينا أن نشير إلى أن العقل البرهانيّ اشتغل على قضايا علميّة وانتربولوجيّة، كما اشتغل على علوم تتعلق بالكيمياء والفيزياء والبصريات والرياضيات والطب والزراعة والاقتصاد وغير ذلك، ولكن السلطات الحاكمة ومشايخها من الذين انكروا هذه العلوم التي تقوم على تسخير العقل في المعرفة، حاربوا هؤلاء الفلاسفة والعلماء كما أشرنا قبل قليل.

هذه هي بنية العقل العربيّ، التي خيم عليها العقل البيانيّ والعرفانيّ والجبريّ لمئات السنين ولم يزل، هذه البنية المفوّتة حضاريّاً، خلقت في عالمنا العربي (أسرى الوهم)، الذي تحول بدوه بفعل القوى السياسيّة الحاكمة ومشايخها وبعض التيارات السياسيّة الداعية إلى الحاكميّة إلى ايديولوجيا، راحت تُفرض فكرياً وسلوكياً على المواطنين من قبل سدنة المعبد والحقيقة المطلقة ومستلبي السلطة.

إذا إن أسرى الوهم، أو الأيديولوجيا الدينيّة المغلقة، قد أسرتهم حقائق العقائد الدينيّة وشروحاتها وطقوسها ورمزها، ووعودها بتعويضهم عن ما عانوه من حرمان في واقهم المعيوش، بالفردوس الذي سيجدون فيه ما يشتهون من خمر ولبن وعسل وحور العين وسندس واستبرق وقصور فارهة، الأمر الذي جعلهم يدورون في فلك الماضي بحثاً عن معرفة طريق الوصول إلى هذا الفردوس الذي بينته لهم الكتب الدينيّة وعقائدها وشروحاتها التي قدمها مشايخ وفقهاء العصور الوسطى، كمإ أن هذا الأسر ارتبط أيضاً في المستقبل الذي رسمته لهم هذه الكتب ذاتها حيث اُعتبر الحاضر عندهم دار رذيلة وشقاء وفساد يجب أن تهمل أو تترك رغبة بما تشي به أحلام المستقبل.. الجنة.

إذن، إن أسرى الوهم الدينيّ يعيشون حياتهم محاصرين بماضٍ تكمن فيه معرفة طريق الخلاص الأبديّ، ولا بد من العودة إليه دائماً وتمثله فكراً وسلوكاً، وبحاضر يتطلب منهم رفضه أيضاً رغبة في تحقيق ما وعدهم به هذا الماضي نفسه في المستقبل. هذا الماضي الذي أصبح بالضرورة المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ المقدس لهم، وكل محاولة للخروج منه أو عليه حباً بالحاضر الفاسد، هو تحدٍ لهذا المقدس وما يمثله، وهذا التحدي سيُدخل صاحبه في خانة الردّة والكفر والزندقة والالحاد وبالتالي البدعة التي ستحرمه من جنان الخلد لاحقاً، كما يدعي من جعلوا أنفسهم أوصياء الله على هذه الأرض، وهم بعض مشايخ الدين، أو ما نسميهم بسدنة الحقيقة المطلقة، هؤلاء الذين راحوا يمارسون قمعهم الوعظيّ على المتدينين حتى لا يخرجوا عن عالم ما رسمه لهم من فسروا الدين وأولوه من تجار الدين خدمة لهم ولأسيادهم، تارة بالترهيب، كعذاب القبر أولاً، ثم عذاب جهنم بكل ما فيها من وسائل التنكيل، كالتعذيب بالنار والزمهرير والحديد ثانياً.. الخ. أو بالترغيب، كوعدهم بجنة تجري من تحتها الأنهار، فيها كل ما تشتهيه النفس الإنسانية وفي مقدمتها حور العين والخمر كما بينا قبل قليل.

على العموم إن ثقافتنا في سياقها العام لم تزل ثقافة شفويّة،   وهي في أس جذرها وأصولها وامتدادها، ثقافة الأجداد (الأسلاف) الذين لم يتركوا شيئاً للأخلاف إلا وقالوا به، وحددوا الحلال فيه والحرام، أو الصح والخطأ، ومارسوا جرحهم وتعديلهم على نمط شخصياتهم السلبية منها والايجابية فكراً وممارسة، ليس لعصرهم فحسب، بل ولكل العصور اللاحقة، أي اعتبار ما قالوا به ومارسوه هو المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ لكل ما هو تال.

أمام هذا العقل العربيّ، وثقافته الشفويّة، يأتي الشق الآخر من السؤل وهو أي ثقافة نستهدف، وعلى أي ثقافة نتكئ.؟

نحن اليوم أمام كل حالات التخلف التي نعيشها وخاصة التخلف الفكر المشبع بالهجانة والنقل، والبعيد كل البعد في معظمه عن المناهج العقلانيّة الحديثة، نحن بأمس الحاجة لقوى اجتماعيّة منسجمة مع ذاتها فكراً وممارسة، قوى اجتماعيّة مومنة باوطانها وبالمواطنة ذاتها، تعمل على محاربة واقصاء المرجعيات التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب، ومؤمنه بالفكر العقلانيّ التنويري الذي يحترم الإنسان وعقله وحريّة إرادته، وأنه هو سيد قدره، والمؤمنة بالدولة المدنيّة القائمة على المؤسسات والقانون والتعدديّة. ربما ما أقوله هنا يشكل وصفة سحريّة عند من سيقرأها، وهذه حقيقة نعيشها تحت مظلة التخلف الذي نحن فيه، ولكن لا بد من الاشارة إلى الحلول لعل من هم في موقع السلطة اليوم يحسون بآلام شعوبهم ومعاناتهم. ولقد صدق الخليفة عثمان بن عفان عندما قال : (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع في القرآن). في حالات التخلف الذي تعيشه المجتمعات، يعول كثيراً على السياسة في تحقيق تجاوز هذا التخلف، وهناك تجارب عديدة مرت بها بعض الشعوب عندما توفر لها حكام شرفاء يومنون بشعوبهم ومستقبل بلادهم ورقيها.

 

حاوره: ا. مراد غريبي - المثقف

 

 

في المثقف اليوم