مرايا فكرية

مراد غريبي يحاور الباحث الأكاديمي النهضوي د. عدنان عويّد (2)

3176 عدنان عويد ومراد غريبيخاص بالمثقف: الحلقة الثانية من مرايا فكرية مع الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور عدنان عويّد، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا الفكر والهوية واللغة والنهضة في العالم العربي، فأهلا وسهلا بهما:

المحور الثاني: الدين والإنسان والحياة:

س13: أ. مراد غريبي: بحكم تخصصكم الأكاديمي لديكم اشتغال بقضايا علم الاجتماع، وهو علم واسع يشمل العديد من الحقول المعرفية، من بينها حقل الدين، فماذا عن مفهوم الدين سوسيولوجيا وموقعه ضمن التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافية التي شهدتها المجتمعات العربية المعاصرة؟

ج13: د. عدنان عويد: لا شك عندنا، بأن البعد السوسيولوجيّ (الاجتماعيّ) للدين يتحدد بالواقع المعيش، على اعتبار أن الدين شكل من أشكال الوعي. فهو يتصل اتصالاً مباشراً ووثيقاً بالواقع. والواقع هو الذي يحدد طبيعة نصوصه المقدسة، أي هو الذي فرض ويفرض على النص المقدس أن يتعامل مع هذا الواقع بأبعاده الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والقيمّة، وما يترتب على هذه الأبعاد من مهام ووظائف عبر الممارسة من جهة، والواقع ذاته هو من يفرض أيضاً على من يشتغل بهذا الخطاب الدينيّ أن يعمل على تفسير وتأويل نصوصه المقدسة بما يتفق ومصالح الفرد والمجتمع وفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيشة من جهة ثانية. والواقع أخيراً في حركته وتطوره وتبدله هو من فرض الناسخ والمنسوخ على هذا النص المقدس، وبالتالي التأكيد على أن الأحكام تتغير بتغير الأحوال من جهة ثالثة.

فهذا الشيخ الإمام "محمد عبده" يتعامل مع الفكر عموماً ومنه الفكر الدينيّ خصوصاً، بكل جرأة وعقلانيّة وفقاً لهذه الرؤية السوسيولوجيّة بقوله: (نعم إن الإنسان إنسان بكل فكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مزايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكراً، وكل فكر له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى الفكر ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأفكار والأعمال ما دامت الأرواح في الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد) . (الأعمال الكاملة – محمد عبده- ج3- ص 286 وما بعد).

إذن إن للدين موقفاً وظيفيّا تفرضه كما قلنا أعلاه طبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة بالنسبة لحالات التطور والتقدم التي تصيب المجتمع والدولة تاريخيّاً أولاً، وبالنسبة لقوة حضور هذا الدين ودرجة فاعليته في حياة هذه الدولة والمجتمع بشكل عام ثانياً. ولكن يظل في المحصلة للدين دور وظيفيّ في شقيّه الإيجابيّ والسلبيّ في حياة الشعوب ودولها أدتها حوامله الاجتماعيّة في الماضي (مشايخ ورجال دين)، ولم تزل تؤديها في تاريخنا المعاصر.

فالدين من الناحية الايجابيّة: يقوم بربط الفرد بالمجموعة، ويقدم له العون المعنويّ عند الضياع والخيبة والاحتجاج، أو عند القناعة والرضى والرضوخ، كما يقدم له العون الماديّ أحياناً من قبل أصحاب هذا الدين أو ذاك أو تفريعاته الطائفيّة والمذهبيّة.

إن من وظائف الدين الايجابيّة ضبط وتعديل جملة التوازنات الممكنة بين الفرد وذاته، وبين الفرد والمجموع، كما أن آليات الضبط هذه تشتغل على وظيفة الفرد الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، أي وظيفته كإنسان في نهاية المطاف. ومن وظائفه الايجابيّة أيضاً، يشكل الدين في مفاهيم عدالته وموقفه من الظلم والاستعباد والاستغلال أحد الوسائل الأساس التي يتكئ عليها المحتجون أو المعارضون من الفقراء والمحرومين والمهمشين والمقصيين من الأنظمة السياسيّة المستبدة القائمة.

أما بالنسبة للمواقف السلبيّة التي يحققها الدين وخاصة في مواقف حوامله الاجتماعيين الاحتجاجيّة: فهي أن الدين يُعَمَمُ هنا على مجمل مستويات قوى الاحتجاج، أي يغيب البعد الطبقي عند القوى المحتجة إلى حد بعيد، طالما أن العدو واحد في مرحلة تاريخيّة محددة. ولكون الدين في رؤيته لمفاهيم العدالة بكل مستوياتها أو تفريعاتها تقوم على رؤى ثابته (معياريّة) غير قابلة عند الكثير من مشايخ الدين للنقد أو المراجعة أو التعديل، لذلك نجد الدين يَحُولُ دون تطور ونضوج قوى الاحتجاج وإيصالها إلى قوى تغييريّة شاملة قادرة على تحقيق ثورة حقيقيّة قد تكون أساسيّة وضروريّة في مرحلة تاريخيّة محددة من تاريخ الدول والمجتمعات التي تعيش حالات من القهر والظلم والاستبداد. فمكانة الدين كـ (أفيون للشعوب)، لا تستثمر الدين عقلانيّا وبما يتفق وروح العصر. ومن ناحية أخرى يظل لوظيفة الدين سلبياتها على حياة المجتمعات ودولها انطلاقاً من الوظيفة الانتمائيّة للدين، هذه الوظيفة التي تتناقض مع تكوين الهويات الأخرى غير الدينيّة التي تقتضيها الوضعيات المعاصرة للأمم والشعوب، كالانتماءات الكبيرة مثل الانتماء للوطن أو للقوميّة، أو الانتماءات الصغرى مثل الحزب أو النقابة أو المنظمة... الخ.

إن الدين في وضعيته الانتمائيّة القائمة على العقيدة، يصبح هنا عامل تقسيم وتشرذم خصوصاً داخل المجتمعات المتعددة الديانات والطوائف والمذاهب، حيث تؤدي هذه الانتماءات الدينيّة الضيقة إلى صراعات دينيّة وأهليّة تهدد وحدة المجتمع ككيان حضاريّ وثقافيّ وسياسيّ.

تظل أخيراً هناك وظيفة سلبيّة للدين على درجة عالية من الأهميّة وهي، تحول الدين إلى أيديولوجيا بيد السلطات الحاكمة التي لا تعبر عن مصالح شعوبها، ففي تاريخناً الماضي والحاضر اتكأت السلطات الحاكمة المستبدة والشموليّة على الدين ووظفته تفسيراً وتأويلاً بما يحافظ على وجودها وبالتالي مصالحها. بل إن الدين ظل يحكم طبيعة السلطة ذاتها من حيث الانتماء الصلبيّ إلى البيت القرشي، أي الانتساب للرسول بالنسبة للدين الإسلامي على سبيل المثال لا الحصر. وهذا التوجه القبليّ/العرقيّ ظل قائما في عالنا الإسلاميّ حتى سقوط الخلافة العباسيّة. والملفت للنظر أن من ينتمي لآل البيت من مشايخ الدين له حظوة اجتماعيّة كبيرة لدى المجتمعات الإسلاميّة إن كان من السنة أو من الشيعة.. كما أن من الآليات المهمة التي يعمل الدين عليها في توجهاته السلبيّة، هو التواطؤ الذي يقوم بين الطبقات الحاكمة والكثير من علماء الدين نتيجة مصالح مشتركة بينهما، وذلك عن طريق بعض المؤسسات الدينيّة وعلمائها، هؤلاء العلماء الذين كانوا بغالبيتهم وفي مختلف عصور الإسلام على سبيل المثال لا الحصر، خاضعين سياسيّاً واقتصاديّا للقوى الحاكمة. وهم من يقوم بعملية تفسير وتأويل النص الديني وإصدار الفتاوى لمصلحة هذه القوى السياسيّة الحاكمة أو تلك. أما الخطر في هذا التحالف المشبوه بين رجال الدين والسلطة، فيتجسد في تشجيع الفكر السلفيّ الغيبيّ الامتثاليّ وخاصة الأشعريّ والصوفيّ منه على وجه التحديد كونهما يعملان على محاربة العقل والإرادة الإنسانيّة من جهة، ومحاربة الفكر التنويريّ التقدميّ وحوامله الاجتماعيين، ونعتهم وأفكارهم بأنها أفكار زندقة وكفر من جهة ثانية.

س14: أ. مراد غريبي: مقاربة الظاهرة الدينية في المجال العربي تثير اسئلة جوهرية ذات علاقة بمباحث من قبيل: ماهية الإنسان، العلمانية، الاجتماع المدني، القيم الإنسانية، الدولة، التطرف، التسامح، الاختلاف وما هنالك من قضايا كان لكم السبق في تناولها، هل التدين عربيا لايزال بعيدا عن وعي هذه المباحث وكيف الإصلاح بنظركم دكتور عدنان؟

ج14: د. عدنان عويد: منذ أن أصدر الخليفة العباسيّ المتوكل عام (232) للهجرة، أوامره لرجال الدين بترك العقل والتوجه نحو النقل، مع فرض العقوبات الصارمة من قبل محاكم التفتيش التي شكلت لمن يخالف هذه الأوامر، لم يعد هناك مجال تحت مظلة الخلافة الإسلاميّة في المشرق العربيّ لأي نشاط فكريّ عقلانيّ خارج فهم النص الدينيّ المقدس للقوى السلفيّة التي فسرت وأولت هذا النص وفقاً لرؤيتها، وبما يخدم مصالحها ومصالح أسيادها من القوى الحاكمة. فعلى أساس هذا الموقف الفكري الجموديّ توقف الاجتهاد العقلانيّ من جهة، وتوقف الاشتغال فكريّاً على العلوم الأخرى (الوضعيّة) التي تناولها فلاسفة ما قبل مرسوم الخليفة المتوكل، واقتصر العمل بشكل عام على علوم الدين من حديث وفقه وعلم كلام وتصوف وعبادات وغير ذلك. واعتبر أي خروج فكريّ عن هذه العلوم بدعة وضلالة، إن كان من حيث الاشتغال على الفكر الوضعيّ، أو الخروج فكريّاً عن رؤية علماء الدين السلفيين في تفسير وتأويل النص الدينيّ المقدس، أو ما أصل له الشافعي في الفقه وأصوله. هذا مع تأكيدنا هنا بأن هناك اتجاهات فكرّية عقلانيّة راحت تتعامل مع النص الدينيّ وفهم الواقع إن كان في المغرب العربيّ، أو في الأندلس كابن حزم وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، كون هؤلاء كانوا خارج توجهات سلطة القوى السلفيّة وداعميها بالمشرق العربيّ، بالرغم من أن بعض هؤلاء المفكرين الفلاسفة لم يسلموا من الحسبة على ما طرحوه من أفكار عقلانيّة كان للبعد السياسيّ دور فيها، كما جرى لابن رشد وابن خلدون على سبيل المثال لا الحصر.

إذن نستطيع القول: من تاريخ المتوكل حتى سقوط الدولة العثمانيّة كان هناك حصار قد فرض على التفكير العقلانيّ بشقيه الدينيّ والوضعيّ. ولا نستغرب أن علماء الأزهر وغيرهم في مصر قد اختلفوا في تاريخنا الحديث على النظر في مسألة السماح باستخدام (حنفيّة الماء) في الحياة العامة، فمنهم من رفضها باسم الدين ومنهم من قبلها باسم الدين أيضاً، كدعاة الفقه الحنفيّ، ومن هنا جاء اسم (الحنفيّة) نسبة إلى المذهب الحنفيّ. ولا نستغرب أيضاً أن مشايخ الدين السلفيّ قد أفتوا بعدم صحة التعلم بالمداس الحكوميّة زمن محمد علي باشا عندما أسس الطهطاوي هذه المداس بأمر حكوميّ، الأمر الذي كان يدفع أولياء الطلاب بتوجه من مشايخ السلفيّة المتزمتة والجاهلة إلى ممارسات لا إنسانيّة بحق أعضاء أولادهم الجسديّة حتى لا يلتحقوا بهذه المدارس اللادينية. كقطع اليد أو الرجل أو فقع العين... الخ

على العموم مع بداية القرن التاسع عشر راحت تظهر توجهات عقلانيّة نحو العلم الحديث وخاصة في مصر محمد علىّ باشا، وفي تونس خير الدين التونسيّ، دون أن ننكر تلك الارهاصات الأوليّة لهذا التحديث في المشرق العربيّ، كتجربتي فخر الدين المعنيّ في سورية، وطاهر باشا في العراق، إلا أن كلا التجربتين قد أجهضتا، وبقي لتجربتي محمد على باشا وخير الدين التونسي تأثيرها على تاريخنا الحديث والمعاصر. وراحت نتائجهما تظهر بوضوح مع الطهطاوي وتلامذته من جهة، ثم مع مدرسة جمال الدين الأفغانيّ ومحمد عبده من جهة ثانية. فهذه المدرسة التنويريّة الإسلاميّة راحت تتعامل مع مفردات أفكار الثورة الفرنسيّة، كالديمقراطيّة والحريّة والعلمانيّة وماهية الإنسان، والاجتماع المدنيّ، والمرأة، والقيم الإنسانيّة، والدولة، والتطرف، والتسامح وغير ذلك من مفردات وضعيّة، محاولين أسلمتها من خلال البحث عن نصوص دينيّة أو مواقف ذهنيّة لهذا الخليفة أو ذاك أو لهذا الفقيه أو ذاك تتوافق مع مضمونها. فالديمقراطيّة وجدوا مرادفة لها الشورى. والعدل والمساوة وجدوا له أحاديث وأيات وموقف ذهنيّة كموقف عمر بن الخطاب من قضية ابن عمر بن العاص.. والعلمانيّة وجدوا لها حديث للرسول وهو تأبير النخل.. وللمرأة وحريتها كان موقف عمر ابن الخطاب من المرأة التي حاججته وأخذ برأيها.. وهكذا دارت أمور التحديث. وبالرغم من أن هذا التوجه التنويريّ راح يتسع فيما بعد مع بناء الدولة الحديثة وتوسع التعليم المدنيّ في كل مراحله، ودخول الاختصاص الفلسفيّ في الجامعات. إلا أن شهوة السلطة في الأنظمة العربيّة التي تحولت إلى أنظمة شموليّة حاصرت أصحاب التوجهات الفكريّة التنويريّة وفسحت في المجال واسعاَ للتيار السلفيّ كي يمارس دوره في الوقوف بوجه التيار العلمانيّ التنويريّ، والتصدي لرجالاته ومحاصرتهم وتكفيرهم والتشهير بهم كونهم مارقين عن الدين، ولم يتوانوا أحيانا في التعدي على بعضهم أو تصفيته جسديّا.

أما بالنسبة للشق الثاني من سؤالكم حول الحل أو الاصلاح في عالمنا العربي للخروج من مأزقه، فالإجابة على مثل هذا السؤال الإشكاليّ ليست وصفة طبية لمعالجة مرض فيزيائيّ يصفها طبيب لمرض شائع، وإنما المرض الذي نعاني منه هو مرض اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ وثقافيّ. فإذا كان المرض الاجتماعيّ يتجسد في البنية الاجتماعيّة المفوتة حضارياً، أي التي لم تزل مسكونة بمرجعيات تقليديّة سيطرت عليها روح وعلاقات القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب، والكثير من القيم الأخلاقيّة التقليديّة المحكومة أيضاً بالعرف والتقليد والعادة، و هي قيم معياريّة تعود إلى مئات السنين أشبعت بقيم الدين التي لا يأتيها الباطل من تحتها أو بين يديها، مع تأكيدنا على انتشار الجهل والفقر والتخلف. فإن المرض الاقتصاديّ محكوم بدوره بقوى وعلاقات إنتاجية متخلفة وهجينة أو متعددة الأنماط يسيطر عليها اقتصاد السوق البسيط او الصغير على مستوى الداخل، والاقتصاد الريعيّ والاستهلاكيّ على مستوى التعامل مع الخارج، وإن وجد هناك اسواق صناعيّة في بعض الدول العربيّة، فهي أسواق صناعيّة تجمعيّة أو ذات اللمسات الأخيرة، ومعظم مكونات هذه الصناعة مستوردة من الخارج. وهذا الواقع الاقتصاديّ المزري سينتج عنه بالضرورة اقتصاد متخلف غير قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي من جهة، ثم خلق أسواق قادرة على المنافسة مع الخارج من جهة ثانية، وأخيراً غير قادر على إنتاج طبقة صناعيّة وطنيّة قادرة على وعي نفسها ودورها التاريخيّ وبالتالي التخلص من سماتها وخصائها الكومبرادوريّة، وتحقيق إمكانيات قيادتها للدولة والمجتمع من جهة ثانية. أما على المستوى السياسيّ فغياب المجتمع المدنيّ واقتصاد السوق المستقلة، سيؤديان بالضرورة إلى غياب البنية السياسيّة العقلانيّة بحواملها الاجتماعيين المؤمنين بتداول السلطة والمشاركة السياسيّة ودولة القانون والمواطنة.. الخ. وبناءً على ذلك ظلت البنية السياسيّة مرتبطة بحوامل اجتماعيّة تقليديّة يسيطر عليها شيخ العشيرة والقبيلة والطائفة، تحت أسماء متعددة ولكن جوهرها واحد، كالأمير والملك والزعيم والقائد الملهم وغير ذلك، والملفت للنظر أن عدوى هذا المكونات السياسيّة التقليديّة انتقلت إلى الأحزاب التي تدعي التقدميّة والعلمانيّة وراح قادتها يعملون على التوريث مما زاد في الطين بلة بالنسبة لأزمة الخطاب السياسيّ في هذه الدول التي راحت تسير في خطابها السياسيّ كـسيران (بول البعير)، أي الرجوع إلى الوراء. الأمر الذي كان وراء ما سيمّي بثورات الربيع العربيّ التي كشفت عورات هذه الأنظمة وبينت مساوئها ومساوئ القوى المعارضة لها على السواء. أما بالنسبة للمسألة أو البنية الثقافيّة فقد أشرنا إلى تخلفها وهجانتها وسكونيتها ووثوقيتها وشفويتها واستسلام حواملها الاجتماعيين لما هي عليه، كما بينا دور القوى السياسيّة المتخلفة التي تدفع باتجاه تكريس هذا الثقافة المفوّتة حضاريّاً خدمة لمصالحها يساعدها في ذلك مشايخ السلطان ومؤسساته الدينيّة والعديد من المثقفين والاعلاميين من المطلبين  والمزمرين الذي يعملون ليل نهار على تكريس التخلف وتغييب الفكر العقلانيّ التنويريّ، ومحاربة حوامله الاجتماعيين، إما عن طريق سجنهم كأصحاب رأي أو دفعهم للهجرة خارج الوطن، أو تحريض مشايخ السلطان عليهم للتشهير بهم، تحت ذريعة الكفر والالحاد من جهة، أو الفسح في المجال للقوى الأصوليّة الجهاديّة على قتلهم والتنكيل بهم من جهة ثانية.

س15: أ. مراد غريبي: الإنسان العربي يرنو لمجتمع حداثي بكل عناوينه المدنية والمواطنة والعدالة وما هنالك، لكن يا ترى هل التحليل السوسيو ثقافي للظاهرة العربيّة المعاصرة يوحي بأفق حضاري منسجم مع ما هو حداثي وتقليدي بالنظر لمركزيّة الدينيّ والسياسيّ في الوعي الجمعيّ العربيّ؟

ج15: د. عدنان عويد: الناس على دين ملوكها أو حكامها كما يقال، فإذا كان الحاكم تنويريّاً يهمه مصلحة شعبه، فهو يسعى جاهداً لتكريس قيم الحداثة، من علمانيّة وديمقراطيّة وحريّة للرأي، وتكريس لفكرة المواطنة، ودولة المؤسسات، واحترام المرأة ودورها ومكانتها في المجتمع، ونشر التربية والتعليم، والثقافة التنويرية العقلانيّة والعمل على تطوير البنيّة الاقتصاديّة والسياسيّة في دولته ومجتمعه. والعكس صحيح أيضاً، فعندما يكون الحاكم مستبداً وتملكه شهوة السلطة، فهو يسعى جاهدا إلى نشر الجهل والتخلف بكل أشكالهما بين صفوف شعبه، كما يمارس التسلط على رقاب أبناء هذا الشعب، من خلال تحكمه بالسلطة والتفرد بها، ومحاربة الرأي والرأي الآخر، وتغييب فكرة المواطنة على حساب تسييد سلطة العشيرة والقبيلة والطائفة، مثلما يعمل على نشر الفكر الدينيّ الغيبيّ الامتثاليّ الاستسلاميّ الوثوقيّ ورجالاته. فلو أخذنا مثالاً واحدا من أجل تأكيد هذه الفكرة في عالمنا العربيّ، مع تأكيدنا على نسبيّة القيم التي يتبناها هذا الزعيم أو ذاك ومدى قدرته على تطبيقها في الواقع. ففي مصر على سبيل المثال لا الحصر، نجد أن ما أسس له "جمال عبد الناصر" في فترة حكمه من قيم ذات توجه علمانيّ حداثي طال الكثير من بنية الدولة والمجتمع، يختلف كثيراً عما اشتغل عليه أنور السادات بعد استلامه دفة الحكم، حيث تصدى للقوى التنويريّة، وفسح في المجال واسعا لنشاط القوى الإسلاميّة الأصوليّة السلفيّة التي لم ترضيها سياسات السادات نفسه، فراحت تطالبه بأسلمة الدولة نهائيّاً.

إذن، تأتي مقولة عثمان بن عفان ("إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".). صادقة تماماً في تطبيق قيم الدين وشريعته، أو تطبيق قيم الدولة العلمانيّة الحداثيّة ومؤسساتها أيضاً.

عموماً إن الحداثة بكل مفرداتها تفرض نفسها شيئاً فشيئاً حتى على الأنظمة الأكثر قهراً وحصاراً لشعوبها، والحداثة في سيرانها أو جريانها برأيي تشبه جريان الماء تحت أساسات البناء، ربما لا تظهر نتائجها بشكل مباشر لسنوات طويلة، ولكنها تظهر فجأة وبمساحة واسعة في حياة الشعوب عندما تصل في درجة تحولاتها إلى حالة التحولات النوعيّة. والانفجار هنا هو تلك التحولات النوعيّة العميقة في حياة الشعوب، التي قد تأتيّ لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو فكريّة. فهذه المملكة العربية السعوديّة تقدم لنا مثالاً حيّاً عن تلك التحولات التي فرضتها الطبيعة السياسيّة في بنية الدولة مع مجيء وليّ العهد "محمد بن سلمان بن سعود"، الذي استطاع بقرارات سياسيّة شخصيّة لها طابع سلطويّ أن تُظهر كل المستور من قيم الحداثة لدى الشعب السعوديّ فجأة بعد أن كان هذا الشعب مكبوتاً في حريته وإرادته ورغباته والتعبير عن شخصيته، فها هو اليوم يمارس الحداثة وخاصة الاجتماعيّة منها بحريّة بغض النظر عن مدى توافقها مع قيم الحداثة في جوهرها, وهذا دليل على أن الشعوب كما جاء في سؤالك هي تعشق الحداثة والتغيير، وهي قادرة على ممارستها عندما تسنح لها الفرصة. ولكن الأنظمة الشموليّة المستبدة هي برأيي من يعرقل تطبيقها وتقدمها في حياة الكثير من مجتمعات دولنا العربيّة، التي تحاصر الحداثة أمام فسح المجال واسعاً للقوى الأصوليّة وفكرها الظلاميّ كي ينشطا بحريّة.

س16: أ. مراد غريبي: ننتقل لمسألة الخطاب الديني خاصة التقليدي، ماذا عن نشأته وتجذره في البناء المجتمعي العربي وكيف يمكن تجاوز المأزق الذي يشكله كتيار مهدد لكل صور المجتمع المدني ودولة الإنسان ومجتمع المعرفة والحقيقة البديهية كما يعبر تشومسكي؟

ج16: د. عدنان عويد: نقول هنا إذا كان الشافعي (أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ 150-204هـ / 767-820م) هو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي، ومؤسس علم أصول الفقه، وهو أيضاً إمام في علم التفسير وعلم الحديث، قد أسس في القرن الثاني للهجرة أصول الفقه السلفيّ، في كتابه الرسالة، حيث حدد مصادر التشريع بالقرآن والحديث والاجماع والقياس، وبناءً على هذا التأصيل، حوصر العقل والمنطق وحرية الإرادة الإنسانيّة لدى الفقيه ذاته فيما بعد أمام فتح باب الاجتهاد، من جهة، ثم الوقوف وبحزم بوجه كل من حاول أن يستخدم عقله في قراءة النص الدينيّ المقدس من خارج هذه المدرسة السلفيّة من جهة ثانية، وبالتالي اعتبرت أعمال فقهاء هذه المدرسة فيما بعد نصوصاً مقدسة أيضا، الأمر الذي ساهم في تجذير مدرسة النقل المعروفة في تراثنا الإسلاميّ، حتى أصبحت تفاسير أتباعها وخاصة الحنابلة منهم نصوصاً مقدسة لا يأتيها الباطل من تحتها أو بين يديها. وأصبح عندهم كل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

نعم إذا كان "الشافعي" قد أصل فقهيا، لما جئنا عليه هنا مع بن حنبل، فإن "الخليفة المتوكل" قد أصل سياسيا لهذه المدرسة عندما وصل إلى الخلافة عام 232 للهجرة، وأصدر فرمانه السيئ الصيت القاضي بمنع استخدام العقل نهائيا والعودة إلى النقل بعد أن أخذ العقل المعتزليّ مجده في زمن المأمون والمعتصم والواثق. ومنذ ذلك التاريخ وصولا إلى زمن أبي موسى الأشعري الذي أصل بدوره لهذه المدرسة فلسفيّاً من خلال علم الكلام الذي اشتغل عليه، وجعل من العقل ذاته وسيلة لتثبيت النقل والتأكيد عليه، مما أعطى الفكر السلفيّ السنيّ دوره ومكانته في الحياة السياسيّة والفقهيّة (التشريعية)، حتى عصرنا الحديث، هذا إذا ما أشرنا أيضاً إلى المدرسة الفقهيّة الشيعيّة وخاصة الجعفريّة منها التي انطلقت منذ جعفر الصادق، وراح يتواجد لها فقهاؤها الأصوليون. فكان من أبرز سمات هذه الأصوليّة الشيعيّة الجعفريّة هو اعتمادها على المراجع التقليديّة في المسائل الفقهيّة، وهي مصادر التشريع عند الأصوليين السنة، عدا القياس: الذي استبدلوه بالعقل، ولكن أغلب اعتمادهم في التشريع جاء علی القرآن والروايات والأحاديث الواردة في الكتب الأربعة، وقلّما يثبت عندهم حكم بالدليل العقلي، أو الإجماع. ومن أبرز الفقهاء الشيعة في العصر الوسيط يأتي:

1- الشيخ المفيد (413هـ-1022م). ففي رسالته (الأصوليّة) قام بإعادة تأسيس المعارف الإماميّة، وتأصيل أصول التفريع الفقهي، وذلك بعد أقل من قرن كامل على الغيبة الكبرى. ويعدّ كتابه أوّل كتاب مسقل يتناول علم أصول الفقه عند الإماميّة.

2- ثم يأتي السيد المرتضى (440هـ-1048م) الذي حدد وفصل في كتابه «الذريعة إلى أصول الشريعة» المباحث الأصوليّة التي عرّفها الشيخ مفيد، وذلك للتشويش الذي ظهر في عصره. وذكر في مقدمته أن هذا الكتاب منقطع النظير في إحاطته بالاتجاهات الاصوليّة.

3- ثم قام الشيخ الطوسي (460هـ-1068م) بتطوير المدرسة الاجتهاديّة وبدأ بممارسة الكتابة، فكتب كتاب «عدّة الاصول» وميّز فيه البحوث الأصوليّة عن الفقهية. حيث جعل مصادر الاستنباط وأدلّة الفقه أربعة: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والعقل.

4- وفي القرن العاشر دخل الاجتهاد عند مدرسة الاصوليّة الشيعيّة مرحلة جديدة على يد المحقق الأردبيلي (993هـ-1585م)، حيث يظهر الاتجاه العقليّ بصورة واضحة في مجال الفقه الاجتهاديّ، ويتم تأكيد عمليّة تربيع مصادر الأحكام في المدرسة الأصولية. (1) الويكيبيديا.

إذن ما نريد التأكيد عليه هنا هو، إن الفكر الأصوليّ الفقهي بتياراته انعكس بالضرورة على علم الكلام والفلسفة ماضياً وحاضراً، وظل هو الفكر الأكثر حضوراً وقوة وتأثيرا على الحياة الفكريّة العامة والخاصة، لا سيما وأن كلا التيارين السنيّ والشيعيّ وجدا من يدعمهما وبقوة من قبل الحكومات القائمة وخاصة السنيّة منها التي وجدت في الفكر الأصوليّ الأشعريّ سنداً وعوناً لها في تغطية وتبرير ظلمها ومفاسدها، على اعتبار أن أصحاب هذا التيار يبررون للحاكم فساده وظلمه للرعيّة، وإن كان لدى بعضهم احتجاجاً على هذا الظلم فهم يبررون ذلك بقولهم إن مجيئ هذا الحاكم الفاسد الظالم، هو انتقام من الله للرعيّة الذين حادوا عن اتباع الدين الحنيف وفقاً لرويتهم هم له. وبالنسبة لتيار الشيعة فقد لعبت إيران دوراً كبيراً في دعم هذا التيار بعد قيام الثورة الخمينيّة، والعمل على نشر الفكر الجعفريّ في المحيط العربيّ والإسلاميّ.

أما كيفيّة تجاوز هذا الفكر المتغول في عقول ونفوس المسلمين من جهة، ووجود من يدعمه سياسيّاً من جهة ثانية.

نقول: إذا كانت إجابتنا على الشق الثاني من السؤال الثاني المتعلق في كيفيّة الإصلاح وبناء المجتمع المدنيّ والدولة المدنيّة، أو بناء الحداثة وترسيخها بشكل عام في واقعنا العربيّ المترديّ، فإن إجابتنا هنا ستقتصر بالضرورة على إشكاليّة الفكر المتخلف السائد في الساحة الفكريّة لوطننا العربيّ، ويأتي في مقدمته الفكر الأصوليّ التكفيريّ الامتثاليّ الاستسلاميّ اللاعقلانيّ.

إن من يتابع الواقع الثقافيّ السائد في الساحة الثقافيّة العربيّة بشكل عام، ويتعرف على أبرز سماتها وخصائصها، سيجد أن هذه الثقافة السائدة هي الثقافة الشفويّة.

فالثقافة الشفويّة في سياقها العام، هي مجموعة الآراء والأفكار والمبادئ والرؤى والقصص والحكايا والأمثال الشعبيّة، دينيّة كانت أم وضعيّة. التي يتداولها الناس في أي مجتمع من المجتمعات بشكل يوميّ، وبكل ما تتضمنه هذه الثقافة من مواقف سلبية أو إيجابية تجاه علاقة الإنسان بنفسه أو بالمجتمع والطبيعة معاً. يضاف إلى ذلك أنها ثقافة أُنتج معظمها في الزمن الماضي، وأصبحت متوارثة، ولم تزل تُجتر ويتداولها الناس فيما بينهم للتعبير عن قضياهم الحياتيّة اليوميّة المباشرة في الفكر والممارسة، على اعتبارها أصبحت تشكل قيماً (معياريّة) ناجزة اختزلت التجربة الإنسانيّة وراحت تضبط وتوجه في عصر إنتاجها حياة الفرد والمجتمع، مثلما هي قادرة عند حملتها الاجتماعيين اليوم على تحقيق هذا الضبط والتوجيه حاضراً ولاحقاً، كونها جزءاً من الفردوس المفقود اولاً، وأن معطيات الواقع المتخلف تساعد كثيراً على إعادة إنتاجها ثانياً.

إذن بتعبير آخر نقول: إن الثقافة الشفويّة الأصوليّة اللاعقلانيّة في معظم حمولتها الفكريّة، تظل في جذورها وأصولها وامتداداتها، ثقافة الأجداد (الأسلاف) الذين لم يتركوا شيئاً للأخلاف إلا وقالوا به، وحددوا الحلال فيه والحرام، أو الصح والخطأ، ومارسوا جرحهم وتعديلهم على نمط شخصياتهم السلبيّة منها والايجابيّة فكراً وممارسة، ليس لعصرهم فحسب، بل ولكل العصور اللاحقة حتى زمننا المعيش، أي اعتبار ما قالوا به ومارسوه هو المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ لكل ما هو تال.

إن أي متابع لجذور هذه الثقافة، سيجدها تمتد في عمق تاريخنا، وأن فروعها وأغصانها ظلت تمتد عبر السنين اللاحقة، وخاصة بعد ظهور الدعوة الإسلاميّة التي شكلت عقيدتها وقيمها الأخلاقيّة المعياريّة المساحة الأكبر في وعيّ المواطن العربيّ بشكل خاص والإسلاميّ بشكل عام. حيث استطاعت هذه الثقافة الشفويّة ممثلة هنا في قسمها الأكبر بالوعيّ الدينيّ (الفقهيّ) أن تعرش على وعيّ أبناء هذه الأمّة حتى اليوم. علماً أن الدعوة الإسلاميّة جاء في صلب ما جاءت من أجله، هو إنهاء هذه الثقافة الشفويّة وتحويلها (من ثقافة الفم إلى ثقافة القلم) مع أول آية نزلت على الرسول وهي: (اقرأ)، من جهة أولى، ووضع حدً لتمسك الناس بأفعال آبائهم بِعُجْرِهَا وبُجْرِهَا من جهة ثانية. إلا أن قوة الماضي ممثلة بما كان يفكر ويفعل آباؤنا ظلت مسيطرة وفاعلة تحت شريعة (هكذا وجدنا آباءنا يفعلون). مع تأكيدنا هنا على الدور الذي مارسته السلطات الحاكمة في تاريخ الدولة العربيّة السياسيّ في تسييد هذا النمط من الثقافة الماضويّة التقديسيّة، بهدف تجهيل الناس والحجر على عقولهم، حيث وجدت القوى الحاكمة المستبدة في سياسة التجهيل، سر بقائها واستمراريتها في السلطة. الأمر الذي دفع هذه السلطة عبر تاريخها الطويل إلى محاربة الثقافات الإبداعيّة التي وجدت فيها خطراً يهدد مصالحها، إن كان أثناء قيام الدعوة الإسلاميّة من قبل كبار كفار مكة، أو من قبل الكثير من الخلفاء ومشايخ السلطان عبر تاريخ الدولة العربيّة الإسلاميّة التي تتخذ من الدين مرجعيّة دستوريّة وتشريعيّة لها حتى تاريخ دولنا المعاصرة.

نقول: من خلال عرضنا أعلاه، نستطيع تحديد أهم سمات وخصائص هذه الثقافة:

1- هي ثقافة ماضويّة، أنتج معظمها في الزمن الماضي، وغالباً ما يطغى عليها الطابع الدينيّ (الفقهيّ) في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، كون الدين كان ولم يزل هو المصدر الأهم للمعرفة، وحتى الثقافات الوضعيّة التي أنتجت في ذلك الوقت وخاصة الفلسفيّة منها إضافة إلى علوم الطب والكيمياء والتنجيم وغيرها، ظلت محكومة بالدين أيضاً، على اعتباره هو من يحلل ويحرم التعامل مع هذه الظاهرة العلميّة أو الاجتماعيّة أو تلك.

2 - هي ثقافة جماهيريّة، أو بتعبير آخر، هي ثقافة ظل يعاد إنتاجها واستهلاكها من قبل الجماهير الواسعة، فغالباً ما تجد الناس في كافة مفردات حياتهم اليوميّة يستشهدون بمقولاتها وقصصها وحكاياها وأمثالها الشعبيّة ونصها المقدس، خدمة لمصالحهم اليوميّة المباشرة، أو لإعطاء الفكرة التي يقولون بها أو العمل الذي يمارسونه المصداقيّة والشرعيّة، في المنزل والسوق والجامع والدائرة وغير ذلك من أماكن تواجدهم.

3-هي ثقافة تعتمد كثيراً على إيراد نص قرآني أو حديث أو رأي صحابيّ أو فقيه، إضافة إلى إيراد قصص وحكاية الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، كونها الأكثر قدرة على غرس المعلومة المراد توصيلها للمستمع، لذلك لا نستغرب أن نجد أحد مشايخ الدين يقول: إن القصص والحكاية جنود مجندة سخرها الله لنا كي نعلم بها الناس الدين والفضيلة.

4- هي ثقافة تركز كثيراً عند حملتها ودعاتها على القيم الأخلاقيّة، وخاصة قيم السلف الصالح، الذين أسسوا بناء الدولة الإسلاميّة وحضارتها. وبالتالي هذه القيم تشكل عند دعاتها الفردوس المفقود بعد أن راحت تتخلى عنها الأجيال اللاحقة، أو تجاوزها الزمن. وإذا أرادت هذه الأمّة أن تعود لمجدها وعزتها، فهي لن تعود إلا إذا عادت إلى القيم الأخلاقيّة تلك، (ولن يُصلح حال هذه الأمة بعد أن فسد أمرها إلا بما صلح به أولها.).

5- حازت هذه الثقافة على صفة التقديس، كون معظم مكوناتها مرتبط بالدين، وأكثر من أسس لها هم رجال الدين الذين ضبطوا علم الجرح والتعديل الذي وضعوه لتحديد الغث والسمين في هذه الثقافة، وبالتالي فكل خروج عن سمين هذه الثقافة هو بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

6- هي ثقافة تقوم على التراسل (العنعنة)، كون أصلها شفهيّ، وخاصة ما يتعلق منها في الحديث النبويّ وأقوال الصحابة والتابعين.

7-هي ثقافة تحاصر الإبداع والمبدعين، الذين يريدون التجديد في علوم الدين والدنيا، وبالتالي يعتبر هؤلاء المجددون بنظر دعاة هذه الثقافة منحرفين إذا ما حاولوا طرح أفكار لا تتفق مع ما هو ثابت ووثوقيّ في هذه الثقافة، إن كان لدى المذاهب أو الفرق الدينيّة، أو لدى الأحزاب ذات الأيديولوجيات الوضعيّة.

8- هي ثقافة تعالج تناقضات المجتمع وصراعاته الطبقيّة القائمة على الاستغلال، من منظور أخلاقيّ، يقوم على مناجاة الضمير والوجدان لدى هذا الفرد أو الجماعة، عندما يمارس أو يمارسون عملاً صالحاً، والعكس صحيح. فهم يطالبون الأفراد والمجتمع بضرورة التمسك بأخلاق التضحيّة ونكران الذات والإثار والمحبة والتسامح، كما مارسها السلف الصالح الذين حققوا بها العدالة والمساواة بين الناس كما يدعون، وغالباً ما يتخذون من بعض الرموز الدينيّة قدوة للحاكم والرعيّة أيضاً في نشر العدل بين الناس، دون أن يضعوا في حساباتهم خصوصيات كل مرحلة تاريخيّة من حيث ظروفها الموضوعيّة والذاتيّة ومكوناتها الاجتماعيّة وحدودها الجغرافيّة، ودرجة تطور المجتمع فيها أو تخلفه.

9- هي ثقافة تدعو إلى التسليم والامتثال لكل ما أنتج من معارف أقرها السلف في القرون الهجريّة الثلاث الأولى، أو ما حدده فقه (الحاكم) في الأنظمة السياسيّة الحديثة، وخاصة في الدولة الشمولّيّة، وبالتالي هي تعمل على محاربة الحريّة الفرديّة والإرادة الإنسانيّة والرأي الآخر.

10- هي ثقافة ذات توجهات أيديولوجيّة مغلقة، تعتبر الحقيقة قد أعطيت مرة واحدة وإلى الأبد، وعلينا أن نعمل دائماً على إعادة إنتاجها، وليّ عنق الواقع كي ينسجم معها. أي هي ثقافة ضد النسبيّة والحركة والتطور والتبدل.

على عموماً ما نريد قوله في هذا الاتجاه بالنسبة للثقافة الشفويّة: إنها ثقافة فرضت عبر تلك السنين الطويلة من سيادتها، العقل الإيمانيّ والتسليميّ على المواطن العربيّ، بحيث لم يزل النص المقدس وأقوال الأئمة والفقهاء وكبار مشايخ السلفيّة والقادة السياسيين، يشكل المرجع المعرفيّ والسلوكيّ للفرد والمجتمع مع غياب فاضح للضبط المنهجيّ وللرأي الآخر. أي هي من يشكل الحكم أو المعيار على أقوال الناس وسلوكياتهم وبالتالي استغلاله والاحتماء به دوماً. هذا إضافة لاستغلال وتوظيف ثقافة الخوارق والخرافة والأسطورة، وتطبيق الخاص على العام، أو الجزء على الكل في التعاطي مع أحداث التاريخ والواقع، وكذلك الانخراط بالموروث والمحافظة على الشكليات فيه، كالدعوة إلى التمسك بالرحمة والتسامح، وعند الضرورة لا بد من التمسك بالجهاد أيضاً انطلاقا من التكليف بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا ما ساهم في خلق حالات من الفوضى والتناقض في هذه الثقافة الشفويّة وبخاصة الجانب الفقهيّ فيها على سبيل المثال لا الحصر، كون هذا الجانب يتعامل مع مسائل الوجوب والإباحة والمحرم، والعقل والنقل وطريقة الحصول على المعرفة.

من خلال عرضنا هذا لطبيعة الثقافة السائدة في عقولنا وتجذرها، لا بد لنا من ثورة ثقافيّة حقيقة لكشف أبعاد هذه الثقافة ومكوناتها وآليّة عملها والقوى التي تشتغل عليها وتساعد على استمراريتها وتعميقها وإعادة إنتاجها في عقول الموطنين بغية تحقيق أهداف يوجد وراءها قوى اجتماعيّة لها مصالحها الأنانيّة الضيقة. بيد أن هذه الثورة الثقافيّة التي نقول فيها، هي ليست ثورة مجرة من مكوناتها الاقتصاديّة والاجتماعية والسياسيّة، بل هي ثورة مركّبة من كل هذه المكونات.

س17: أ. مراد غريبي: لديكم مقاربات للإنسان بلحاظ التاريخ والتربية والثقافة والمواطنة، هل الأوهام التي ناقشتموها شكلت سياجاً دوغمائياً في صياغة الإنسان العربي المتخلف باسم الحاكمية؟

ج17: د. عدنان عويد: إن ما جئنا عليه قبل قليل بالنسبة لواقعنا المأزوم بثقافة شفويّة وبنى اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة متخلّفة، يشير وبكل وضح هنا إلى أن هذه التخلف البنيويّ محكوم ليس بحاكميّة أصوليّة دينيّة فحسب، بل هو محكوم بحاكميّة أنظمة وضعيّة شموليّة أيضاً، يضاف إليها حاكميّة التخلف المعيش بكل مفرداته، إن كان على مستوى العرف والعادة والتقليد، أم حاكميّة الكثير من القوانين الوضعيّة المطبقة على واقعنا الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ .

أقول: إن معظم ما قمت بطرحه من قضايا فكريّة وفلسفيّة وأدبيّة تتعلق بالحداثة ومفرداتها، إن كان على مستوى الوطن والمواطنة والانتماء والقوميّة والديمقراطيّة والعقلانيّة والعلمانيّة والاستبداد والدولة الشموليّة والليبراليّة وقيمها وما بعد الحداثة وطبيعة المجتمع الاستهلاكيّ ورأسماليّة الدولة الاحتكاريّة والثقافة والمثقف والمثقف العضويّ وغير ذلك ن قضايا تتعلق بتخلفنا ونهضتنا. فكلها تشير في الحقيقة إلى قضيّة أساسيّة هي: إن هناك واقعاً عربيّاً متخلفاً ومأزوما حضارياً، وقد تقدمت عليه الكثير من دول العالم وحتى المتخلفة منها، ونحن للأسف لم نزل كـ (بول البعير) نرجع إلى الوراء، وبطريقة يندى لها الجبين، فواقعنا أكثر ما يقال عنه، أنه يعيش تحت مظلة أنظمة استبدادية فاشيّة، ذات توجهات مرجعيّة طائفيّة أو قبليّة أو عشائريّة مأزومة، جوعت بعض هذه الأنظمة شعوبها وافقرتها، ودفعت الملايين منها إلى الهجرة وترك الأوطان، ليبقى فيها السفلة والمجرمون وتجار الوطن والدم والفقراء المعدمين الذين ليس لهم قدرة على ترك الوطن أو الدفاع عنه.

من هنا تأتي أهمية العمل على تغيير طبيعة الأنظمة السياسيّة القائمة، وبالتالي اصبحنا هنا بحاجة ملحة لثورة سياسيّة بعيدة عن العنف والعنف المضاد، فثورات الربيع العربيّ اثبت فشلها الذريع بسبب غياب الوعيّ الثوريّ لدى حملتها الاجتماعيين، وخاصة عندما استخدمت العنف ضد هذه الأنظمة المشبّعة بمعرفة كل أشكال العنف الناعم منه والقاسي، فمثل هذه الأنظمة بحاجة لحراك اجتماعيّ واعي لطبيعة النشاط السلميّ وبأن الحل يكمن في هذا النشاط، كي لا يترك مجالاً لقادة هذه الأنظمة أن يجعلوا من حراك المعارضة قوى إرهابيّة. إن رفع شعارات الديمقراطيّة والعلمانيّة والحداثة بوجه هذه الأنظمة سيجعلها ترضخ بالضرورة كونها مطالب حق، ولن تستطيع هذه الأنظمة اتهام دعاتها بالإرهاب أو الخروج عن القانون.3176 عدنان عويد ومراد غريبي

س18: أ. مراد غريبي: في مقاربتكم لفلسفة الحداثة وما بعد الحداثة أين الفخ وأي أمن ثقافي من شأنه توليد حداثة عربية منسجمة مع سلطة الدين في حياتنا؟

ج18: د. عدنان عويد: دعنا نعيد تعريف الحداثة وما بعدها هنا قبل الإجابة عن هذا السؤال الهام في مضمونة ودلالاته.

إذا كانت الحداثة في سياقها العام، هي كل جديد في حياة الإنسان أغرزته بالضروة طبيعة العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة أثناء تطورها وتبدلها، إن كان هذا التطور والتبدل قد جاء بفعل داخليّ أو خارجيّ، وبالتالي سيجد هذا الجديد مجالاً حيويّاًّ له، وتقبّلا عند أبناء هذا المجتمع أو ذاك بسلبه وإيجابه. فإن ما بعد الحداثة هي نمط حياة تمثله الدول والمجتمعات الغربيّة بشكل عام وأمريكا بشكل خاص. فبعد انتهاء الحربين العالميتين وما تركته من دمار ماديّ وقيميّ على حياة الفرد والمجتمع الأوربيين، راحت تتجذر بشكل أكثر فاعليّة مسألة الضياع الإنسانيّ بعد أن ساد النظام العالميّ الجديد بقيادة الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة - وما تمثله من قيم السوق (الربح) على كافة مستويات الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، حيث راح الإنسان ذاته يُسلع في هذا النظام، ومع تسليعه وتشيئه واستلابه وتغريبه روحيّا وجسديّا، أدخلوه بالضرورة في عالم اللامعقول، فالحياة تحت مظلة هذا النظام التي أخذ يعبر عنها فلاسفة ما بعد الحداثة، لم يعد لها معنى أو حيويّة، حيث تبين أن كل قيم الحداثة الداعيّة إلى الحريّة والعدالة والمساواة والمواطنة ودولة القانون وغيرها قد تلاشت ولم تعد صالحة أو أثبتت فشلها، وبذلك تحولت الحياة كلها إلى عبث، وراحوا يؤكدون على موت القيم والدين والفن والأدب والكتل الاجتماعيّة، ليسود عالم من التذرير الاجتماعيّ، وليظل الفرد وحده سيد هذا الوجود، فكانت الوجوديّة بشقيها الماديّ والمثاليّ، وسادت العدميّة والعبثيّة دون أي ضابط أخلاقيّ. ومع سيادة هذه القيم راح يتذرر الإنسان ويتنمذج وفق ما يريده أصحاب الرأسمال المتوحش الذين يديرون سياسات العالم، بحيث لم يعد لهذا الفرد المنمذج (أي لون أو رائحة أو طعم، إلا لون ورائحة وطعم ما يريده إعلام وسياسة وثقافة وفن وأدب كباتنة الرأسمال المتوحش المتحكمين بالنظام العالميّ.

على العموم نستطيع القول: إن الحداثة قد انطلقت برأيي من أساسين اثنين هما: أساس طبيعيّ فرضته طبيعة حياة الإنسان الذي يبحث دائما عن حريته وتأمين حاجاته الماديّة والروحيّة، وهذا ما جعله يسعى في مناكبها كي يكتشف أسرارها ويسخر ما يستطيع تسخيره في هذا الحياة بشقيها الطبيعيّ والاجتماعيّ لمصلحته، وقد استطاع فعلاً أن ينجز الكثير في هذا المجال على المستويين الماديّ والفكريّ. فمن اختراعه للفأس الحجريّة وصولاً إلى اختراعاته بمستوياتها العليا في مجال التكنولوجيا، ومن اكتشافه للحرف وصولاً إلى مستويات عليا أيضا في التفكير واستخدامه في مجالات الفلسفة والفن وادلأب وكل مجالات العلم. هذه هي الحداثة والتجديد - على اعتبار أن كلاهما وجهان لقضيّة واحدة في نسقها الأول.

أما الحداثة في نسقها الثاني: فهي الحداثة التي شكلت نظام حياة، وقد تجسد عبرها جملة من التحولات الماديّة والفكريّة بقيادة طبقة جديدة هي الطبقة التجاريّة في بدايتها، التي شكلت بدورها مع بداية القرن الخامس عشر الحركة الأنسيّة في الحداثة في مدن إيطاليا التجارية (فلورنسا والبندقيّة)، ثم ظهرت الطبقة الرأسماليّة الصناعيّة التي تحولت تاريخيّاً من طبقة تقدميّة كانت وراء عصر التنوير في القرن الثامن عشر، إلى طبقة استغلاليّة مارست وتمارس القهر على شعوبها وشعوب العالم الضعيفة والمتخلفة ومنها وطننا العربيّ منذ ظهور المرحلة الإمبرياليّة وصولاً إلى المرحلة الرأسماليّة الاحتكاريّة ونظامها العالميّ الجديد.

نقول: إذا كانت الحداثة هكذا هي في سياقها التاريخيّ، فالسؤال المشروع الذي يطرح نفسه علينا هنا هو: أين نحن من الحداثة وما بعدها؟.

لا أحد ينكر أن العرب عبر امتدادهم التاريخي قد أوجدوا حضارات كبيرة لها عمقها التاريخيّ وتجلياتها الماديّة والروحيّة في بلاد الشام وبين النهرين وإفريقيا ومصر. ولكن هناك قطع تاريخيّ كبير قد حدث في مسيرة هذه الحضارات، حيث تحولت معالمها اليوم إلى مناطق سياحيّة يجوبها عشاق السياحة في العالم، أما الذي ساهم في تحقيق هذا القطع، فهي الحروب التي كانت تدور بين دولها قبل التاريخ من جهة، ثم سيطرة الرومان واليونان والفرس عليها وطبعها بميسمها من جهة ثانيّة، وأخيراً وهذا هو المؤسف حقاً، هو ظهور الإسلام بعظمته وسيطرة قوى اجتماعيّة ذات عقليّة بدويّة على مقاليد أموره وبالتالي إدخاله في عالم القبيلة والغنيمة أولاً، ثم ممارسة الاستبداد على الشعوب التي خضعت له روحيّاً وجسديّاً في المناطق التي انتشر فيها من قبل طبقة سياسيّة ذات عقليّة بدويّة فقدت منذ البداية قدرتها على فهم هذا الدين العظيم ومقاصده ثانياً، كما فقدت بالتالي سيطرتها على أمور قيادة الدولة والمجتمع والخضوع لقوى غريبة هم من أدخلوها السلطة، وراحوا فيما بعد بسبب صراعاتهم على هذه السلطة أن يتحكموا بهم وإيصال حلفائهم من الخلفاء إلى ببغاوات ينفذون ما يأمرهم به البويهيّ والبرمكيّ والسلجوقيّ وغيرهم.

إذن نحن قي عالمنا العربيّ فقدما زمام مقومات الحداثة في نسقها الطبيعيّ الذي أشرنا إليّه أعلاه، وإن بقي لدينا بعض من مقومتها فقد هُجرت بالقوة إلى سمرقند واستانبول وغيرها من عواصم الدول الغازيّة التي حكمتنا مئات السنين باسم الإسلام. الأمر الذي جعل الباحث الجبرتي يذكر في كتابه (تاريخ الجبرتي) عن مفردات بعض الحضارة الغربيّة التي دخلت مصر مع حملة بونابرت:( ولهم فيها أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا). أو كما يقول الطهطاوي بعد عودته من فرنسا: ( بأن هناك خمسة عشر علما تقوم عليها الحضارة في الغرب نحن نفتقد إليها في مصر، وسماها بالعلوم البرانيّة، أذكر منها: علوم التربيّة التي يدخل فيها الحساب والهندسة والجغرافية والرسم، وعلم تدبير العلوم كالحقوق الطبيعيّة والحقوق البشريّة والحقوق الوضعيّة، وعلم الاقتصاد كالمصارف وتدبير المعاملات والمحاسبات وحفظ بيت المال، وهناك العلوم العسكرية والبحريّة، وعلم السفارات، وفن المياه، وعلم الميكانيك وهندسة العمارة، وفن الرمي بالمدفع، وفن سبك المعادن، وعلم الكيمياء وصناعة الورق، وعلم الغلافة، وعلم الطبيعيات، وعلم الطباعة وفن الترجمة). هذا في مصر ذات الحضارة الفرعونيّة، فماذا عن حضارات المشرق العربيّ كالآراميّة والفينيقيّة والبابليّة والسومرية والأكديّة.؟. فهذا الكاتب النهضويّ "أحمد فتحي زغلول" يوصف حالة المشرق العربيّ المزريّة عام 1899 فيقول: (نحن ضعفاء في كل شيء تقوم به حياة الأمم، متأخرون في كل شيء عليه مدار السعادة .. ضعفاء في الزراعة.. ضعفاء في الصناعة.. وليس منا إلا الفعلة والعتالون ومنفذوا إرادة الأجنبي ليبقى هو ونموت نحن، هذه المعامل الفسيحة والمصانع العظيمة التي أقيمت بين بيوتنا كلها للأجنبيّ. ثم يتابع قوله: نحن ضعفاء في التجارة والعلم، اللهم إلا علم مداره جهل حقائق الأشياء في الوجود، أما المفيد منه فقد اقتصرنا منه على ما يختص بعلاقة الأنسان مع ربه، والباقي حكمنا عليه بالإعدام.).

هذا ويجب أن نشير هنا إلى دور التقسيم الدوليّ للعمل وتأثيره على دول المتروبول ومنها وطننا العربيّ. حيث كان لهذا التقسيم آثاراً سلبية انعكست على حياتنا حيث وصفها أحد الأوربيين المقيمين في لبنان في نهاية القرن التاسع عشر بقوله: (إن مخازن هذه المدينة مليئة بالسلع من مصانع أوربا وأمريكا، ويكاد السائح يجد في كل شارع من شوارعها سلعاً وبضائع من جزر الهند الغربية... أقمشة قطنية من انكلترا... وأجواخ من مانشستر... أقمشة اسكوتلىنديّة.. حرائر فرنسيّة.. ومناديل سويسريّة.. والذين يعرفون كيف كانت بيروت من سنة 1835 – إلى 1855. فهي أشبه بالفرق بين منتصف الليل ومنتصف النهار.). وهذا الوضع الاقتصاديّ تحت مظلة التقسيم الدوليّ للعمل دفع المفكر النهضويّ "نسيب شبلي" يكتب عام 1886عن الوضع الاقتصاديّ في البلاد العربية ومنافسة الاقتصاد الغربيّ له قائلاً: (يكاد المال أن يفرغ من يد أبناء البلاد، وما ذلك إلا لقاء سلع الأجانب علينا، ولا نرى ندحة من اقتنائها. ثم يتساءل: أين محصولاتنا؟. أين صناعاتنا؟. أين المواشي؟. أين المعامل؟. أين المصانع؟. أين الزراعة؟. أين كل أساليب التمدن؟. هذه كلها أسئلة يخجل المتكلم عن الجواب عليها.).

أمام هذا التردي العربيّ حضاريا مقارنة بالحضارة الغربيّة الغازيّة، تأتي دعوة المهندس الفرنسي "جومار" الذي وقف أمام البعثة الدراسيّة المصريّة التي أوفدها "محمد على باشا" إلى فرنسا خطيباً أثناء تخرجهم قائلاً: (أمامكم مناهل العرفان فاغترفوا منها بكلتا يديكم، اقتبسوا من فرنسا نور العقل الذي رفع أوربا على أجزاء الدنيا. وبذلك تردون لبلدكم منافع الشرائع والفنون التي ازدان بها عدة قرون في الأزمان الماضيّة، فمصر التي تنوبون عنها ستسترد بكم خواصها الأصيلة).

نعم إن دعوة "جومار" هذه، كانت دعوة لتبني الحداثة الغربيّة كنظام حياة وقد تبناها الكثير من الكتاب والمفكرين العرب من الطهطاوي مروراً بشبلي شميل وفرح انطون وأديب اسحق ومحمد عبده وسلامة موسى وطه حسين وكل المفكرين التنويريين اللاحقين من الجابري والعروي والتيزيني وجلال صادق العظم ومحمود أمين العالم وزكي نجيب محمود وحسن حنقي وغيرهم الكثير، ممن حمل لواء الحداثة على المستوى الفكريّ والعمليّ، بيد أن طبيعة الأنظمة الاستبداديّة التي تسيطر على حياة البلاد والعباد حالت دون تحقيق النهضة الحداثيّة، وحاصرت الفكر التنويريّ العقلانيّ، لتفسح في المجال واسعاً أمام الفكر الظلاميّ الأصوليّ الذي يعمل على تجهيل الشعب وإبعاده عن التفكير العقلانيّ بواقعه المعيش، وربط تفكره بالله واليوم الاخرة وعذاب القبر وناكر ونكير والجنة والنار وحور العين وأنهار الخمر والعسل وأرائك الاستبرق.

إذا كان هذا هو واقع الحداثة في علمنا العربي فما هو واقع ما بعد الحداثة.

إن من يتابع الحركة الفكريّة الفلسفيّة منها، والفنيّة والأدبيّة بشكل عام على الساحة الثقافيّة العربيّة، يجد الكثير من المفكرين والفنانين والأدباء قد انساق وراء تيار الحداثة وما بعد الحداثة، محاولين بشكل مباشر أو غير مباشر الاستفادة من هذه النظريات أو الأفكار، بأساليب ومفاهيم فكريّة جديدة تنتمي لهذه المدارس الفكريّة وامناهجها ، وخاصة الما بعد حداثويّة، أملا في تجاوز أزمة الواقع العربيّ المتردي في معطياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة. حيث أعطوا الأهميّة الكبرى لمضمون النص المقتبس من الغرب، أدبيّاً كان أو فنيّاً أو فلسفياً، بعد عزله عن محيطه، وجملة ملابساته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة، على اعتبار أن هذا النص له عالمه الخاص به، وحركته وسياقاته التي تتم من داخله فقط، ولا تأثير عليه من المحيط الذي ينوجد فيه، أو ما يساهم في إنتاجه بالأصل.

إن هذا التوجه المنهجي التفكيكيّ أو البنيويّ، جاء برأي، عند هؤلاء المتبنين لمناهج ما بعد الحداثة، إما هرباً من عقاب السلطات الحاكمة المستبدة والشموليّة لكل من يحاول توصيف وتحليل أزمة الواقع  المعيش عقلانيّا، وبالتالي إظهار أسباب أزمته وتخلفه، أو جاء نتيجة غياب للرؤية العقلانيّة النقديّة لديهم، وسيادة نزعة التقليد والتجريب، دون وعي أو إدراك للأسباب التي أدت إلى ظهور هذه المناهج في أوربا.

نقول: إن معظم محاولة التجديد التي تأتي من الحداثة أو ما بعدها مهما كانت طبيعتها، ولا تقوم على المستلزمات الأساسيّة لتطور المجتمع والدولة معاً، والسير بهما نحو التحرر والتقدم وفقاً للحاجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي تتطلب بالضرورة تحطيم أو إقصاء ما أصبح تقليديّا ومترهلاً ومتخلفاً منها، والفسح في المجال لبناء بنى جديدة أكثر ملاءمة وحيويّة لخصوصيات العصر، إنما هي في الحقيقة محاولات تجديد مفتعلة أو منفصلة عن سياقها التاريخيّ مهما كانت نيات حواملها الاجتماعيين،

أي هي حداثة دائرة في فراغ، ومفضيّة إلى فراغ، وبانتظارها فراغ جديد. وبالتالي هي اتجاه حداثيّ مغترب، لا يلامس الحالة الوطنيّة، ولا يقارب الواقع الموضوعيّ الملموس، أو المعيش. وهذا ما يجعلها ثقافة نموذجيّة للعقليّة الثقافيّة الزائفة التي تحاول بوعي أو بدونه، تخليد حالات الانفصال بين المثقف العربيّ والحاجات الضروريّة الملموسة لشعبه. الأمر الذي يجعل هذه الثقافة تعمل على تكريس وضعيّة اجتماعيّة معينة تخدم قوى اجتماعيّة وسياسيّة أو طبقيّة معينة ذات مصالح أنانيّة ضيقة في الغالب.

إذن، من هنا علينا أن نبين عمليّة الخلط ما بين الحداثة وما بعدها... ما بين الحداثة كتوجه عقلانيّ نقدي تفرضه الضرورة التاريخيّة لمسيرة المجتمعات نحو تقدمها ونهضتها، وهي فعل إيجابيّ يراعي خصوصيات الواقع دون الخضوع المطلق لهذه الخصوصيات بطبيعة الحال، وبين الما بعد حداثة، كتوجه حداثيّ سلبيّ يقفز فوق الواقع وخصوصياته، بغية تحقيق مصالح معينة تقوم على دوافع ذاتيّة إرادويّة بعلم حاملها الاجتماعيّ لخطورة هذا التوجه أو بدون علمه. لذلك أن الموقف المنهجيّ العقلانيّ النقديّ والأخلاقيّ معاً، يتطلب منا أن نكشف الأبعاد الحقيّقة لهذا النمط من الخلط المنهجيّ بين الحداثة وما بعدها وتحطيمه. فما قيمة الأدب والفن والفكر عموماً، إذا لم يعبر عن قضايا وهموم الفرد والمجتمع، أو ما قيمة أدب وفن وفكر يبحت عن وجود الإنسان في عالم الميتافيزيقا أو الغيبيات، أو عالم البنى الثقافيّة التقليديّة، أو تحت مظلة التخيل والتأمل السلبيّ، ملغيّاً الحاضر تحت ذريعة البحث عن المستقبل.. أي عن زمن غير زمننا ولا يلامس قضايانا ومشاكلنا، ووضع الحلول لها، في الوقت الذي تعاني منه مجتمعاتنا الجوع والقهر والظلم والتشيىء والاستلاب والضياع والغربة.

إن البحث عن واقعنا في تلك العوالم الفكريّة والأدبيّة والفنيّة المفارقة للواقع المعيش، هو ليس أكثر من البحث عن حداثة أو ما بعد حداثة الاغتراب الماديّ والقيميّ معاً، وبالتالى هذا ما يجعلنا نعيش فقط في سحر الكلمات وتراكيبها، وصورها الفنيّة وألوانها، وعالم أوهام شعر وأدب خالٍ من أي مضامين إنسانيّة سوى مضامين الدهشة التي تنتهي بانتهاء قراءتنا أو مشاهدتنا لتجلياتها. أي عالم الفن من أجل لفن وليس من أجل المجتمع.

س19: أ. مراد غريبي: الحياة العربية على ضوء دور الدين فيها تثير موضوعا جدليا في قبال الديمقراطية، أقصد الشورى، ماذا عن المواطنة في ظل مقتضيات أو شروط الشورى؟

ج19: د. عدنان عويد: دعنا بداية نتعرف على الديمقراطيّة والشورى.

الديمقراطيّة:

هي المشاركة الشعبيّة في قيادة الدولة والمجتمع، واحترام الرأي والرأي الاخر، وهي الاقرار بالمساوة بين الجنسين، وهي التعدديّة وتداول السلطة، وهي في المحصلة إلغاء كل حالات التمايز السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة من أجل سيادة المواطنة. والديمقراطيّة من جهة أخرى ليست شكلاً فحسب تتجسد في صناديق الاقتراع.. الديمقراطية جوهر.. وجوهرها تنمية الإنسان والعودة به إلى مرجعيته الإنسانيّة التي استلبت منه تاريخيّاً بفعل ضياعه في منتجاته داخل علاقاته الاجتماعيّة الاستغلاليّة من جهة، وبفعل القوى التي مارست عليه الاستبداد والاستغلال والتجهيل والضياع من جهة ثانية.. فالديمقراطيّة إذن هي مشروع إنسانيّ هدفه الإنسان، ووسائل تطبيقه في المحصلة هو الإنسان نفسه، ونقصد بالإنسان هنا، من يبحث عن إنسانيته الضائعة والمستلبة والمشيئة والمغتربة عبر الديمقراطيّة. هذا وللديمقراطيّة أساليب إدارتها ولها قيمها أيضاً.. فأساليب عملها هي المؤسسات التي تديرها إدارات محليّة ومجالس نيابيّة ودساتير، ومؤسسات إداريّة، وتمثيل شعبيّ، وصناديق اقتراع ...الخ. أما قيمها فهي السمات والخصائص الأخلاقيّة والقيميّة التي يتمتع بها مجتمع من المجتمعات أو أمّة من الأمم وبالتالي على المشروع الديمقراطيّ أن يراعي هذه الخصوصيات القيميّة عند كل مجتمع من المجتمعات، ولا نقوم بنقل تجارب ديمقراطيّة لأمّة ما إلى أمّة أخرى، ولكن علينا أن نستفيد من تجارب تلك الشعوب او الأمم إذا كانت تتوافق وواقعنا المعيش وقيمنا.

من هنا نقول: إن الديمقراطّيّة صيغ وليست صيغة واحدة صالحة لكل زمان ومكان.

أما الشورى:

فهي مشروع لتداول الرأي في قضايا تهم الفرد والمجتمع، أمر بها النص القرآنيّ بآيتين هما (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (- آل عمران159). (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38- آل عمران).

وهي في المصطلح، الوجه الآخر للديمقراطيّة، إلا أنها ظلت محكومة في فهم وتفسير القرون الوسطى لها، وبالتالي لم تحدد لها آليّة عمل أو وسائل تطبيق كما هو الحال في الديمقراطيّة، مع تأكيدنا بأن هناك رؤى إسلاميّة راحت تعمل على إعادة قراءة الشورى بفهم معاصر من حيث ألّيّة عملها ودور ومكانة الإنسان في تقرير مصيره عبرها كما هو الحال في الفهم الإخواني المعاصر لها، او فهم الثورة الإسلاميّة لها. ولكن ظلت آلية عمل الشورى محكومة بالنص المقدس وتشريعاته، وبالتالي هذا ما يحد من فتح آليّة عملها من قبل الإنسان كسيد نفسه ومن حقه أن يحقق مصيره وحياته وسبل عيشه وفقاً لرغباته لا وفقاً لما يريده النص المقدس.

أما بالنسبة لقضية المواطنة، فالديمقراطيّة تركز على مسألة الوطن والمواطنة، واعتبارهما هما المنطلق لتحقيق العدالة والمساوة والأمن والاستقرار ودولة القانون والمؤسسات الخاصة بشعب محدد أو أمّة محددة.

أما بالنسبة لموقع المواطنة في الخطاب الإسلاميّ بشكل عام والشورى من ضمن آليّة عمل هذا الخطاب، فهي تتجاوز بنية الوطن وبالتالي المواطنة، ففي الشورى هناك مسلم وليس سوريّاً أو مصريّاً أو عراقياً أو عربيّاً... الخ. لذلك هي تعتبر غير المسلم في الدولة الواحدة ذميّاً له حقوقه وعليه واجباته التي تختلف إلى حد كبير عن حقوق وواجبات المسلم، هذا من جهة. في الوقت الذي تعتبر فيه أرض الإسلام هي أرض كل مسلم ولا تمتلك هذه الأرض حق التخصيص لهذا الشعب أو ذاك أو لهذه الأمّة أو تلك غير الأمة الإسلاميّة، وعلى هذا الأساس فهناك داران في الخطاب الإسلامي، دار كفر ودار إيمان. من هذا المنطلق يفقد الوطن جذوره الجغرافيّة والسياسيّة، مثلما تفقد المواطنة سماتها وخصائص الوطنيّة أو القوميّة. وهذا ما اشتغل عليه الإخوان والقوى السلفيّة الجهاديّة ومشروع الثورة الخمينيّة في إيران ومن يواليها في العالمين العربيّ والإسلاميّ.

س20: أ. مراد غريبي: كيف تقرأون تمثلات الإسلام السياسي عربيا في الخمسين سنة الأخيرة وماذا عن حركة التاريخ في ذلك كله؟

ج20: د. عدنان عويد: إن من يتابع الحراك الفكريّ والسياسيّ في الخمسين السنة الماضية، يلمس وبكل وضح ذاك التوجه المحموم نحو شعار أو مقولة (الإسلام هو الحل)، وارتباط هذا الشعار بفكرة الحاكميّة التي بينا دلالاتها في موقع سابق من إجاباتنا، فمنذ سبعينيات القرن الماضي بدأت تظهر على الساحة العربيّة نشاطات دينيّة تدعوا إلى ضرورة العودة إلى الإسلام بعد أن فشل الحكام العرب في تحقيق انتصارات حاسمة، إن كان على مستوى القضية الفلسطينيّة، أو على مستوى مشاريعهم الوطنيّة أو القوميّة باسم الاشتراكيّة أو القوميّة، على حياة الدولة والمجتمع، فهناك زيادة في نسبة الفقر والهجرة ورفض تداول السلطة ومحاربة الرأي والرأي الآخر، واختزل الديمقراطيّة والعلمانيّة بشعارات على مقاس القوى الحاكمة، وتكريس المرجعيات التقليديّة في السلطة وحتى داخل الأحزاب التي تدعي العلمانيّة. فمن هذه الوضعيّة المتردّية جاء التوجه الإسلاميّ المحموم الذي ساعد على تنشيطه قيام الثورة الإسلاميّة في إيران، وبدء تحرك الإخوان المسلمون من جديد تساندهم الثورة الخمينيّة، مثلما راحت بعض الأنظمة العربيّة تتناغم مع التيار الإسلاميّ عبر مؤسساتها الدينيّة محاولة الالتفاف على هذا التيار كما جرى في العراق وسورية ومصر وليبيا، ولكن من اعتمدت عليهم مشايخ ورجال دين كانوا أذكى من هذه الحكومات، ففي مصر قتلوا السادات، وفي العراق انهوا نظام صدام وكذلك الحال في ليبيا، وفي سوريّة ظهرت العشرات من فصائلهم المسلحة التي حملت السلاح بوجه الدولة.

لاشك أن دعاة التيار الإسلاميّ قد فشلوا حتى اليوم في مشروعهم الذي قاتلوا من أجل إقامته، والذي تجلى واضحاً في ما سمي بثورات الربيع العربيّ، وقد صفيّ جسديّاً الكثير منهم، وكان لتوجاتهم السياسيّة غير العقلانيّة التي لم تراع خصوصيات الواقع ولا التطور الزمني الذي حدث في بنيتي الدولة والمجتمع العربيين، ثم لعدم معرفتهم الحقيقيّة بطبيعة الأنظمة الحاكمة وآليّة عملها، فكل ذلك انعكس سلباً على دعاة هذا التيار، وعلى الدول والمجتمعات التي تحركوا فيها، ودفع الجميع الثمن باهضاً, وأرجاع البلاد والعباد مئات السنين إلى الوراء.

س21: أ. مراد غريبي: كيف يمكن لاهتمامك بالمجتمع المدني أن يفيدك في فهم ما يصلح للإنسان العربي وحياته المستقبلية؟

ج21: د.عدنان عويد: دعنا نتعرف على مفهوم المجتمع المدنيّ أولا، فالمجتمع المدنيّ في سياقه العام، هو المجتمع الذي تجاوز في علاقاته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، مجتمع العشيرة والقبيلة والطائفة، وهو المجتمع الذي راح يُحكم بالقانون ودولة المؤسسات، ولم يعد يحكم بالعرف والعادة والتقليد. وهو المجتمع الذي أصبحت فيه المواطنة جوهر العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة، وبين الفرد والمجتمع والدولة من جهة ثانية، وهنا تلغى التراتبيّة في تحديد طبيعة هذه العلاقة من الناحيّة الاجتماعيّة والسلطويّة والاقتصاديّة، داخل المجتمع المدني، كما تسود في هذا المجتمع الثقافة العقلانيّة التنويريّة التي تركز على القيم الإنسانيّة واعتبار الإنسان سيد قدره ومصيره، لا ثقافة النقل والمطلق وتقديس الأفكار والأشخاص والثبات والسكون والتحجر والشكلانيّة. أو بتعبير آخر إقصاء ثقافة الأموات والهروب من الدنيا والتفكير بعذاب القبر والبحث عن حور العين وأنهار السمن والخمر والعسر وحور العين, أي تكريس ثقافة الأموات.

أمام هذه المعطيات المتعلقة بمفهوم المجتمع المدنيّ، يطرح السؤال التالي نفسه علينا وهو: أين واقعنا العربيّ بكل مستوياته أو مكوناته من هذا المجتمع؟.

لا شك أن الاجابة ستكون، بأننا بعيدون كثيراً عن عالم هذا المجتمع، ونحن لم نصل إلية في علاقاتنا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، لا على مستوى حياة الفرد أو المجتمع أو الدولة. نحن لم نزل نعيش حياة المجتمعات التقليديّة المشبعة مرجعياتها التقليديّة، وسياستها القائمة على عقليّة البطل الملهم إن كان داخل بنية العشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو الطريقة الصوفيّة أو الحزب أو قيادة الدولة. أما دولنا فهي دول ما قبل الدول، دول تمثلت في الشكل مهمة الدولة الحديثة، من حيث مؤسساتها وعلمها ودساتيرها وحتى صناديق انتخاباتها، ولكنها في الجوهر بعيدة كل البعد عن جوهر الدولة المدنيّة. فالدساتير في مضامينها النظريّة عند الكثير من دولنا العربيّة مليئة بمفاهيم الحريّة والعدالة والمساواة ودولة القانون والمواطنة، ولكنها في التطبيق بعيدة كل البعد عن هذه المضامين، حيث تتجلى في الممارسة سياسات القهر والظلم والاقصاء والاستبداد والتحكم بالسلطة ومحاربة المختلف، وعلى مستوى البرلمانات، تجري بطريقة تسويقيّة محددة نتائجها سلفاً, إما عن طريق التعيين من قبل الحاكم بأمر الله، أو تجري بطريقة ديمقراطيّة صوريّة مدروسة وموجهة لخدمة الحاكم بأمر الله أيضاً. أما على مستوى الاقتصاد فهناك أنماط متعددة للإنتاج يغيب فيها وضوح الخط الاقتصاديّ، فلا هو اقتصاد سوق رأسماليّ، ولا هو اقتصاد سوق اشتراكيّ، بل هو اقتصاد سوق هجين يعمل على خدمة القوى البرجوازيّة البيروقراطيّة التي تتحكم بالمواقع السياسيّة والإداريّة الهامة في الدولة ومن يدخل في نطاقها وخدمة لها من البرجوازيّة الطفيليّة في المجتمع. هذا عدا عن كونها لم تزل محكومة سياسيّاً وفكريّاً بأيديولوجيات أثبت الزمن فشلها وعدم قدرتها على مجاراة حركة الواقع، لذلك نجد أن حواملها الاجتماعيين من رجال دين أو رجال سياسية وضعيين عملوا وبشكل قسريّ على ليّ عنق الواقع كي ينسجم مع أيديولوجياتهم المفوته حضاريّاً.

هذا غيض من فيض التردي والتخلف في واقع دولنا ومجتمعاتنا، لذلك لا بد لنا من طرح رؤى وافكار واتخاذ سلوكيات تجاري الواقع من جهة، وتعمل على تغييره دائما لمصلحة الفرد والمجتمع من جهة ثانية. فنحن بحاجة لفكر عقلانيّ بعيد عن الفكر الأيديولوجيّ الجامد والمتحجر... نحن بحاجة لرؤى فكريّة سياسيّة واقتصاديّة وقانونيّة وإداريّة ومجتمعيّة تطابق واقعنا وتراعي خصوصياته، وهذا لن يتحقق إلا من خلال حوامل اجتماعيّة مؤمنة بوطنها وشعبها ومصالحهما، وهي تستطيع من خلال وصولها إلى السلطة عن طريق الشعب، وبوسائل انتخابيّة نزيهة، على إدارة شؤون البلاد والعباد لإخراجهم من مازق التخلف البنيويّ الذي هم فيه، وبالتالي محاسبة من يفشل في تحقيق هذه المهمة وإقصائه. وهذا الأمر لن يأتي بالنوايا الحسنة ولا بالدعاء وكثرة السجود، فلا بد من حراك شعبيّ غير حراك ما سمي بثورات الربيع العربيّ التي مارست حوامله كل موبقات الثورات، فكانت النتيجة كره الشعب للثورة وللديمقراطيّة وللحريّة، لتعود بعض الدول العربيّة كمصر وتونس والجزائر إلى حكم العسكر من جديد بعد ان أسقطت هذه الثورات أنظمتها الشموليّة.. نحن بحاجة لثورات شعبيّة معقلنة لا تستخدم السلاح والعنف السلبيّ، نحن بحاجة لثورات سلميّة تحاصر القوى المستبدة المتمسكة بالسلطة حتى ترضخ لمطالب الشعب العقلانيّة.

 

حاوره: الأستاذ مراد غريبي - صحيفة المثقف

14 – 1 – 2022

 

في المثقف اليوم